لستُ متأكداً من أنّ ما يكتبه الروائي / الشاعر صبري هاشم سوف يصل إلى قاعدة واسعة من جمهور القرّاء لكنني أجزم بأنه سيصل إلى نخبة تعاني هي الأخرى من طرائق البناء الروائي التي يتّبعها الكاتب ومن بعض التراكيب اللغوية المستخدمة وكذلك من شعرية مفرطة في اللغة تشكل معظم المتن الروائي .
الشعرُ بأشكاله المختلفة في لغتنا العربية عندما يُكتب ويُقرأ بإيقاع صحيح يبدو جميلاً ، وما يثير اهتمامي كقارئ أن الروائي والشاعر العراقي صبري هاشم لا تفوته هذه القاعدة في إصداره الروائي الذي قرأتُ بعضاً منه ، حيث أكتشف دائماً أنه هو الأخر جميل الإيقاع لا يخلو من شعرية مفرطة والتزام تام بقواعد اللغة والبحث في خفاياها . وعندما اهتديت مؤخراً إلى قراءة روايته الجديدة التي صدرت في منتصف حزيران من هذا العام والموسومة ” قيثارة مَدْيَن ” عن دار كنعان لم أفاجأ بغير هذا الأسلوب. الجديد في الأمر أن الناشر أستعمل هذه المرة حرفا ً جميلاً وورقاً قصّبي اللون، ينسجم كلياً مع النص الروائي، ولا أعرف هل كان محض صدفة أم كان مقصوداً من أجل إضفاء نوع من التناسق بين الشكل والمضمون. ما لفت انتباهي أيضاً وأنا أتصفح الرواية من نهايتها قبل القراءة كما تعودت دائماً هو التعريف بالكاتب الذي جاء مقتضباً على النحو التالي: عن المؤلف: صبري هاشم روائي وشاعر عربي من العراق، ولد في مدينة البصرة جنوبي العراق . انتهى التعريف.. لكن هذا المبدع في فضاء غير فضاء وطنه المطعون في الصميم ، يستحق أكثر من هذا الاستعراض المتواضع . وعلى الرغم من هذا الإيجاز في تقديمه والتعريف به بـعبارة “عربي من العراق” لكنه بدا مقبولاً من وجهة نظري، هذا الانتماء على اختزاله وحصره في جملة كهذه ، يبقى فعله الإبداعي، مَن يثأر لمقامه وموقعه، إلزاماً. أما ما لم أغفله هو النص القرآني الذي أستعمله في مقدمة الرواية كشاهد على إرث بشري سوّغ للظلم والتآمر منذ الأزل حيث تناسب مضمون الآيات الكريمة كمصدر مهم لفهم المحيط الفكري والسياسي الذي بمحاذاته ذهب الكاتب في سرد أحداث الحرب على العراق وكأنه يُؤرخ للأجيال.
إن استخدام الميثولوجيا ضمن سياقات السرد الروائي، أسس لصياغات ذات أهمية حقيقية. حيث وفق الكاتب في بيئة جماليات أسلوبه إلى تنسيق المعارف الموروثة والحِكم والأمثال أو العبارات والجمل القديمة مع روح النص من ناحية الشكل أو النوع، على قاعدة ” ايراسموس فون روتردام”. وبذلك جعل الحدث بزمانه ومكانه وشخوصه، يتلاقح مع فكر “فيلهلم ديتلي” عندما أشار في كتابه “جوهر الفلسفة das Wesen der Philosophie” إلى أهمية مراجعة البحث في التأريخ لمعرفة الحقيقة، وأكد على أن الوصول إليها لا يحظر دغدغة “العواطف” التي لها خصوصية تعبيرية يقول إنها بمنتهى “الجمالية” كونها شكل من أشكال التحريض.
تناول الكاتب ثلاث محاور أساسية: أولاً جعل المنفى “المهجر” ،محيطه الخاص والأقرب، عاملاً هاماً، لنقل وقائع “الحرب” كما رآها ساعة الحدث عن بعيد. ثانياً جسد بطل الرواية بشخص حمدان الخصيبي كرمز هام يسلط الضوء على الحرب وما آلت إليه من احتلال ودمار وويلات، دون أن يكون له أي دور مؤثر غير إلقاء المحاضرة:ـ سأقنع حمدان الخصيبي أن يلقي “محاضرة” عن الحرب وربما عن الغزو.. مع نفسي تساءلت: عماذا سيتحدث هذا الماركسي الجميل؟ لا أدري كيف انزلقت قدماه مبكراً نحو الشيوعية وهو المحب لجمال عبد الناصر القومي العربي؟. ثالثاً أثار الكثير من الأسئلة حول سلوكية أبناء العراق، بنفس القدر الذي شكك في رغبتهم لمواجهة الغزاة والدفاع عن بلدهم، في كافة العصور، كما يشير في أكثر من تعليق وانتقاد. ولا نعلم إن كان متعمداً أم متمرداً لإثارة هكذا مواضيع تراجيدية بطريقة مجازية عامة:ـ الآن علمتُ أن العراق بلا بشر تدافع عنه.. كيف فاتني هذا والتأريخ لم يحدثنا يوماً عن دفاع سكان العراق عن أرض العراق؟.. في آخر:ـ أجل، مَن لم يعش المنفى ويعرف أهوالَ الغربة لا يعرف حقيقة البشر من أبناء العراق على مختلف قومياتهم وطوائفهم، في المنفى تتكشف الحقائق حين تتكشف النفوس وتخرج نتانةُ ريحهم كأقوام وطوائف ضئيلة لا تكنُ للعراق غير العداوة والبغضاء. لقد خلفتُ المنافي ورائي حين تضاعفت وحشتها وصارت الغربة عليَّ مركبةَ الألم “ص 11”
ويبدو أن الكاتب صبري هاشم قد اهتم في جميع كتاباته لاختيار عينات نادرة “Essai” زينتها براعة المقال وبلاغة اللغة مع التركيز على الجوانب الثقافية والاجتماعية، لكنه أصر في روايته الجديدة على كشف الظواهر السياسية بشكل صارم مع المحافظة على منهجية النص واستخدام معايير السرد بشكل مرادف كما يقول على لسان بطله: سأكتب تأريخاً مغايراً لا كما يكتب الأقوياء المنتصرون.. ولم يحزم الأمر لأن يجعل النص يسمو أدبياً وفنياً وحسب كقول مسعد لثريا : لا تخافي فالفراتُ على حاله لم يتغّير هكذا منذ الأزل. إنما لم يفوت فرصة مناظرة القارئ لنص يجسد ملحمة تجريبية، فالمضمون عنده يتكئ على “اعتبارات موضوعية” تقرب مشهد الحرب بصرياً وفق منهج زمني وبأسلوب منمق “Aestheticised” لا يخلو من مواجهة في غاية الدقة بعيداً عن العشوائية والالتباس إذ يقول على لسان بطله:
في نشوة الليل كانت الحرب على أبواب العراق تتنهدُ، وكان العراق قد أوعز لأبوابه أن تبرحَ المكان وظل مشرعاً.. رفع الأستار وظل عارياً يستعرض جسده أمام غلمان الفرس وجواري الرومِ. قل نختزل لبّ الكلام: غادر العراقُ معطف الحياء ولم تعد حشمة تنفع “ص21” أو:ـ أخذتني الرؤيا بعيداً.. رأيت الحرب على أبواب العراق تتمطى..في صالونات الجيران من أبناء عمومتنا نزعت ثياب السفر وارتدت حلة جديدة.. الحرب في غرف نوم أخوتنا الخليجيين تتراهز وإياهم في حالة من انسجام إنساني بالود مزهر.. وصال تجريبي شبقي النزعة يُسهل رؤية المأتى. الحرب على أبواب العراق، والعراق يتصدى لها وحيداً. الحرب أمام درع الجزيرة تتعهرُ وهذا يتمطق شهوةً “ص28”
هكذا يستقيم النص الروائي علواً في رواية ” قيثارة مَديَن” للكاتب صبري هاشم، من أول سطر حتى آخر محطة له، في فضاءات في غاية الجمالية والذوق. أو هكذا كاد أن يكون، سلس الأسلوب تلقائياً، هامش السرد الروائي الذي تشكل الأحداث والأزمنة والمواقع فصلاً هاماً من فصوله الدراماتيه، أساساً، لا يخلو في نظري على الرغم من صبغته السياسية من، فلسفة، جدلية يبدو فيها الشأن الأدبي محوراً منسجماً مع المضمون الذي أسس لثقافة جديدة لم نطلع عليها في أدبنا العربي المعاصر إلا نادراً.. ثقافة إعادة صياغة “الحدث السياسي” روائياً، والكشف عن مآثر ووقائع بقيت غامضة، دثرتها ثقافة “ممسوخة” من نوع آخر بدافع عقائدي وأيديولوجي وحزبي زائف، آل في جوانب كثيرة إلى انتهاك حرمة الوطن والإنسان والمجتمع.
عُرف عن الكاتب تمكنه من امتلاك أدواته التعبيرية وقدرته اللغوية على التشويق إنما تظل نصوصه الروائية تحديداً عصية على القارئ العادي بعيدة نسبياً عن الفهم لمن لا يملك موروثاً ثقافياً ولو بمقدار. إنه يكتب سيرة مدن مرت عليها جحافل الغزاة عنوة ، فيما ظلت وحيدة في جميع عصورها، تندب سوء طالعها وجحود أبنائها. ولم يفته استعراض الأدلة لمواجهة الارتباك “الفكري والسياسي” إذ يتجه إصبع الاتهام نحو هذين الاتجاهين دون أدنى شك:ـ هؤلاء البعثيون الذين حلبوا ضرع العراق حتى القطرة الأخير لم يشاركوا في رفض الحرب على بلدهم ولم يدافعوا عن نظامهم ولم يذودوا عن فروج نسائهم. هؤلاء الخنازير أقرب إلى شيوعيي الاتحاد السوفيتي في الضعةِ والسقوط حيث لم يخرج شيوعيُّ واحد، من أصل أكثر من عشرين مليون عضو حزب، محتجاُ على سقوط بلاده “ص32”
ويبدو أن الرواية لا تخلو من النقد السياسي اللاذع للعراقيين، أحزاباً ومنظمات وأفراداً، طائفيين وشوفينيين وقوميين ومعممين مبطنين ببطانة الوطنية. ولم يجد الكاتب ذاكرة إلا وطرق بابها ليعلن عن غضبه من هؤلاء وأولئك الذين يقول جميعهم تآمروا على العراق وسهلوا احتلاله:ـ لم أسمع من قبل عن شعبٍ لا ينتمي لأرضه كالشعوب العراقية.. أي وطنٍ هذا يتربص به العدو والصديق كما يتربص به الأبناءُ!؟ “ص 28” وفي آخر:ـ بغداد فتكت بها الفاتكات.. وبغداد جحيم الله في أرضه.. شرعوا أبواب العراق وبها بطشوا: فرسٌ، أكرادٌ، مستعربون، تركمان، آشوريون، كلدانيون، يزيديون، شيعةٌ، سنةٌ، تكفيريون، خائنون، أصوليون، علمانيون، شيوعيون، أمريكيون، بريطانيون، جيوشٌ من كل بغاءِ الدنيا، مخابرات من كل حدب وصوب.. عربٌ حاقدون: كويتيون، سعوديون، وكثرة من عملاء، شرعوا أبواب العراق ومِن كرامته انتهكوا، والغوغاء مِن أبناء العراق كانت أرضاً خصبة لمآرب الدنيا التي سخرتها ضد بلادهم فيا لغباء الدهماء “ص 49”
والرواية من الناحية البنائية مكتملة الشروط حيث أثرى الكاتب نصه وملأه تمام الامتلاء وليس لنا عليه حجة، إلا أنه قد أقحم نفسه، أو وقع في جملة مطبات منها فكرية وسياسية، عندما قرر سلب الآخرين وطنيتهم، أو جعلهم غير معنيين بمصير بلادهم بشكل جمعي:ـ هذه مدينة تآمرت على العراق ومرشدها الأعلى الذي هو أمام الشيعة اصدر أمراً لأتباعه بعدم محاربة الأمريكان ثم معهم تواطأ. هذه مدينة لم يهتز ضمير أبنائها ولم ينبروا للدفاع عن وطنهم.. مفاوضهم يصرخ باللغة الإنكليزية ـ المدينة نعم خذوها أما الإمام فلا. إنه الإمام الذي لو كان حاضراً لبصق في وجوههم ولخطب فيهم واحدة من خطبه الشهيرة ولقال لهم: أيها الأوغاد كيف تختزلون وطناً عظيماً بقبتي. “ص 58”.. وآخر: حتماً سيأتي جيل في الزمن القادم لا يرحم إماماً دجالاً أو شيخاً محتالاً أو نفراً أسبغت عليه السيادة ظلماً.. سيأتي جيل يهدُّ الكون فيطيح بالعمائم المنافقة وأربطة العنق العميلة والسراويل القذرة “ص 65”
ويذهب الكاتب إلى تسجيل مشاهد العصر في ظل ثورة إعلامية لا يخفى عنها شيء. فتتجلى الصورة بصرياً أمام حشود الغزاة والدبابات على ظهرها يعتلي العراقيون القادمون من الخارج وشمال العراق مواقعهم، ومن المدن ظهر رجال كثيرون ساندوا الغزاة ودعموا احتلال بلدهم، يسجلون مأثرة سوداء في تاريخ بلاد الرافدين معلناً:ـ أي بلد يكثر فيه الخائنون يسهل غزوه واحتلاله وهذا في العادة يحصل في البلدان المتعددة الطوائف والقوميات والمذاهب حيث تتعدد الولاءات وتضعف المنعة. أنظر سرعة تفكك الاتحاد السوفيتي بدون غزو إنما بخيانة فقط “ص73”.. وفي آخر:ـ إن كل الأحزاب الشيعية والكردية مع الحرب والغزو وحتى مع احتلال العراق وإن الشيوعيين يرطنون بلسانين فهم مع الحرب وضدها في نفس الوقت. هؤلاء جميعاً هم مَن أغرى أمريكا وبرر حربها.”ص83″
إن هذا الإسقاط الشمولي لا يذهب بنا إلى أصل المشكلة كما ينبغي، للإقرار حقاً فيما لها علاقة بقيام الحرب، لكن من الواضح أن الكاتب قد أنفرد بتحميل الغالبية العظمى من العراقيين مسؤولية قيام الحرب واحتلال العراق، كما ذهب أكثر في تشويه صورتهم في أكثر من مكان:ـ دقوس خاتون لم تضاجع كتبغا، امتناناً له على تحرير بغداد من بُناتِها، إلا مرة واحدة ربما وجدوهما في سرير الخليفة المقتول عراة.. من رأى؟ هذا الكلام مجرد يوتوبيا. محض مخيلة، بينما ضاجع الجنرال مود وجنوده نصف نساء مدينة العمارة في العراءِ، في عمق البرية وبرضى تام من أهل المدينة وشيوخها فأنتج لنا جيلاً ملوناً، مختلفاً، جعلنا نتغزل ببعض العيون الزرقاء.. هذا ما فعله الفرسُ بنساء ورجال النجف وكربلاء كضمانة أكيدة لاستمرار حب آل البيت.. واقعوا النساء في أكثر الأماكن قداسة.. مع مرور الوقت صرنا لا نُميّز بين الفارسي والعربي “ص42”
مهم جداً أن الكاتب أختتم روايته بسرد تأريخي و”ميثولوجي” أعاد جدولتها في “محاضرة حمدان الخصيبي حول الحرب” وتناول مسألتي الحرب والخيانة، بشكل دقيق، يربط بين المصطلحات، لكنه فرق بين ” النص من النوع”، المفهوم الأساسي لصيانة هيكلة السرد الروائي وإعادة تصوير المشهد الدرامي في مرحلة هامة من تاريخ العراق.. مهم أيضاً أن الكاتب لم يخرج عن دائرة التقاليد الثقافية واستخدام اللغة الأدبية والاستفادة من جميع وسائل الإعلام في تصميم مسيرته الروائية. إذن الرواية تعتبر أهم شهادة على تجربة سياسية أستخدم الكاتب فيها كل الظواهر، ليس فقط في تحليل الشخصيات سيكولوجياً، بل أيضا في سرد المواقف النمطية والفكرية، فضلا عن الوسائل والأساليب التي انتهجوها.
المعنى الحقيقي الذي خلصت إليه الرواية كونها تنتمي إلى الأدب “المناهض للاحتلال والفاشية” يكمن في قيّمها التنويرية والإنسانية، وتعميق الوعي التاريخي الذي يؤكد الكاتب الألماني أستاذ علم الفلسفة “لوتس فينكلرLutz Winckler ” على التقيّد به.. وأعتقد أن الكاتب صبري هاشم قد حقق موازنة قيمة، حين حدد هوية روايته البيئية والاجتماعية والسياسية والتاريخية، خارج فرضيات سياسة ومنظور حزبي لا يؤمن بحقيقة الترابط بين التراث الأدبي وضرورة نقد سياسات الإقصاء الاجتماعي والتمييز.
الشعرُ بأشكاله المختلفة في لغتنا العربية عندما يُكتب ويُقرأ بإيقاع صحيح يبدو جميلاً ، وما يثير اهتمامي كقارئ أن الروائي والشاعر العراقي صبري هاشم لا تفوته هذه القاعدة في إصداره الروائي الذي قرأتُ بعضاً منه ، حيث أكتشف دائماً أنه هو الأخر جميل الإيقاع لا يخلو من شعرية مفرطة والتزام تام بقواعد اللغة والبحث في خفاياها . وعندما اهتديت مؤخراً إلى قراءة روايته الجديدة التي صدرت في منتصف حزيران من هذا العام والموسومة ” قيثارة مَدْيَن ” عن دار كنعان لم أفاجأ بغير هذا الأسلوب. الجديد في الأمر أن الناشر أستعمل هذه المرة حرفا ً جميلاً وورقاً قصّبي اللون، ينسجم كلياً مع النص الروائي، ولا أعرف هل كان محض صدفة أم كان مقصوداً من أجل إضفاء نوع من التناسق بين الشكل والمضمون. ما لفت انتباهي أيضاً وأنا أتصفح الرواية من نهايتها قبل القراءة كما تعودت دائماً هو التعريف بالكاتب الذي جاء مقتضباً على النحو التالي: عن المؤلف: صبري هاشم روائي وشاعر عربي من العراق، ولد في مدينة البصرة جنوبي العراق . انتهى التعريف.. لكن هذا المبدع في فضاء غير فضاء وطنه المطعون في الصميم ، يستحق أكثر من هذا الاستعراض المتواضع . وعلى الرغم من هذا الإيجاز في تقديمه والتعريف به بـعبارة “عربي من العراق” لكنه بدا مقبولاً من وجهة نظري، هذا الانتماء على اختزاله وحصره في جملة كهذه ، يبقى فعله الإبداعي، مَن يثأر لمقامه وموقعه، إلزاماً. أما ما لم أغفله هو النص القرآني الذي أستعمله في مقدمة الرواية كشاهد على إرث بشري سوّغ للظلم والتآمر منذ الأزل حيث تناسب مضمون الآيات الكريمة كمصدر مهم لفهم المحيط الفكري والسياسي الذي بمحاذاته ذهب الكاتب في سرد أحداث الحرب على العراق وكأنه يُؤرخ للأجيال.
إن استخدام الميثولوجيا ضمن سياقات السرد الروائي، أسس لصياغات ذات أهمية حقيقية. حيث وفق الكاتب في بيئة جماليات أسلوبه إلى تنسيق المعارف الموروثة والحِكم والأمثال أو العبارات والجمل القديمة مع روح النص من ناحية الشكل أو النوع، على قاعدة ” ايراسموس فون روتردام”. وبذلك جعل الحدث بزمانه ومكانه وشخوصه، يتلاقح مع فكر “فيلهلم ديتلي” عندما أشار في كتابه “جوهر الفلسفة das Wesen der Philosophie” إلى أهمية مراجعة البحث في التأريخ لمعرفة الحقيقة، وأكد على أن الوصول إليها لا يحظر دغدغة “العواطف” التي لها خصوصية تعبيرية يقول إنها بمنتهى “الجمالية” كونها شكل من أشكال التحريض.
تناول الكاتب ثلاث محاور أساسية: أولاً جعل المنفى “المهجر” ،محيطه الخاص والأقرب، عاملاً هاماً، لنقل وقائع “الحرب” كما رآها ساعة الحدث عن بعيد. ثانياً جسد بطل الرواية بشخص حمدان الخصيبي كرمز هام يسلط الضوء على الحرب وما آلت إليه من احتلال ودمار وويلات، دون أن يكون له أي دور مؤثر غير إلقاء المحاضرة:ـ سأقنع حمدان الخصيبي أن يلقي “محاضرة” عن الحرب وربما عن الغزو.. مع نفسي تساءلت: عماذا سيتحدث هذا الماركسي الجميل؟ لا أدري كيف انزلقت قدماه مبكراً نحو الشيوعية وهو المحب لجمال عبد الناصر القومي العربي؟. ثالثاً أثار الكثير من الأسئلة حول سلوكية أبناء العراق، بنفس القدر الذي شكك في رغبتهم لمواجهة الغزاة والدفاع عن بلدهم، في كافة العصور، كما يشير في أكثر من تعليق وانتقاد. ولا نعلم إن كان متعمداً أم متمرداً لإثارة هكذا مواضيع تراجيدية بطريقة مجازية عامة:ـ الآن علمتُ أن العراق بلا بشر تدافع عنه.. كيف فاتني هذا والتأريخ لم يحدثنا يوماً عن دفاع سكان العراق عن أرض العراق؟.. في آخر:ـ أجل، مَن لم يعش المنفى ويعرف أهوالَ الغربة لا يعرف حقيقة البشر من أبناء العراق على مختلف قومياتهم وطوائفهم، في المنفى تتكشف الحقائق حين تتكشف النفوس وتخرج نتانةُ ريحهم كأقوام وطوائف ضئيلة لا تكنُ للعراق غير العداوة والبغضاء. لقد خلفتُ المنافي ورائي حين تضاعفت وحشتها وصارت الغربة عليَّ مركبةَ الألم “ص 11”
ويبدو أن الكاتب صبري هاشم قد اهتم في جميع كتاباته لاختيار عينات نادرة “Essai” زينتها براعة المقال وبلاغة اللغة مع التركيز على الجوانب الثقافية والاجتماعية، لكنه أصر في روايته الجديدة على كشف الظواهر السياسية بشكل صارم مع المحافظة على منهجية النص واستخدام معايير السرد بشكل مرادف كما يقول على لسان بطله: سأكتب تأريخاً مغايراً لا كما يكتب الأقوياء المنتصرون.. ولم يحزم الأمر لأن يجعل النص يسمو أدبياً وفنياً وحسب كقول مسعد لثريا : لا تخافي فالفراتُ على حاله لم يتغّير هكذا منذ الأزل. إنما لم يفوت فرصة مناظرة القارئ لنص يجسد ملحمة تجريبية، فالمضمون عنده يتكئ على “اعتبارات موضوعية” تقرب مشهد الحرب بصرياً وفق منهج زمني وبأسلوب منمق “Aestheticised” لا يخلو من مواجهة في غاية الدقة بعيداً عن العشوائية والالتباس إذ يقول على لسان بطله:
في نشوة الليل كانت الحرب على أبواب العراق تتنهدُ، وكان العراق قد أوعز لأبوابه أن تبرحَ المكان وظل مشرعاً.. رفع الأستار وظل عارياً يستعرض جسده أمام غلمان الفرس وجواري الرومِ. قل نختزل لبّ الكلام: غادر العراقُ معطف الحياء ولم تعد حشمة تنفع “ص21” أو:ـ أخذتني الرؤيا بعيداً.. رأيت الحرب على أبواب العراق تتمطى..في صالونات الجيران من أبناء عمومتنا نزعت ثياب السفر وارتدت حلة جديدة.. الحرب في غرف نوم أخوتنا الخليجيين تتراهز وإياهم في حالة من انسجام إنساني بالود مزهر.. وصال تجريبي شبقي النزعة يُسهل رؤية المأتى. الحرب على أبواب العراق، والعراق يتصدى لها وحيداً. الحرب أمام درع الجزيرة تتعهرُ وهذا يتمطق شهوةً “ص28”
هكذا يستقيم النص الروائي علواً في رواية ” قيثارة مَديَن” للكاتب صبري هاشم، من أول سطر حتى آخر محطة له، في فضاءات في غاية الجمالية والذوق. أو هكذا كاد أن يكون، سلس الأسلوب تلقائياً، هامش السرد الروائي الذي تشكل الأحداث والأزمنة والمواقع فصلاً هاماً من فصوله الدراماتيه، أساساً، لا يخلو في نظري على الرغم من صبغته السياسية من، فلسفة، جدلية يبدو فيها الشأن الأدبي محوراً منسجماً مع المضمون الذي أسس لثقافة جديدة لم نطلع عليها في أدبنا العربي المعاصر إلا نادراً.. ثقافة إعادة صياغة “الحدث السياسي” روائياً، والكشف عن مآثر ووقائع بقيت غامضة، دثرتها ثقافة “ممسوخة” من نوع آخر بدافع عقائدي وأيديولوجي وحزبي زائف، آل في جوانب كثيرة إلى انتهاك حرمة الوطن والإنسان والمجتمع.
عُرف عن الكاتب تمكنه من امتلاك أدواته التعبيرية وقدرته اللغوية على التشويق إنما تظل نصوصه الروائية تحديداً عصية على القارئ العادي بعيدة نسبياً عن الفهم لمن لا يملك موروثاً ثقافياً ولو بمقدار. إنه يكتب سيرة مدن مرت عليها جحافل الغزاة عنوة ، فيما ظلت وحيدة في جميع عصورها، تندب سوء طالعها وجحود أبنائها. ولم يفته استعراض الأدلة لمواجهة الارتباك “الفكري والسياسي” إذ يتجه إصبع الاتهام نحو هذين الاتجاهين دون أدنى شك:ـ هؤلاء البعثيون الذين حلبوا ضرع العراق حتى القطرة الأخير لم يشاركوا في رفض الحرب على بلدهم ولم يدافعوا عن نظامهم ولم يذودوا عن فروج نسائهم. هؤلاء الخنازير أقرب إلى شيوعيي الاتحاد السوفيتي في الضعةِ والسقوط حيث لم يخرج شيوعيُّ واحد، من أصل أكثر من عشرين مليون عضو حزب، محتجاُ على سقوط بلاده “ص32”
ويبدو أن الرواية لا تخلو من النقد السياسي اللاذع للعراقيين، أحزاباً ومنظمات وأفراداً، طائفيين وشوفينيين وقوميين ومعممين مبطنين ببطانة الوطنية. ولم يجد الكاتب ذاكرة إلا وطرق بابها ليعلن عن غضبه من هؤلاء وأولئك الذين يقول جميعهم تآمروا على العراق وسهلوا احتلاله:ـ لم أسمع من قبل عن شعبٍ لا ينتمي لأرضه كالشعوب العراقية.. أي وطنٍ هذا يتربص به العدو والصديق كما يتربص به الأبناءُ!؟ “ص 28” وفي آخر:ـ بغداد فتكت بها الفاتكات.. وبغداد جحيم الله في أرضه.. شرعوا أبواب العراق وبها بطشوا: فرسٌ، أكرادٌ، مستعربون، تركمان، آشوريون، كلدانيون، يزيديون، شيعةٌ، سنةٌ، تكفيريون، خائنون، أصوليون، علمانيون، شيوعيون، أمريكيون، بريطانيون، جيوشٌ من كل بغاءِ الدنيا، مخابرات من كل حدب وصوب.. عربٌ حاقدون: كويتيون، سعوديون، وكثرة من عملاء، شرعوا أبواب العراق ومِن كرامته انتهكوا، والغوغاء مِن أبناء العراق كانت أرضاً خصبة لمآرب الدنيا التي سخرتها ضد بلادهم فيا لغباء الدهماء “ص 49”
والرواية من الناحية البنائية مكتملة الشروط حيث أثرى الكاتب نصه وملأه تمام الامتلاء وليس لنا عليه حجة، إلا أنه قد أقحم نفسه، أو وقع في جملة مطبات منها فكرية وسياسية، عندما قرر سلب الآخرين وطنيتهم، أو جعلهم غير معنيين بمصير بلادهم بشكل جمعي:ـ هذه مدينة تآمرت على العراق ومرشدها الأعلى الذي هو أمام الشيعة اصدر أمراً لأتباعه بعدم محاربة الأمريكان ثم معهم تواطأ. هذه مدينة لم يهتز ضمير أبنائها ولم ينبروا للدفاع عن وطنهم.. مفاوضهم يصرخ باللغة الإنكليزية ـ المدينة نعم خذوها أما الإمام فلا. إنه الإمام الذي لو كان حاضراً لبصق في وجوههم ولخطب فيهم واحدة من خطبه الشهيرة ولقال لهم: أيها الأوغاد كيف تختزلون وطناً عظيماً بقبتي. “ص 58”.. وآخر: حتماً سيأتي جيل في الزمن القادم لا يرحم إماماً دجالاً أو شيخاً محتالاً أو نفراً أسبغت عليه السيادة ظلماً.. سيأتي جيل يهدُّ الكون فيطيح بالعمائم المنافقة وأربطة العنق العميلة والسراويل القذرة “ص 65”
ويذهب الكاتب إلى تسجيل مشاهد العصر في ظل ثورة إعلامية لا يخفى عنها شيء. فتتجلى الصورة بصرياً أمام حشود الغزاة والدبابات على ظهرها يعتلي العراقيون القادمون من الخارج وشمال العراق مواقعهم، ومن المدن ظهر رجال كثيرون ساندوا الغزاة ودعموا احتلال بلدهم، يسجلون مأثرة سوداء في تاريخ بلاد الرافدين معلناً:ـ أي بلد يكثر فيه الخائنون يسهل غزوه واحتلاله وهذا في العادة يحصل في البلدان المتعددة الطوائف والقوميات والمذاهب حيث تتعدد الولاءات وتضعف المنعة. أنظر سرعة تفكك الاتحاد السوفيتي بدون غزو إنما بخيانة فقط “ص73”.. وفي آخر:ـ إن كل الأحزاب الشيعية والكردية مع الحرب والغزو وحتى مع احتلال العراق وإن الشيوعيين يرطنون بلسانين فهم مع الحرب وضدها في نفس الوقت. هؤلاء جميعاً هم مَن أغرى أمريكا وبرر حربها.”ص83″
إن هذا الإسقاط الشمولي لا يذهب بنا إلى أصل المشكلة كما ينبغي، للإقرار حقاً فيما لها علاقة بقيام الحرب، لكن من الواضح أن الكاتب قد أنفرد بتحميل الغالبية العظمى من العراقيين مسؤولية قيام الحرب واحتلال العراق، كما ذهب أكثر في تشويه صورتهم في أكثر من مكان:ـ دقوس خاتون لم تضاجع كتبغا، امتناناً له على تحرير بغداد من بُناتِها، إلا مرة واحدة ربما وجدوهما في سرير الخليفة المقتول عراة.. من رأى؟ هذا الكلام مجرد يوتوبيا. محض مخيلة، بينما ضاجع الجنرال مود وجنوده نصف نساء مدينة العمارة في العراءِ، في عمق البرية وبرضى تام من أهل المدينة وشيوخها فأنتج لنا جيلاً ملوناً، مختلفاً، جعلنا نتغزل ببعض العيون الزرقاء.. هذا ما فعله الفرسُ بنساء ورجال النجف وكربلاء كضمانة أكيدة لاستمرار حب آل البيت.. واقعوا النساء في أكثر الأماكن قداسة.. مع مرور الوقت صرنا لا نُميّز بين الفارسي والعربي “ص42”
مهم جداً أن الكاتب أختتم روايته بسرد تأريخي و”ميثولوجي” أعاد جدولتها في “محاضرة حمدان الخصيبي حول الحرب” وتناول مسألتي الحرب والخيانة، بشكل دقيق، يربط بين المصطلحات، لكنه فرق بين ” النص من النوع”، المفهوم الأساسي لصيانة هيكلة السرد الروائي وإعادة تصوير المشهد الدرامي في مرحلة هامة من تاريخ العراق.. مهم أيضاً أن الكاتب لم يخرج عن دائرة التقاليد الثقافية واستخدام اللغة الأدبية والاستفادة من جميع وسائل الإعلام في تصميم مسيرته الروائية. إذن الرواية تعتبر أهم شهادة على تجربة سياسية أستخدم الكاتب فيها كل الظواهر، ليس فقط في تحليل الشخصيات سيكولوجياً، بل أيضا في سرد المواقف النمطية والفكرية، فضلا عن الوسائل والأساليب التي انتهجوها.
المعنى الحقيقي الذي خلصت إليه الرواية كونها تنتمي إلى الأدب “المناهض للاحتلال والفاشية” يكمن في قيّمها التنويرية والإنسانية، وتعميق الوعي التاريخي الذي يؤكد الكاتب الألماني أستاذ علم الفلسفة “لوتس فينكلرLutz Winckler ” على التقيّد به.. وأعتقد أن الكاتب صبري هاشم قد حقق موازنة قيمة، حين حدد هوية روايته البيئية والاجتماعية والسياسية والتاريخية، خارج فرضيات سياسة ومنظور حزبي لا يؤمن بحقيقة الترابط بين التراث الأدبي وضرورة نقد سياسات الإقصاء الاجتماعي والتمييز.
عصام الياسري
برلين في 30 تموز 2009