حسين السنيد :
((ملاحظة : هذه القصة ليست من نسج خيال , و ليست نتاج تطاير الحروف والكلمات من مخيلة الكاتب , هذه الأحداث مرت بالحاج ناهض الذي يسكن منطقة بعيدة في محافظة الديوانية ,الرجل الذي أردت أن أكون مثله فغلبني في كل شيء.. صديقي الذي مازال تضج فيه الأحلام وينبض فيه الأمل. ))
—————
ظلام وصمت.. في الظلمة تتسسل يد لتفتح صنبور الماء ,فيسيل الماء البارد بهدوء. يقف رجل امام الصنبور ويبدأ بالوضوء في حين شفاهه قد سبقته الى الصلاة.
تتساقط قطرات الماء متلئلئة من لحيته البيضاء ,فيذوب فيها الظلام.
يكسر صمت اللحظات , صوت اذان بعيد.
****
الرجل طويل القامة, برأس مشتعل بالشيب وبشرة بيضاء, وجه يحمل ملامح الطيب..يعتمر قبعة سوداء ويرتدي معطفا رثا ازرق اللون يصل لركبتيه.
فتح باب البيت ,تمتمت شفاهه بسملة وحوقلة ثم مضى في الدرب ,بخطوات بطيئة و قامة مستقيمة ..كمنارة مسجد قديم ,يبدو طول السنين وصعوبتها لم تستطع ان تحنيها.
وصل الى التقاطع في الشارع الرئيسي ,حيث الصخب والضوضاء .ترتفع اصوات باعة الخضار و السكائر والبيض وفي الجهة الاخرى تجمع عدد من عمال البناء والجنود في مطعم شعبي . سواق السيارات يقودون سياراتهم بعشوائية ويلحقونها بابواق مجنونة وصياح.كانت شفاه الناس تحمل الخوف بدلا من ابتسامة الصباح و عيونهم تحمل لون القلق, ترى الأطفال و هم يهرولون بوجوههم الناعسة نحو المدارس..لا يلعبون ولايضحكون وكأنهم شاخو في الصغر.حتى العصافير .. تتطاير وقد توارت زقزقة الصباح من حناجرها.
وقف الرجل على جانب من الشارع في موقف انتظار سيارات الباص و كان الموقف مزدحما ,وقف بهدوء دون ان يتأثر بالفوضى المحيطة به.
الرجل, عاملا بسيطا في محطة لغسيل السيارات ,كل يوم يذهب للعمل من شروق الشمس ليرجع بعد غروبها لبناته و زوجته التي نست الابتسامة منذ اشهر .. ونست الحياة.
وصلت سيارة الباص و سارع الناس نحوها ,صعد الرجل بزحمة .امتلاء الباص بالأطفال والشيوخ والنساء.
***
كان الرجل سارحا في عالم من همومه وتتجول نظراته في كل مكان ولامكان, حين قطع عليه الطريق وجه جميل ,أوقف تفكيره ..وجه ملائكي.
طفل صغير ..ربما في الثامنة من عمره ,بأعين عسلية بريئة حاملا على ظهره حقيبة المدرسة.
نظر الرجل للطفل للحظات دون ان يرمش حتى ..وكان الطفل ينظر للرجل ايضا.
ابتسم الرجل ..فابتسمت للرجل عيون الطفل.
الرجل : كم عمرك ابني؟
لم يجب الطفل ,فقط تولدت على شفاهه ابتسامة وانفتحت نوافذ عيونه اكثر فانارت على الرجل.
الرجل : انت باي صف بابا؟
لم يجب الطفل ايضا.
صمت الرجل ولكن استمر يكلم الطفل بعيونه .. كان غارقا في الطفل .
الطفل : انت ذاهب للمدرسة ؟
الرجل : نعم .وضحك بخفة.
الطفل : انت باي صف؟
الرجل : انت باي صف ؟ انا سألتك اولا.
الطفل : الصف الثاني.
و بعد لحظات من الصمت اكمل ..
الطفل : اريد ان اكبر بسرعة لاصبح رجلا كبيرا مثل ابي..
بسماع هذه الكلمات تولدت نظرة حزن في عيون الرجل و ذبحت ضحكته على شفاهه. كمزرعة قمح يعصف بها الريح قبل الحصاد.
وقف الباص في الموقف ,سحبت ام الطفل يده ليترجلون من الباص , كان الطفل يتلفت ليرمق الرجل بنظراته الاخيرة وهو ماشي خلف امه ,إلى أن أكلته زحمة الناس.
***
نزل الرجل في الموقف التالي ,امام محطة لغسيل السيارات ,كان يعمل هناك مع عدد من الشبان. كانوا يدعونه هناك”بالحاج” ,فرغم الفارق السني الكبير كانو قريبين منه ويحبونه لدرجة كبيرة ويعود ذلك لاريحية الرجل ,و حبه للشباب , كان يعاملهم جميعهم وكـأنهم أبنائه.
دخل الرجل محطة الغسيل و سلم على الكل برفع يده و اخذ قطعة من الاسفنج والقماش وبدء بمسح احدى السيارات .
قال احد الشباب : صباح الخير حاج.
رد عليه الرجل : صباح الخير.
عمل الرجل ذلك اليوم لساعات دون ان يستريح او يتكلم , كان يشعر بعدم ارتياح وضيق شديد, حتى انه كان يتجاهل الشباب ودعاباتهم الموجهة له ..فقط كان يعمل ولايتوقف.
صار وقت اذان الظهر ,مع سماع صوت الاذان توقف الرجل عن العمل و مسح العرق من جبينه وبدء يتلو بعض الايات بصوت يسمعه هو وربه فقط.
كان احد الشباب قريب منه ,فسأله: الم يأتك خبر جديد؟
رفع الرجل رأسه : كلا …لاشيئ
– حاج …. حاج
التفت الرجل ..كان صوت صاحب المحطة ,واقف في الجهة الاخرى من الساحة بالقرب من غرفته ,ذهب الرجل اليه بخطوات سريعة.
الرجل : نعم؟
صاحب المحطة: اتصلو عليك , اذهب لهم.
الرجل : من؟
صاحب المحطة : هم , الذين تنتظرهم.
الرجل ضل صامتا متحيرا .
صاحب المحطة : اذهب لهم بسرعة ..ربما افرجو عنه.
الرجل بشفاه ترتجف وعيون خائفة : سأذهب ..حالا
و خرج مهرولا في حين كانت عيون الشباب تراقبه بقلق . اقترب احد الشباب من صاحب المحطة..
الشاب : اين ذهب الحاج ؟ هل حصل شيئ؟
صاحب المحطة بعد لحظات من الصمت : لا اعرف ..لا اعرف.
***
وقف الرجل امام دائرة الامن ,كانت بناية كبيرة ذا لون رمادي محاطة بالحرس ,مدججين بالاسلحة .تمتم بعض الايات ونظر الى السماء , و تقدم ليدخل ..كان بامكانه ان يسمع خفقان قلبه.
اوقفه الحارس : الى اين؟
الرجل : اتصلو بي ..طلبو حضوري
الحارس و بطريقة فضة : من اتصل بك ؟ ماذا تريد؟
الرجل : اتصلو بي من دائرتكم ..ابني ..ابني معتقل.
بحلق الحارس في وجه الرجل و قلبه بنظرات كانت تخترق جسد الرجل كالجمر ,ثم بحركة عنيفة بدء يفتش الرجل .
الحارس: اووووووف ..لو كان الامر بيدي.
اصطحب الحارس الرجل الى داخل البناية ,كان وجه الرجل اصفر بشده و نشف ريقه و كان يجر نفسه على الارض جرا.
قال الرجل الى الحارس وهويسير خلفه: هل تفرجون عن احد اليوم ؟
لم يجب الحارس ,فقط رمق الرجل بنظرات .
اوقفه امام غرفة ..دخل الجندي اولا وبقى الرجل خلف الباب مشتعلا بالنيران.
بعد لحظات نادو عليه ليدخل ..دخل الى الغرفة و كان جالسا خلف المكتب ضابطا ,مشغولا بالكتابة.
الرجل : سلام عليكم
لم يرفع الضابط رأسه عن الورقة و لم يجب.
و بعد لحظات ثقيلة ..قال الضابط : تعال ..وقع على هذا التعهد
اشتعل املا في قلب الرجل : سيدي ..اقسم لكم انه لم يفعل شيئ ..لم اعرف شيئ عن ابني لستة اشهر ,لم اترك بابا الا وطرقته ,امه على وشك ان تموت.
رفع الضابط رأسه وبانت ملامحه لاول مرة وقال باستغراب : لم يفعل شيئ؟؟
الرجل : وماذا فعل ؟ هل اذى احدا؟
الضابط : بل فعل الاسوء
الرجل : وماذا فعل؟
الضابط : تتركونهم ليصلون في الجوامع ,ويستمعون لهذا وذاك ,فيخدعونهم .
الرجل:اقسم انه لم يفعل شيئ ,فقط كان يذهب ليصلي صلاة الجماعة في المسجد او كان يذهب مرات بصحبة اصدقائه لكربلاء , هو لم يؤذي احدا في حياته ,اسألو عنه.
الضابط : وماذا تريد ان يفعل اكثر؟؟
الرجل : سيدي لا اعرف ان الصلاة و الزيارة جرم و اذا كنت اعلم لمنعته وانت تعرف انهم شباب و عندهم فضول.. اعدكم سيدي سامنعه من كل هذه.
الضابط : اصمت .تعال وقع
الرجل : نعم ..
اخذ الرجل القلم و وقع على الورقة من دون ان يقرأها
الرجل : وهل سيدي ستفرجون عنه اليوم؟
شعل الضابط سيجارة و قهقه: نعم..بل افرجنا عنه .
الرجل : سيدي لا اعرف كيف اشكركم .. من اين اذهب لاستلمه؟
كانت لحظات من الامل وكانت عيون الرجل دمعت من شدة الفرح بالافراج عن ابنه.
رفع الضابط رأسه ونظر له بنظرات حادة و نادى على الحارس : خذه.
***
لم تصدر من الرجل اي ردة فعل حين وجد نفسه امام براد الموتى ..احس ان الدنيا تنهار عليه بكل ثقلها .
جثة فوق جثة ..أكثرهم من الشباب.غمامات مرت على شفرة المقصلة فأمطرت دما, كانت خيوط الدم المنسكبة من جراحهم تختلط لتكون بركا على الأرض.
مالبث أن وجد نفسه وسطهم,احدهم نبتت شواربه للتو ..والآخر لاتزال يديه مقيدة ..واحدهم يبدو مبتسما للموت.رغم وجودعشرات الجثث ,لم يشعر بثقل الموت ,كان يشعر انه في مقبرة الاحياء.
قام يقلب جثة بعد جثة ,بحثا عن ابنه.كانت يديه تلطخت بالدم للسواعد حين لمح وجه ابنه الذي له لون التراب ..بعين مرعوبة حدق في وجهه.قبل جبهته المثقوبة و مسح وجه بيده فاصبح وجه الرجل ملطخ بالدم.لم تخرج قطرة دمع واحدة من عينه , خرج حاملا ابنه ويحس بطعنة الف نصل في جسمه و ترك خلفه خيط من النور اختلط بدماء الشباب.
***
بعد عدة ايام عندما رن قرص الشمس المتوهجة في السماء ..
كان الرجل في موقف سيارات الباص ..لم تعد تلك الابتسامة مرسومة على شفتيه و كل ملامح الحياة سرقت من وجهه ..كأنه صنع من البؤس.
وجه ملائكي ..اوقف تفكيره ,ذلك الطفل الذي رآه في الباص قبل عدة ايام ,كان الطفل ينظر للرجل بعيون ملئها الامل ,ملئها الجمال.
الرجل : ما اسمك؟
انفتحت مرة اخرى نوافذ عيون الطفل للرجل .. ابتسم الرجل ..ابتسم وأغمض عيونه.