لاحمد هلال , صديق الطفولة , الذي كان يغلبني في العاب الطفولة,وحين كبرنا واصبحنا رجالا غلبني في لعبة الحياة . فتجاوز تلك اللحظة التي اخترقت جسمه الرصاصة ,بسهولة , لتبدئ حياته من جديد في الضفة الاخرى. فيما بقيت انا في مكاني , ارقبه بعيون طفل حسود.
—-
في الاصيل .. حين نفثت الشمس آخرماعندها من شعاع ,احتلت الفضاء كموجة من الرماح الذهبية.
كان يقف الجندي في موضع حراسته ,التعب يدب في جسمه و عيونه تصارع النعاس بعد يومين قضاهما في واجبات الحراسة. رفع الجندي بندقيته المدهونة بالزيت و لصق وجهه بالفوهة , ملأت رائحة الزيت انفه وتسربت لجوفه وراحت تسري في عروقه,ضغط براحة يديه على البندقية التي لم يطلق منها رصاصة واحدة . انعكست نظراته على بدلته العسكرية الكاكية وانزلقت لاشعوريا نحو بسطاله اللامع .
كان يجد نفسه تائها في هذا المكان , ما الذي جاء به الى هذه الصحراء بعيدا عن زوجته وابنته ؟
قذف بعيونه بعيدا في الافق ومسح العرق من جبينه. تحرك من مكانه بخطوات قصيرة , شعر بحرارة شديدة تحت البدلة العسكرية, كانت حمما لا يستطيع ان يخمدها .
هو يعلم في قرارة نفسه انه ما جاء للجيش الا ليثبت رجولته . يثبت شجاعته للناس ,و هو يدرك ايضا انه لم يكن شجاعا ابدا,فهو الذي كل عمره عجز من كل شيئ ,حتى عن التكلم. فتح قنينة ماء وسكب الماء على رأسه ,اختلطت القطرات المتناثرة بسحنته السمراء , تنفس عميقا ثم اخرج محفظة من جيبه و فتحها .. كمن يفتح نافذة على غابة في سحر ممطر.شعر لاول مرة بنفحات النسيم البارد يداعب وجهه فابتسمت عيونه, حس بان النيران المشتعلة بداخله يهمد لهيبها .. صورة ابنته كانت ملجئه الثاني بعد الصمت .
عسكري … ايها الجندي ..ابوخليل
التفت ليرى احد الجنود ينادي عليه,وقف الجندي امامه و اردف :
الآمر يريدك في غرفته .
سلم بندقيته للجندي ليكمل الحراسة عنه و ذهب بخطوات مسرعة نحوغرفة الآمر.
دخل الغرفة و ادى التحية العسكرية ,كانو سبقوه للغرفة عسكريين برتبة ملازم وعريف و كان هو ثالثهما.
قال الآمر وهو جالس خلف مكتبه :
اسمعني يا ابني .. قررنا تشكيل حضيرة استطلاع تتكون منكم انتم الثلاثة , نعتقد ان الارهابيين تموضعو في اماكن قريبة ليشنو هجومهم قريبا علينا . تذهبون الليلة و تستطلعون المنطقة جيدا و تكونون هنا قبل الفجر .
قبل ان يخرجو ,ادو ثلاثتهم التحية العسكرية هزت الارض تحت اقدامهم , ردها عليهم الآمروقال :
– اريدكم ان تبيضو الوجه , مهمتكم خطيرة و ماعندكم غير النجاح.
قبل منتصف الليل صعدو في سيارة بيك اب و مضو في الصحراء التي كانت غارقة تحت الظلام .
اشعل الملازم سيجارة ملأت دخانها مقصورة السيارة فيما كان العريف يتولى القيادة والقلق بادي على وجهه و كان الجندي يجلس في المقعد الخلفي وعيونه تغوص في ظلام الصحراء الذي كان يبدو لا نهاية له.
لم يكن يتصور ,لا هو ولا اي احد يعرفه ,انه سيصبح يوما عسكريا, ذلك الطفل الخجول والمنزوي ,الذي يعاني من مشكلة في النطق , فيرغي ويتهجي الحروف مقلوبة و مرات اخر يتجمد لسانه ولايستطيع ان يخرج الحروف من فمه. تذكر ذلك اليوم الذي جاء لأمه باكيا يشكو سخرية الاطفال و الكبار معا ,حينها قالت له امه ان لايتكلم الا عند الضرورة , فاختبئ خلف جدار صمته من نيران السخرية .. لم يثرثر مثل باقي الاطفال ويغني في الطرقات في الايام الممطرة ,لم يقرأ الاناشيد بصوت عال حينما يتأرجح , لم يتشجار خلال لعبة كرة قدم في الشارع ..حتى لم يقهقه مثلهم , و مايزال و هو يدق ابواب العقد الثالث من عمره لا يتكلم الا عند الحاجة ويكتفي بابتسامة رمادية في اكثر الاحيان.
توقف عن التفكير حين توقفت سيارتهم في نهاية الطريق . استدار الملازم و نفخ ما في صدره من دخان سيكارته التي ما انطفأت على طول الطريق :
من هنا نذهب راجلين .
نزلو من السيارة بعد ما اخفوها خلف تلة , تأكدو من وضع اسلحتهم و راحو يتسللون في قلب الصحراء بملابسهم السوداء اللون التي ارتدوها ليذوبو في الظلام ويصعب ان تلمحهم عين.
كان الجندي و هو يهرول خلف الضابط والعريف ,يمني نفسه انه سيرجع الى القرية والى بيته ,بعدما يرجع من هذه المهمة ,فثبت مايكفي من الشجاعة والبسالة .
و العريف الذي قضى اكثر من 20 عاما في الجيش , كان يراجع خريطة المنطقة في رأسه ,محاولا ان يستجمع الخبرة المتراكمة عنده ليخمن اماكن تواجد العدو , فيما كانت تمرفي سماء رأسه كنيازك خاطفة,ذكرى وصورمغبرة لاشخاص اقتسمو معه رغيف الجيش المتحجر قبل سنين طويلة , كان يتسائل , من منهم مازال حيا و من منهم مات؟
بعد ان قطعو شوط ساعة مشيا , جلسو خلف تلة ترابية.
نظر الملازم في ناظوره الليلي .. طلت عليه صورة امه العجوز التي لم تنجب سواه, حوقل بحنجرة متحرقة , لم يكن يسمع شيئا سوى صوت الآمر : ليس امامكم الا النجاح . و هوالآخر لن يرضى الا بالنجاح.
لم يظهر في ناظوره الليلي شيئا , لا حركة ولا نار مشتعلة و لا اي اثر .
قال العريف : سيدي .. لا اعتقد انهم يتموضعون هنا .. علينا ان نتجه غربا ,فهناك قرى قريبة منهم يمكنهم ان يستخدموها للدعم .
تردد الملازم الشاب قبل ان يستسلم لرأي العريف الذي كان يعرف المنطقة افضل منه.
الملازم : اذا نرجع للسيارة .. ليس امامنا الا ساعتين او ثلاث. علينا استغلال الوقت.
همو بالرجوع ,شقو الصحراء حاملين معهم عددهم و اسلحتهم,ارتفعت اصوات لهاثهم ,امتزجت مع وقع اقدامهم و طرطقات اسلحتهم فعزفت سمفونية غريبة , الصحراء كانت تعزف تلك السمفونية.
الجندي كان يتمنى ان يرجعو بالسرعة الممكنة للمعسكر , لتطلع الشمس على يومه الاخر في الجيش.
العريف كان ينظر لكل الاتجاهات , راوده احساس ان هناك من يراهم ويراقبهم .
الملازم فقط كان يريد ان يمحي خيال والدته و صورتها التي تلاحقه و تظهر اين اتجه و لكن كان يفشل في كل مرة .
وصلو لمكان سيارتهم , كان يتقدمهم الملازم .. اتجهو للتل .
في اقل من ثانية وبين الزفير والشهيق , قبل ان يفهم العريف مايجري حوله , وقبل ان يلتفت الجندي ليرى الاشباح الظاهرة خلفه , وقبل ان يضغط الملازم على زناد مسدسه.
هجم عليهم الرصاص المسعور , في رمشة عين اخترقت احدى الرصاصات قدم الملازم واسقطته ارضا و هو يتلوى ويصرخ من الالم , اما العريف , فقفز بسرعة ذئب و اختبئ خلف التل فيما كانت بعض الرصاصات تلاحقه الى هناك و اطلق من مسدسه رصاصات في الظلام.
فيما كان الملازم يسحل نفسه , حومت حوله ثلاثة خفافيش سود مصوبة اسلحتها نحوه,بمظهر بشع ,لحى كثة و ملابس طويلة سوداء و عيون مستعرة .رفع الملازم رأسه .. مازالت صورة امه تتأرجح امامه و لكنه كانت تبكي هذه المرة.
راح اثنين من الغربان نحو التلة,فيما راح الآخر يجر الملازم على الارض .
الله اكبر ….الله اكبر ..سلم نفسك يا عميل و الا حرقناك.
صاح احدهم فيما كان الآخر يتموضع من الجهة الاخرى للتلة .
رد عليهم العريف باطلاق رصاصتين ,جر نفسا عميقا ..اخرج هاتفه النقال محاولا طلب الدعم ,كانت الخدمة معدومة تماما . ادرك ان لايوجد امامه خيار.
استسلم ..يا كافر ..ثم جاء وابل من الرصاص.
حسب العريف ما عنده من ذخيرة ,ستين رصاصة بندقية و ما تبقى في مسدسه .
20 سنة في الجيش .. لن يقتلوني ضباع في الصحراء .
قالها ثم جهز بندقيته للمواجهة و وضع مسدسه في حزامه ..صمم على ان تكون البندقية لهم والمسدس يكون له , تشهد بعد ذلك و اطلق رشقة من الرصاص .
كان يسمع رشقات الرصاص .لم يكن يعلم ما يجري,ماهو عددهم .
رفع الجندي يده المرتجفة و شغل جهاز اللاسلكي , ثم اخرج الكلمات بصعوبة من فمه بصوت مرتجف :
مركز …. مركز ….مركز ….تسمعني ؟؟ اجب..
و راح يطلق الندائات اليائسة التي كانت تتكسر على شفتيه و تبقى من دون اجابة .
كان التراب يغطي وجهه ورأسه ويديه , اثناء الهجوم الذي تعرضوله قفزبكل مايملك من قوة وركض عدة امتار فعثر و تدحرج ليجد نفسه في حفرة .
سمع من بعيد اصوات التكبير,ممزوجة بوقع الرصاص . قال مع نفسه
قتلوهم او اسروهم .. سأبقى هنا .
كان هذا قرار الجندي , سيبقى في الحفرة التي هيئها له ربه ,ليحميه من الموت . اخرج محفظته ورمق صورة ابنته الضاحكة, قل شيئا من ذعره .
يا هذه الليلة العينة .. لن ابقى في الجيش يوما واحدا بعد هذا, غدا صباحا سأكون عند اهلي.
قدماه ويديه كانت ترتجف .. بدء يبكي , نزلت دموعه جمرات و لسعت وجنته.لم يكن بينه وبين الموت الا هذه الحفرة,وربما ستكون هي قبره .
لمعت عيناه و مسك جهاز اللاسلكي حين انطلق من الجهاز صوت متقطع بعيد .
اسمعك ….. اس ….. ب .. اين
رد فورا :
تسمعني … نحن في نهاية الشارع المبلط .. تعرضنا لهجوم.
اشتعل نور امل في قلبه وانتظر ردا من الجهاز.
تسمعني …مركز …مركز
كرر ندائه مرات عديدة ,لم ينطق الجهاز اللاسلكي , صمت تماما ولم يسمع اي اجابة. كانه ينادي في حجارة .
اصوات الاطلاقات اصبحت اكثر حدة للحظات ,ثم انقطعت, سمع اصوات التكبير .
رفع رأسه قليلا ,في الظلام رأى بصعوبة الخفافيش الثلاث وهم يجرون جسدا , فيما كانت اخرى ممدة في جانب آخر.ففهم ان رفاقه وقعو بيد الخفافيش.
الله اكبر .. الله كبر ..كلاب عملاء
قال احدهم : كانو ثلاثة .اين ثالثهم ..هو ليس خلف التل.
فتشو المكان
حين توارت الخفافيش في الظلام بحثا عن الجندي,فتح الضابط عيونه و بصق الدم الذي كان يملئ فمه , نظر ليرى العريف ممدا بجانبه, اراد ان يتحرك فوجد رجليه ويديه مقيدة .
عريف …عريف ..
لم يجب العريف , حدق الملازم في وجه العريف المخضب ,هل هو ميت؟ ام لايزال حيا؟لم يستطع ان يميز ذلك.
لم يطلق العريف الرصاصة الاخيرة الباقية في مسدسه على نفسه,عشرون عاما في الجيش علمته ان لا يستسلم ,فضل ان يموت برصاصات الخفافيش او ينتصر عليهم فيحيى.
حين تقربو الخفافيش الى الحفرة وراحو يفتشون المكان بدقة,لم يكن الجندي يستطيع ان يوقف ارتجافه ,امتزج العرق مع التراب على وجهه ويديه فصار طينا , كان يريد ان يقرا ما يعرف من آيات قرآنية, فلم يستطع .
خيط من النمل وجد طريقه الى قبضة الجندي التي كانت تلثم التراب بقوة ,تسلل خيط النمل بهدوء الى القبضة و الى يد الجندي بعد ذلك.
وجد احد الخفافيش الحفرة و نادى على رفاقه :
تعالوا …هذه الحفرة.
التفت الخفافيش الثلاث حول الحفرة . بنادقهم كانت جاعئة لتقيئ ما تبقى من رصاص في مخازنها , ضيقو الحلقة حول الحفرة.
اخرج يا ملعون … الحفرة ستكون قبرك ..نادى احد الخفافيش
سقطت من يد الجندي المحفظة ,سقطت صورة ابنته وعفرت في التراب , حس بدبيب النمل الذي كان وصل الى رقبته و وجنتيه وجبينه ,حين محص النظر وجد الحفرة غارقة في سيل من النمل . .احكم يديه بقوة على البندقية التي لم يطلق رصاصة واحدة منها , قرر قراره الاخير ,القرار الصعب .. هز الصحراء والتلال بصرخة مدوية, قفز من الحفرة و لعلعت بندقيته .. اتسعت حفرته وراحت تمتد للافق, الى مالانهاية و هو واقف في منتصفها. رأى نفسه اكبر من الصحراء كلها.
ثلاثون ومضة..كانت تضرب الليل الدامس ذاك ..ثلاثون ضربة بمطرقة فولاذية.. ثلاثون صرخة مدوية .. ثلاثون سنة من الصمت كسرها الجندي. فتساقطت الخفافيش و تشظت اوصالها.
فتح العريف عينه .. وشهق ..
بلجت ابتسامة في وجه ام الملازم..
جثى الجندي في حفرته و ملأت رائحة البارود جوفه,افلت البندقية التي كانت اصبحت قطعة حديد منصهرة. اغمض عيونه و بسمل ..بسمل عدة مرات,وراح في غيبوبة.
فتح عيونه مذعورا حين ضرب ضوء قوي عيونه, وجد الآمر يقف مبتسما اعلى الحفرة ,الآمر مد يديه للجندي .
هات يديك يا بطل ..
مسك الجندي يد الآمر و خرج من رحم الحفرة.حين مسك الجندي يد الآمر ..شعر الآمربقوة في يد الجندي,لم يشعرها في يد اي عسكري آخر.
انبلجت الشمس من الحفرة وزحف دفئها الى كل مكان .
—