يقدم الروائي خضر عواد اخزاعي في عمله الجديد(منفى الجسد) الصادرة عن دار الضفاف للطباعة والنشر في الشارقة-بغداد 2015 مجموعة من الشخصيات التي رسمها بعناية لتكون موضع اتهام

كبيرتستحق معه الموت – وانتحاراً دون أن يثير أيَّ تعاطف لدى القاريء الذي يُقدر ويحترم الذات الإنسانية. وذلك يرجع لمجموعة أسبابٍ سنوردها في قرائتنا هذه . وقد نجح الكاتب في مغامرته وتفرَّد في أن يكون ((على وفق محدودية اطلاعي الشخصي بما قدمه ويُقدمه الكُتاب العراقيون)) الروائي الوحيد الذي تجرأ واطبق صيحة اتهام عالية لتلك الجوانب السلبية التي طفقَت تظرُ في شخصية الفرد العراقي وهو يواجه بيئته المتطرفة التي اجتمعت على تشكيلها حزمة من عناوين داخلية وخارجية، فكرية وسياسية، اجتماعية وعقائدية، تتفرع إلى هوامش كثيرة، كوَّ بمجملها العالم الشائك الذي أفرزَ لنا مثل هذه الشخصيات المستلبة، التي تسير بمحض ارادتها إلى موتٍ كان باستطاعتها القفز عليه وتخطيه لو أنها أبصرت الضوء الذي كان يومض ولو بشكلٍ خاطف في العتمة التي تحاصرها، أو التي تخيلت أنها تعيش فيها، وبعمله هذا أجد أن الروائي خضر عواد الخزاعي تفوَّقَ حتى على مشاعره الشخصية، وقدم لوعي القاريء رواية (على صغر حجمها) رافعاً فيها أصابع اتهام عديدة، ومُطلقاً صوتاً واضح الملامح إنسابت تردداته مع هيجان الحمى تَلَبَّسَ مفردات هدى وهي تحكي لقرائها قصة خطواتها التي مشت إلى مركز دائرة الموت الدرامية.خ
يستوقفنا أولا العنوان المطبوع باللون الأسود ((منفى الجسد)) الذي نتقبَّله بدلالته اللغويةٍ الأكثر شيوعاً وتداولاً ، على أنَّه الطرد أو الإبعاد القسري للكيان البشري-جسداً وروحاً – من عالمه الذي نشأَ فيه، إلى أماكن قصية وغريبة ويشمل ذلكٍ وبتطور فرضته الوقائع ، حتى الراحلين بمحض ارادتهم .. بَيْدَ انَّ توصيفاً آخر يعرضه خضر الخزاعي، يتحول فيه الجسد البشري، وبسبب ضغوطات متشابكة، عَالمٍ مقفلٍ هو في حقيقته منفى شديد القسوةِ ينأى بالروحِ بعيداً، ويمضي بها صوب آفاقِ لاتختلف بمؤثراتها عن تلك المساحات المادية المتصحرة، وذلك فيما أراه كان المرمى الذي أرراد الكاتب أن نلتفتَ إليه ونحن نقرأ تفاصيل أحداث روايته.
وسنتعق وفق ذلك تداعي الشخصيتين الرئيسيتين ، ولماذا وصلتا معاً إلى تقاطع الموت الذي انتهت إليه الرواية..؟
الأولى ((هدى)) البطلة الوحيدة التي يعيش القاريء أحداث الرواية وهو ينصت لصوتها من أول كلمة إلى آخر نقطة وقوف في النص، وهي عاشقة لم تساعدها الظروف في تحقيق أمنياتها الصغيرة والكبيرة، فعاشت مع حبيبها ((عمار)) علاقة أرادتها ان تكون خيالية، امتدت لعشر سنوات، ولم تُثمر إلا عن احتقانات غريزية، كانت نتيجة واردة بسبب انفتاح تلك العلاقة نحو اتصالات جسدية، مثلت المورد الوحيد لسعادتها .((أين أحضانك التي يذوب بها وجعي))145 .ويبدو أن البطلة لم تتمكن من الخلاص من هذا الشعور الذي تحوّلِ إلى ثقل أجهو بقوةٍ على ذاكرتها حتى بعد أن غادرت العراق، بانعطافة لم يتمكن الروائي أن يقنعنا بدوافعها، فترك بذلك فضاءاً معتماً ولَّدَ في ذهن القاريء تساؤلاً مشروعاً لن نعثر على جوابٍ شافٍ عن حقيقتة الدوافع التي على اساسها تَنَكَّرتْ (هدى) لعلاقتها تلك وهيَّ المجنونة بعمار، وقررتْ على حين غرة على طلب الزواج (بقاسم) جيرانهم القديم والمغترب في الدنمارك، ولو أنَّ الكاتب أضاء لنا ذلك . لأفصحَ عن جانبٍ مهم من جوانب قلقها. فأنْ توافقآلاف الأميال، ثم تعيش تفاعلاً تاماً، مع أول مماؤسة سليمة لها، نسمعها تعترف( غادرت الفراش ارتعدُ من البرد والغثيان )ص21 .ومثل هذا الحس يؤشر بصراحة إلى انها لم تفلتْمن آثار ممارساتها السابقة مع حبيبها، والتي تؤكد الصور التي نقلتها لنا ((هدى))لم تكن ممارسات طبيعية،بل كان يحكمها شكل من أشكال التطرف والإنحراف، والذي ربما تعودته(هدى)لطول تعايشهامعه .. وهذا كان أول مؤشرات القلق في شخصياتها.
أما المؤشر الأشد وضوحاً، فهو نفورها من العالم الذي انتقلت إليه، الذي يمثله زوجها ((قاسم)) ومدينة ((آما))الدنماركية التي هيَّ بيتها الجديد. فقد نظرت لقاسم نظرتين مختلفتين، الأولى أنَّه انسان مهذب أجهدَ نفسه كثيراً، مادياً ومعنوياً، من أجل اسعادها. فيما تتلخص نظرتها الثانية في أنَّه سيَّد متسلط عليها، .. ولهاتين النظرتين دلالة على عدم وضوح الرؤية لديها. وفيما يتعلق بمنفاها ((آما)) ففكرتها أكثر غرابة!يوضحها النص الآتي: ثمن الغربة هو الوحدة، والعيش في بيئةٍ غريبة تكاد تنعدم فيها كل العلاقات والمشاعر الإنسانية … وفضيلتها الوحيدة. أنك تعيش حُراً سيداً لنفسك بلا مُنغصات))ص28 .. وهي بذلك تُظهر عدم سلامة وعيها في قناعتها بأن يعيش الإنسان حُراً، سيداً لنفسه، في مجتمع تنعدم فيه كل العلاقات والمشاعر الإنسانيةّ.وكذلك لتنكرها لأعظم آمناً ومحترماً، وذلك ماكانت تبحث عنه قبل مغادرتها العراق.. والذي أعتقد أنه وهم عاشته بسبب غقم عاقتها بعمار، لأنها لم تكرُ فيما ذكرته ؛لماذا كانت تشعرُ انها محاصرة أو مطاردة؟ وهي التي لم تتبنى عملاً سياسياً مضاداً للشلطة، بل أنها تعترف وتُفصح عن قيامها بأفعالٍ هي خروج صريح جسور على مجموعة على مجموعة معتقدات راسخة في حياة العراقيين عامة مثل مغامراتها (غير المحتشمة على مرآى من الناس ! دون أن يسبب لها ذلك ضرراً حتى من رجال الأمن!
ويبقى الأسوء فيما فعلته (هدى)، أنها لم تحترم الرابط الإنساني الذي اختارته بمحض إرادتها، وتحولت بناءاً عليه مِن فَتاة عاشقة متهورة، إلى امرأة متزوجة، من واجباتها احترام الثقة التي منحها إياها ((قاسم)) وهذا ما لم تفعله، فقدمت مثالاً للمرأة غير السوية، فثمة أكثر من نصِ تستكر فيه ((عمار)) جسداً مازالت تحن لقسوته وتسلطه في إثارة غرائزها، ووصل بها عدم الاحترام هذا إلى ان يتلاعب خيالها المريض بالحقائق .. ففي مشهد تقوم به بعد قرائتها لاحد رسائل عمار، تستقبل زوجها بأجمل صورها ، فيتفاجأ بهذا التحول، لكنه لم يكن يعلم ولم يسمع همسها، وهي تخاطب عمار ()سنرى كيف تكون الخيانة))ص104 وذلك واحد من مفاهيم عقليتها الغريمية، كانت تُبدل الأدواربين عمار وقاسم، بحيث يتحول زوجها إلى عشيق، تخون معه عمار. وفي هذه الاثناء التي كانت هدى شبه ضائعة، رمت الأقدار في طريقها ب(لام والظلم الذي مرَّ على سنواتهاالعشرين، وسرقَ منها بيئتها، وأهلها وحبيبها، الذين قُتلوا أو اختفوا بظروف قاهرة، وحولتها في النهاية إلى زوجة مغربي قوَّاد استغل جمالها وحوَّلها إلى دميَّة إمتاعٍ تُباع وتُشترى، وقد تكون شوان الشخصية الوحيدة التي يمكنها أن تُقنع القاريء بمصيرها الذي انتهى إلى ان تتحوَّل إلى جثة مرمية من شرفة شقتها وغارقة ببركة دمٍ تثير الأحزان،و((شوان)) كان لها دور وحيد لاغير، هو أن تعجل في دفع ((هدى))لإنفصال عن العالم والمضي سريعاً في إلى نهايتهاالدامية، وثمة عامل مشترك يجمع بينهما، هو ذلك الخضوع الطاغي للإحساس بالظلم.وكأن ((هدى وشوان))كانتا تشعران أن حياتهما بعد الخسائر المتتابعة لايمكن لها أن تستمر، فكانتا مثل الذي يعشق آلامه، وذلك من أخطر مايعرض له الإنسان، وليس صعباً أن نلمس هذا الشعور المؤثر في سلوكهمن تبدا بداية سليمة لحياة ىمنة يوفرها بُعدها عن عوامل الضغط التي أقواها ((عمار))، لكنها تتردى لتصل بها الحالة إلى أن تقول (وفي هذه المدن ليس هناك سعادات دائمة بالنسبة لأمثالنا ، نعم هناك طمانينة واحترام لإنسنايتنا، ولكن ماذا تعوضنا كلُّ تلك الهبات؟)ص132 .
بهذه الخيبة ضيَّعت (هدى) طريقها، وذهبت تقودها رغباتها وولعها بالتعاسة إلى نهاية إشترتها بثمنٍ بخسٍ ..بعد ان تركت الفرص العديدة التي منحها قاسم لها، تمُرُّ مرَّ السحاب،، ولعل لحظة إهدائها سيارة شوفرليه سبورت حمراء تقف عند باب المجمع:(وحين التفتُ إليه كانت سلسلة المفاتيح تتأرجحخ أمام عيني، وجدتُ نفسي أنصهر بجسدي، تلفني غمامة حُزن ثقيل، هل تراه ينصب لي الفخاخ كي لا أهرب؟ لابُد أنه يعرف بأمر عمار، وإلا مامعنى كل هذا؟عليَّ ان أختار أو أحسم أمري، ربما لا أستحق كلَّ اهتمامه هذا)ص113 .بينما تتوافق مشاعرها مع نصيحة غير معقولة تسمعها من شوان العائدة تواً من آخر حالة بيع عرضها فيها زوجها القوَّاد.
-ارجعي كلَّ ما يقدمه زوجكِ لا يعادل لحظة واحدة مع عمار…
-ولكن ما1نب قاسم؟..يحمل ردها الغريب إسقاطات مساويء زوجها الحيوانية على شخصية قاسم الذي كان طيباً في كل تعاملاته مع هدى : تقول شوان:
كلاهما من طينة واحدة، الفرق الوحيد بينهما، قاسم أنتِ جئت له بقدميك، أما (جلال) فإنه استحوذ عليَّ بمكره، أسرني بطريقة حقيرة)ص122 .
وبمثل هكذا خروج على المنطق، كانت شوان تزداد انطواءاً وتتمسك باوجاعها، لذلك هيّ الأسوء في استسلامها المميت، ولم تستثمر وجودها في بلد أوربي مثل الدنمارك يطبق نظاماً اجتماعياً يوفر حماية كاملة للحقوق الشخصية .. ولم تتحلى بالشجاعة الكافية لتنتقم ولو بمحاولة يائسة وتثأر لكرامتها لتحافظ على امتداد رمزية بقاء عائلتها، ولا تذهب إلى فناء مطلق بانتحارها فألغت وجودها إلغاءاً تاماً غير مبرر .. وكم تمنيت لو أن الراوي خضر الخزاعي وضع قدم شوان على الطريق الصحيح،لقدم لنا عملاً متفوقاً ومقنعاً إلى أبعد الحدود لأنه كان سيجمع في روايته بين نموذجين ، لم يتحمل الأول (هدى)ظروف حياتها لأنه لم يمتلك وعيه كاملاً فذهب ضحية مركب نقص الوعي الذي أجهزَ بانتهازيته عليه..
فيما كان الثاني متمسكاً ومتعلقاً بمفردات مأساته وحولها إلى دوافع قوة وحصانة تحرره من معتقل الاستعباد وتحفظ له وجوده، ويكون بذلك قد وازن بين قناعتين وأنصف الروح الانسانية التي تستحق الوقوف بجانبها ومؤازرتها والإنتصاف لها، لكنها قناعة الروائي، التي ربما أراد بها ان يؤشر -وبعلامات كبيرة- تلك السلبية المميتة والخطرة التي أوحتها له مشاهد التردي التي لم يتنازل عنها التأريخ العراقي، على رغم المتغيرات التي حدثت وتحدث في الواقع الحياتي الجديد.
—