صوت ما يهمس في أذني كل مساء، شيء ما يدفعني لأن أرمي كل ما بي وأمطره حبرا على ورق، أكتب عن الشيء واللاشيء، المهم أن أشبع ملكوت الروح بنفس الكتابة.
الكتابة تلك الرقعة الطيبة التي ترتاح إليها النفوس،
مذ كنت طفلة، كنت أستسلم للتمعن في كتابات والدي، صحيح بابا لم يكن كاتبا ولا شاعرا ولا خطابا، كان موظفا عاديا، لكنه يتقن كل شيء، ويكتب عن كل شيء، وأول رسائل الحب التي وصلتني كانت من أبي، وكل رسائل الهاتف الخلوي الأول الذي امتلكته في حياتي كان يكتبها أبي لي،
كان يحب أن يفضفض عبر الكتابة، فكان يتقن تلحينها حسب النغمة التي تروق له،
كنت في الثانية عشر من عمري حين امتلكني شعور بحب الكتب والمعاني والحكايات، كنت أتوجه إلى المكتبة بعد أن أرضي أمي بساعة أقضيها في دور حفظ القرآن، فأمي ملتزمة جدا وما كان يرضيها شيء غير حب الله والتقرب منه، وأنا كنت أبحث عن رضا ربي ورضا أمي وأهرب لأرضي شغفي بين الروايات والدواوين،
هناك قبالة جامع سموه “الرضى”، تقع المكتبة تحدها من الجانب الجنوبي دار ثقافة ومن الجانب الشمالي ملعب كرة قدم وحذوها المدرسة التي كنت أتعلم فيها، في قلب مدينة مفعمة بروح الفن التشكيلي والتاريخ والطهارة،
كنت أمضي يومي السبت والأحد في معركة لالتهام الكتب في رقم قياسي، اذ لم يكن بامكاني استعارة سوى كتابين في الأسبوع فكنت أميل إلى فن الحكايا في الكتب وأقرأ بنهم أجزاء شيقة للحكواتي التونسي عبد العزيز العروي، وروايات المسعدي وكتب التاريخ وأستعير كتب الأدباء المصريين أمثال نجيب محفوظ وطه حسين ودواوين شعر قباني ودرويش،
كنت أطلب المزيد من الوقت للانتهاء من قراءة الكتب كشحاذ يتسول قوته،
ونمى شغفي بالمطالعة وتطور معه عشقي للكتابة، واللعب بالكلمات والصياغات،
وأصبحت لا أقوى على كتابة حرف الا عندما تضرب ساعة منتصف الليل، يطل القين ويغريني بوحيه وتمطر نجومه شوقا للأحرف والأبجديات على مفاصلي،
الكتابة كانت ولازالت تلك الحافة الزلقة التي تدفعني للسقوط على قماشة الحلفاء وتجعلني أهرب بكل طاقتي من أحاسيس وحكايات إلى بؤرة الحبر،
هرب بمثابة البداية الجديدة نحو صفحات جديدة وعالم جديد لا محال.
وحدها الكتابة توثق الصور وتفاصيل التفاصيل، وتجمع رحيق الفنون لتخلق فنا مختلفا،
بتت مدمنة على الكتب والجرائد وكل الأوراق التي تتضمن أي خربشات كانت،
مدمنة أنا حد الموت .. وأبي سبب إدماني ..
فالحبر يسقي الروح ليزهر أوراقا خضراء يانعة فينا ويثمر زهرة تتفتح كلما تضاجع القلم والورق،
والكتابة كنزي الذي أحميه كما تحمي الأرملة صغارها،
ووحدها رفيقي فرحي ووجعي في غربة بلا صديق صادق،
والكتابة شفاء لكل داء وتشفي من كل وجع،
ووحدها تدفئ برود الدنيا وخلوها يوما بعد الآخر من المشاعر،
ووحدها ترسم كل يوم وكل ليلة واحدة من حالاتي العديدة وتمكنني من دراسة ذاتي وتحدث طوفانا جنونيا في أجزائي،
ووحدها المستودع المنسي لخرافاتي وأساطيري وأسراري..
—