ان التصدي لهذا العمل المتزامن في (تأليفه واخراجه) الموسوم بـ (جُعبان) . يعيد النظر في انتزاع الفنان لمتفاعلات تجربته الفنية من مرجعيات لا يمكن ان تنهض بها جاهزية النص فاستنطاق النص استنطاق حي لا يحييه ما مضى ما لم يكن وليد لحظته الفعلية ، ولا يُختلفُ في كون الكثير من التجارب والمواقف الانسانية تكرر ذاتها ، وهذا ما يجعل جل ما سلف كتابته من نصوص مسرحية ، حية ليومنا هذا. ان زمن التحولات السريعة الذي نشهده اليوم ما عاد يتماشى مع النص الجاهز ، ولم تعد جاهزية النصوص قادرة على اغناء مجمل حاجات الإنسان، ورصد متغيراته الحياتية او اشباعها لذا فإنها تقف في كثير من الأحيان حائرة في إيجاد مثيلها التعبيري ، أو منقودها الفكري . أو ما يتماشى ومقاييس التطلعات التي تلبي حاجة الأسلوب الإخراجي الذي ينحو الى البحث عن مرتكزات جديدة في تأسيس الخطاب الذي يسعى الى المغايرة وتجاوز المستهلك او المتكرر . على وفق ذلك شهد الاخراج المسرحي في مدينة البصرة عبر المنجزات الاكاديمية التي تبناها اساتذة في كلية الفنون الجميلة – جامعة البصرة ، واشير هنا بالتحديد الى التجارب الاخراجية التي قدمها الدكتور (ماهر الكتيباني) فقد اعتمدت رؤية جديدة تمزج بين النص المؤَلّف والجدة في الاسلوب الاخراجي الذي ينحو الى الافادة من الستراتيجيات التفكيكية في كتابة النص و في بلورة اداء الممثل و تشكيل القيم البصرية وتفاعلاتها . وعلى الامتداد ذاته يقف الدكتور (حازم عبد المجيد) في محاولة المزواجة بين التأليف والإخراج ، او التطلع الى تأسيس أسلوب إخراجي متفرد .ولعل هذا العمل الأخير موضوع النقد ، يمثل انعطافة مهمة على مستوى محاولة تأسيس اسلوب اخراجي واضح الملامح . وعلى الرغم من انفصال المخرج عن عمله الاخير هذا بوصفه مؤلفاً واكتفائه بالصفة الاخراجية لكنه قدم اضافة مهمة للنص اتضحت في استبداله للعنوان ، فقد احلّ مفردة (جعبان) موضع مفردة (ارقام) فكانت اضافة نوعية لنص المؤلف البصْري (كريم العامري) الذي تميز بكتابته لنصوص مسرحية واعية تترجم معاناة الانسان العراقي برؤية جمالية ملفتة بدءاً من مسرحية (كاروك) وما تلاها من نصوص عديدة .ان عتبة النص المتصدرة بمفردة (جُعبان) تتسم بدلالة تعطي نص المؤلف وافكاره بعداً سوسيوثقافياً يؤسس الى عمق تعبيري يحيل المشار اليه الى صورته الحقيقية ، في المقاربة بين (داعش) جُعبان .فمفردة (جُعبان) باعتقادي هي من الألفاظ الدارجة التي لا يعرفها الا ابناء جنوب العراق ، وهي جمع لمفردة (جُعبانه) وتشير الى صنف من النمل الاسود الذي يمتاز بغلظته وقسوته وكبر حجمه ، وهذا النمل معروف بعدوانيته ، ويتميز بالتصاقه العنيد بجسم الانسان الى الحد الذي تنتهي في كثير من الاحيان محاولة الخلاص منه بانتزاع جسده دون الرأس ، وبذلك يبقى متشبثاً في موضع المُهاجَمة ، فينتج عن عملية التخلص منه – في بعض الاحيان – اقتلاع شيء من طبقة الجلد.
ويأتي العرض ليكون نصاً موازياً لدلالة العنوان ، لكنه يُفيض في مفاهيم ما بعد الحداثة لكي يجد المعادل البصري لهذه الدلالة . وفي الوقت نفسه يقدم صورة النقيض الذي تستقرئه مفاهيم الحداثة وتنسجم معه .
مركبات صورية :
على وفق ذلك يبنى خطاب التضاد على مجابهة العرض بالعرض ، ليعبر عن الثيمة الاساسية فالمفاهيم ما بعد الحداثية غالباً ما تنزع الى تذويب الثوابت واشاعة المتحرك والاندفاع الى الارداف الذي لايتقبل السببي او التبريري او المتسلسل على وفق المنطق ، وهي بذلك تفضي الى التشتت والتلاشي المستمر ، كل ذلك جاء ليرتسم في بنية اخراجية منفصلة على الرغم من وقوعها مع قرينتها – اي مع تلك البنية الاخرى المتبنية للمفاهيم الحداثية المضادة في الشق الاخراجي الثاني – لذا فقد وضع المتلقي في موضع اضطراري يدفعه لمتابعة عرضين في آن واحد ، ولكنهما ليسا منفصلين الصلة عن بعضهما ، فقد تجاورا قصدياً لكي يتبنيان خطاب التضاد ، وهذا ما منح الاسلوب الاخراجي جدته في اشتغاله على بنيتين مختلفتين في آن واحد ، تميز كل منهما بفلسفته المتعارضة – وهي مهمة لم تكن باليسر المتاح – ولكنها تكللت بالنجاح المعلن عنه بإجـــماع النقاد .
ان خطاب التضاد عبر رؤى الحداثة وما بعد الحداثة تكشف عنه رؤية اخراجية مركبة ، تصل في احيان كثيرة الى تجاوز التركيب والازدواج الى التشظي والتفتت ، فالاخراج عبر مركباته الصورية ينزع الى ان يكون جملة من الاطراس ، ليُكوّن كل طرسٍ اثراً تنتجه الحركة المتناقلة بين صورة واخرى وهي ترسم مجتمعة في الان ذاته مسار الخطاب ، فالصور المتشظية التي ترسم في الفضاء المسرحي خطوطها وتعبيراتها ، تمارس عملية الكتابة فوقع بعضها البعض ، في عملية لا انقطاعية ، اشد ما يميزها تعددية الخطاب ، وهذا ما يجعل من الصور اشبه بالاطراس ، فصفة الاحلال فيها تتغلب على صفة الامحاء ، وهذا هو التفرد الواضح في تشكيل المنظومة البصرية المتحركة التي يتبعها المخرج ، فهو على وفق التشظي الصوري الذي يصيغ من خلاله المنظومة البصرية للعرض ، يجعل من كل تشظية صورية قادرة على البوح بما في اعماقها من افكار ، ولكنها لا تمحو اثر سابقتها ، وتتلو ذلك كل الصور المتجاورة او المتلاحقة التي تجنح للفاعلية نفسها ، فينعكس ذلك على ايقاع العرض المسرحي الذي لا يترك متنفساً للحظة خالية من الحركة والاداء ، وهذا ما يجعل العرض حركياً بامتياز .
وقد اجاد المخرج الدكتور (حازم عبد المجيد) في ادخال المفهوم ما بعد الحداثي والافادة منه على مستوى الصورة البصرية وطبيعة اداء الممثل في خلق هذه الدينامية المتفجرة . ولذك يُلاحظ ان (فكرة الهامش ) – مابعد الحداثي- تترجم في منظومة العرض من خلال مواضع متعددة ، و نقيضها (المركز) ــــــ يكون معبراً عن ذاته بوسائل مختلفة .
فمفهوم (الهامش) يترجم ذاته عبر ما يأتي : (اولا ً- اختيار الشخصيات (الثانوية) لتكون تجسيداً للهامشي ، ثانياً – وضعها- اي الشخصيات الثانوية- في موضع التبعية للشخصيات الرئيسة فلا تتقدم عليها ، ثالثاً – اقتصارها على اللغة البصرية الناتجة عن الايماءة او حركة الجسد ، رابعاً- انتماؤهم لما هو دون الانسان – يتجلى ذلك في اغلب الاحيان عبر ايحاءات الموسيقى التي تصاحب حركة هذه المجاميع مشيرة الى ما يرجعها الى اصلها الحيواني خامساً- معارضتها للهوية (فقد جاءت التشكيلات الجسدية التي ابتدعها المخرج لتكشف عن جسد متحرك ولكنه يحوي عدة رؤوس ، و في حالات أخرى تمتزج الأجساد فتمزق وحدة الذات الإنسانية وتطمس هويتها المنفصلة . سادساً- انتماء بعض هذه الشخصيات إلى مخلوقات لا انسانية مثل الشياطين ، و الاشباح ، وقد برز ذلك في طبيعة الزي الذي ترديه هذه الشخصيات ، او طبيعة الماكياج الذي يبعدها عن السمة البشرية بشكل تام ، او انتماءها إلى ( الحشرات ) – كما يكشف عن ذلك ما تصوره الممثلة ( هبة الله هاشم ) التي كانت بارعة في استخدام جسدها فاستطاعت بكل دقة ان ترسم صورة للعنكبوت وهي تتناقل بكل رشاقة ومرونة لتهبط من اعلى خشبة المسرح الى مدرجات المتفرجين ، او في تدليلها على فكرة الهامش وهي تتناقل بخفة العنكبوت على اجساد الممثلين واحدا تلو الاخر وقد شكلوا باجسادهم صورة بصرية معبرة ، تكشف بعمق عن مستوى الاعلى والادنى او (الهامش) و(المركز) في موضع من مواضع الاضطراب وقد صار ما هو انساني مهمش في مرتبة (الادنى) وماهو غير بشري (مركزاً) في مرتبة الاعلى .
اما المركز كموجود يتصل بالمفهوم الحداثي فهو يشكل صورة تحاول ان تنبري خارج اطار الطرس ، انها تسعى للمحافظة على ذاتها خارج اطار التفتيت ، او الخلاص من هيمنة التسطيح او المضاعفة المتعارضة مع الهوية .
لذلك تتجلى البنية الاخراجية المستفيدة من هذا المفهوم بعرضها لما يأتي تأكيداً على خالصية المركز :
اولاً- تقديم شخصيات تتصف بسمة البطولة ، ثانياً – غالبا ما تحتل موضع المتقدم في صورة العرض ، ثالثاً- اتسامها بكل ما يعقد صلة بصورة الانسان الواضحة شكلاً وسلوكاً وفكراً ورغبة . رابعا- اعتمادها لغة الحوار الواقعي ــــ وغالباً ما تكون لغة الكلام لا لغة الجسد . خامساً- اعتماد الشخصيات لدلالات تعلي من سلطان المركز – كالتوسل بالاولياء الصالحين ، او التركيز على جوانب القوة عبر الصلة بهم ، ويرسخ لهذه الفكرة كذلك مضمون الانشودة التي غالبا ما ترددت على اسماع العراقيين بحماستها وتأكيدها على عقد الصلة بالارض والانتماء لها والتضحية في سبيلها وما يرافق ذلك من قدسية الارض بوصفها قيمة ترتقي لمرتبة الاولياء الصالحين : ( لا … لا .. لا والله والعباس .. نوكع زلم فوك الزلم لمن يشيب الراس … هاي الكاع ما تنداس ) .اذن فالمركز يبرهن على ذاته بوصفه مقدساً ، وهو يكرر هذه القدسية ايضاً عبر نداء المؤذن الى الصلاة ، وما يرافقه من فعل الوضوء ، مثلما جسد هذا الفعل الممثل (مجيد عبد الواحد ) وقد كان هو و الدكتورة ( ثورة يوسف) ثنائياً تمثيلياً رائعا ًفي امتلاكهما لادوات التعبير والمطواعية والتناقل الجميل في الاداء . عبر هذه المجابهة بين البنيتين الاخراجيتين المتعارضتين ومفاهيمهما الحداثية وما بعد الحداثية تأسس ( خطاب التضاد) الذي يترجم تصوراً لرؤى (ميشيل فوكو) للخطاب لا بوصفه تجسيدا ً لـ ” الذاتية الخالصة ، بل هو فضاء لموقع وأنشطة متباينة للذوات. إنه الخطاب – الموقع كساحة للفعل ، والصراع والرغبة، إنه فضاء الانتشار والتوتر و التوزع ، مما يجعله مسرحاً للاستثمار، وإستراتيجية تحدد المكتوب والمنطوق والمرئي”.