( قراءة لمقدمة “د. احمد ابو مطر” لکتاب”تفجیرات الحادي عشر من سبتمبر”1″).
( فأن طال فلا تبل، وأن تشعب فلا تکترث، فإن الأشباع في الروایة اشفی للغلیل، والشرح للحال ابلغ الی الغایة، وأظفر بالمراد، وأجری علی العادة)
-ابو الحیان التوحیدي-“الأمتاع و المؤانسة”
( نحن نتکلم کثیرا حول تعصبfanaticism الأسلامي ولکن الأسلام الرادیکالي ، احدی تیارات الاسلام ولیس کل الأسلام…الأسلام لذاته عالم آخر… ولکن الـ”اوم” دین آخر، لم یجربه الإنسانیة کأدیان و الطوائف والمجموعات الدینیة العتیقة الأخری، ولا أحد یعرف ما یحمله في ثنایاها من مخاطر، لهذا علینا ان نکون یقظین”2″).
-هاروکي موراکامي-
عندما یسأل”مارتین آمانز هاوزر”، “هاروکي موراکامي”، الروائي الیاباني المعاصر، في جزء من مقابلته له في طوکیو، حول کتابه الخاص بتفجیرات منظمة “اوم” الأرهابیة، یقول “هاروکي موراکامي”:
( انا ضد إعدامهم”اي اعدام الذین قاموا بالعملیة الأرهابیة،سنة 1995-ی.ع-“، لأنهم وحدهم شاهدین علی ما ارتکبوه من جرائم، لهذا علیهم ان یعیشوا، لأنهم اذا عاشوا فأن من الممکن أن نکتشف في المستقبل الدوافع الرئیسیة حول ماقاموا بها، ولکن أذا ماتوا سیضیع کل المعلومات الذي یعرفونها حول خفایا عملهم..اعدامهم لیس إلا انتقاما اداریا للمجتمع منهم).
وفي جوابه لسؤال آخر حول نفس الموضوع، یقول:
( مجتمعنا مليء بأشخاص غیر مرتبطین بأي شيء، هؤلاء یریدون إیجاد شيء یتمسکون او یتشبثون به..في حین ینظرون الی المسیحیة و البوذیة کأدیان جامدة متحجرة غیر قابلة للتغییر، لهذا یبحثون عن شيء جدید مفعم بالحیویة و العنفوان..هناک دائما في أعلی الهرم شخصا یترأسهم و ویقوم بدور الحکیم و العارف بکل شيء، هو الذي یستطیع أن یأخذ او یعطي ما یشاء!؟… ما أراد منظمة “اوم” تأسیسه هو نظام شمولي آیدیالي لدرجة ان ولجت فیها لا یبقی لدیک أي هم، أو سؤال، و لاتحتاج الی التفکیر. الذین ینخرطون في المنظمة یرتاحون کلیا، ببقاءهم و تعلقهم داخل المنظمة منعزلین عن العالم… من البدیهي ان المجتمع الذي نعیش فیها، مليء بالفوضی و عدم التناسق، ولا یستطیع تقدیم شيء جدي لأفراده، ولهذا یحس الجمیع باضطرابات نفسیة عمیقة مع ضیاعهم في الوحدة…).
وأخیرا عندما یسأله” مارتین آمانز هاوزر”:
( قتلت الـ”اوم” مایتراوح 10-20شخصا وجرحت عدة أشخاص، ولکن عندما ننظر الی الأدیان الکبری، نتأکد من أنهم أقترفوا جرائم کبیرة، بحق الأنسانیة…؟).
یقول “موراکامي” في جوابه:
( المشکلة مشکلة زمنیة، إستطاع ألمسیحیة أن تصمت منذ بدایتها لیومنا هذا، والبوذیة، زمن ظهورها و استمرارها اطول. والإسلام حسب التسلسل الزمني اقل من کلاهما. وکلهم بلا إستثناء قاموا بحروب دمویة و قتلوا و أبادوا مجامیع بشریة، ولکن الأهم و ألمهم هو بقاءهم لحد الآن؟!).
بعد قرأتي لمقدمة الکاتب والاکادیمي”د. احمد ابو مطر” لکتاب”تفجیرات الحادي عشر من سبتمبر”، وما رأیته من جدیة تساؤلاته حول مسائل هامة و جذریة و عمیقة، احببت ان افتح بعض المنافذ و محاور جدیدة ان أمکن او استطعت، من خلال طرح تساؤلات حول نفس المواضیع، في ثنایا ما طرحه بعض المفکرین و الکتاب.
بدأت من “موراکامي”، الذي لا یخفي مخاوفه من خطورة الطوائف و الجماعات الدینیة الجدیدة کـ”اوم”، مقارنة بالأدیان العتیقة؟!.
ونحاول في سیاق مقالتنا، کنص قابل للقراءة و ألتعقیب، بما یحمله من اختلافات و تناقضات و امکانیات للحوار و التساؤل و الاستنطاق، بعیدا عن امبریالیة التصور و السیطرة، في فضاء رحب، بعیدا عن الدوغمائیة و الوثوقیة و الیقین بما هو مسطور، مع علمي بصعوبة رفع الحجاب، علی ماهو محجوب، لروئیة آلیات السلطات الرمزیة، لعالم لا یرید المکاشفة، ولیس من مصلحتها المحادثة حول کابیتالها السیمبولي، الذي یستمد منها قوتها وهي سر وجودها و أستمرار بقائها!؟. ولکن یبق الحکایة و الاسطورة الجمیلة و الجذابة، ناقصة و غیر منسقة، اذا لم نعرف ما یقع وراءه من آلیات لابرازه، وغیر ذلک من اسرار و خفایا لانراها و لانحس بها، اذا لم نکن مغامرین بالتغلغل الی الاعماق!. الیس من الجمیل أن نستمع الی حکایات “هانیبال القرطاجي” وکیفیة اجتیازه للجبال”الب”، و وصوله الی ابواب عاصمة الرومان مع جیشه، ولکن یبقی جمال و روعة القصة لحین نسمع الفصل المحجوب، وراء بطولات “هانیبال القرطاجي”، وهو التدمیر و التخریب الکامل لمدینة”القرطاج”، وقتل اهلها من قبل الرومان، جزاءا علی ما قام به “هانیبال” بحقهم، وهنا یکمن السؤال المحوري حول ماهية بقاء اسم “هانیبال” و ماذا یفید اسمه، کبطل تأریخي مقارنة بتخریب مدنیة و حضارة کاملة للقرطاجیین.. یشیر المصادر التأریخیة ان هدم القرطاج بالکامل إستغرق سنة کاملة، لکي لا یبق أي رمز او دلالة او حتی حجر، کأشارة لحضارة کانت هناک یوما ما في قرطاج.
ولکن علینا ان نتریث و نتعمق اکثر، لکي نری الوجه الآخر لصورة قرطاج قبل هدمها، یقول “کولن ولسون”:
( أما کهنة قرطاج، فکانت طلباتهم أشد قسوة و ترویع من کهنة الصینیین، فهم “کهنة قرطاج” لکي یعطوا خیراتهم المتمثلة بالمطر، فلا بد أن یأخذوا الکثیر من دماء البشر، فالإله “بعل” لا یتلذذ إلا بلحم الصغار من الذکور، ولایرتوي إلا من دمائهم، أما الألهة الأنثی “شورا” فکانت ارق مزاجا، وکانت تشبع من لحم البنات الصغیرات. وکانت الغیرة تدب بین”بعل” و “شورا”، رغم أنهما کانا یتزوجان مرة في کل عام علی شاطيء البحر. بعدها یفترقان و یغالي کل منهما في طلباته من عابدیه، ففي لیلة عرسهما یجمع الکهنة و الکاهنات أعدادا کبیرة من الصغار الذکور و الإناث، لیتم ذبحهم من بعد ذلک علی ضوء القمر، وتصفی دمائهم في أواني من الذهب، فیشرب جمیع الکهنة لتصل النشوة الی ذروتها في نفوس الآلهة ثم یبدأ الرقص علی ضوء نار شواء الأجساد الصغیرة”3”).
أي لم یکن البطل المحارب”هانیبال”، إلا انعکاسا للسلطة السیاسیة و الکهنوتیة والدینیة للقرطاجیین، بتعطشها للدم و القتل، وعلینا أن لا ننسی إن ما تنطبق علی “هانیبال” والسلطة السیاسیة و الکهنوتیة القرطاجیة، تنطبق علی جمیع الحضارات البشریة، بأستثناء الناس البسطاء من الشعب الذین لیس لهم دخل بما حصل في تأریخ أسیادهم، من الرؤساء و السلاطین و الأباطرة و الملوک و الخلفاء و الأئمة و الحاخامات و القساوسة و الکهنة وما إلی ذلک من أسماء، وکانوا أخیرا و آخرا هم ضحایا بما فعله الآخر بأسمائهم، کعصبة أو جماعة أثنیة أو عرق أو قومیة…إلخ. هناک إشکالیة في کل التسمیات و التصنیفات للإنسان ککائن یجرد من إنسانیته، من أجل إنتمائه لجماعة أو فصیل أو جماعة ما!؟.
ألیس من العجب في ظل المستجدات العلمیة و ألتغیرات الحضاریة و الفکریة و غلوبالیزم المزعومة، أن یزداد تعصب الأنسان یوما بعد یوم، ویتشبث اکثر بعرقه، قومیته، دینه، موروثه، تأریخه الخرافي و الأسطوري، بدون قراءة او تفکیک خفایاها او استنطاقه، کل هذا یمسخ الأنسان من انسانیته و یبعدها عن عمق الأنطولوجي للکینونته.
في حین علینا أن نعید التفکیر علی نحو یؤدي الی تغیر علاقتنا بالوجود و الحقیقة، لإجتراح إمکانات جدیدة لإیجاد أرضیة انسانیة اکثر غنی و اکثر معرفة و أکثر قوة و حضورا، سواء في علاقتنا بذواتنا او بالغیر و العالم المحیط بنا، لنکون جزءا من العالم و یکون العالم جزءا منا. ألا یجدر بالإنسان اینما کان ان یستیقظ من سباتها العقائدي و الإیدولوجي و الدیني، لزحزحة جمیع المقولات و تفکیک جمیع الأشکالات الواقعة امامه، عثرة نحو التقدم و حیاة اکثر جمالا و انسانیة، من لا إنسانیة و قبح البشاعات و الجرائم الذي نراها کل یوم.
الا ینطوي إقامة حواجز فاصلة، بین القومیات و الأدیان و الثقافات و ألحضارات، علی خداع الذات قبل الاخر؟! ألیس من العار، أن نفتخر بحروب و فتوحات وما الی ذلک من هجمات و صولات و معارک عسکریة، قام بها من قام.. ناسین الغنائم الذي حصلوا علیها من إناث و بهائم و مال الغیر..ناسین بکاء اطفال فقدوا آبائهم و دموع إناث قد اغتصبن.. هل نستطیع ان نکون، غیر مبالین بکومات من اشلاء البشر، وننسی المناظر المخیفة و المشاهد المرعبة لقلاع من رؤس مقطوعة لأناس لا حول لهم ولا قوة و لا طاقة لهم علی الردع والمقاومة. هل یحق لنا ما لا یحق لغیرنا؟!. الم یفعل المغول و التتر و السلجوقیین و العثمانیین و الصفویین، ما فعله غیرهم من قبلهم. فإن تجمیل او تغیر التأریخ و تحریفه بخطابات طنانة و صور جذابة من بطولات مزیفة لا یسدی نفعا ، و لا یغیر من بشاعة ماجری من مذابح حقیقیة و واقعیة!؟
قبل اي شيء علینا أن نقراء التأریخ من جدید و نحاول استنطاقه، کما یحاول الکاتب “نادر قریط” و غیرهم من کتاب جدیین، حریصین علی قراءة مغایرة للموروث التأریخي. یقول “نادر قریط” في مقالته بعنوان”تأریخ بدون تأریـخ”:
( لابل ان الغرناطي یرسل لنظیره في مملکته آرغون یعتب علیه لأنه لم یرسل له ثوبا”کسوة” وعده به!! فإذا کنا عاجزین عن تصور معرکة نافاس دي تولوسا، وهي تبتعد أقل من قرنین عن المؤرخ العقلاني “ابن خلدون”. فکیف لنا ان نصدق روایات الفتوحات. ومعارک ابن الولید و ابن العاص؟؟ کیف یمکننا اعتبار روایات حدثنا فلان عن ابیه عن جده تأریخا، ناهیک عن الأحادیث المنقولة عن آدم و ابلیس والتي لاتقل بلادة عن روایة قد تنسب الی النیاندرتال!! أو تصدیق أقاصیص “الواقدي” التي تذکر أن النبي محمد تکلم و هو إبن شهر، ورمی السهام و هو إبن ستة أشهر!! لهذا تعجب الکاتب الإیراني المرحوم “علي دشتي”، من إهتزاز إیوان کسری البعید” أو خسوفه” أثناء ولادة محمد، وتسأل لماذا لم تهتز الکعبة الملیئة بالأصنام، وتصبح آیة لقریش، تقنعها بالدعوة و تنقذها من الوثنیة و الشرک، وهم الأقربون و الأولی بالمعروف؟؟”4″).
هذه هي النقد التي نحتاج الیها، لمعالجة مواضیع تاریخیة شتی و التعامل معها معاملة تفکیکیة ارکیولوجیة، للولوج الی اعماقها و الوصول الی ما حجب من وقائع تأریخیة، قد تحول علی مر الزمن او بفعل فاعل الی ماورائیات غیبیة، لا تقل غرابة عن حکایات الجن و الغیلان و السعالي.
یشیر “د. احمد ابو مطر” في مقدمته الی مشاکل هامة، من مشاکل التدریس بالرجوع الی نصوص تاریخیة عدائیة، والأستناد الیه لتکوین الشخصیة الحاقدة و الکارهة للغیر، أي هناک منهج دراسي مبرمج لتکوین الشخصیة “الشیزیة” الغیر سویة، بأغترابه بین واقع متغیر یطل الیه من کل جانب من جوانب الحیاة، وبین موروث قمعي متسلط، یجبرها علی الرجوع للماضي عقلا و فکرا، لرؤیة الحاظر کغول مفترس، متجسدا بشکل أساسي في الغرب و حضارتها، ومن بعد جمیع اعوانها، وبهذا یتحول الطالب الی کائن، یفکر دائما بالإنتقام من عالم مدني و حضاري، یرید أن یمحو موروث اسلافه، کما یتصور!؟.
یقول”د.احمد ابو مطر”:
( وفي کل مراحل التعلیم یلقن الطلبة قول المتنبي:” السیف اصدق أنباءا من الکتب/ في حده الحد بین الجد و اللعب” و استهزاء المتنبي من ذوي البشرة السوداء، الذین خلقهم الله تعالی هکذا:” لا تشتري العبد إلا و العصا معه…إن العبید لأنجاس مناکید”… وهکذا فالحیاة الیومیة للعربي المسلم و البرامج التعلیمیة التي تربي علیها منذ الصغر، مناهج و حیاة تغذي العنف و القتل……لایمکن إغفال دور الأنظمة العربیة القمعیة المستبدة في تغذیة حالة العنف التي تسود أغلب اوجه الحیاة العربیة، فهي تصادر أبسط حقوق الإنسان العربي، مما حول حیاته الی جحیم لایطاق، وبالتالي اصبحت حیاته لامعنی لها، والموت افضل منها).
وأیضا یقول”د.احمد ابو مطر” في سیاق مقدمته:
( کما انا علینا ان لا نستغرب هذا العنف الإسلامي في ظل هذا الجهل و التوصیة الخاطيء الیومي، في ما لا یقل عن مائة مسجد في أقطار العربیة، یتردد فیها یومیا دعاء” اللهم نصرنا علی النصاری و الکفار و الملحدین، اللهم دمر اعداءک اعداء الدین. اللهم یتم أطفالهم. اللهم رمل نساءهم. اللهم هدم بیوتهم..الخ).
ألیس من المستحسن و ألأفضل ان یکون الناقد بعیدا عن العنصریة و التعصب و الأنحیاز کـ”د. احمد ابو مطر” في تشخیصه لحالة الشذوذ و الهلوسة الدینیة المتطرفة..ألیس من ألغریب أن لایری ناقد، کـ” مطاع الصفدي” بما یملکه من آلیات فکریة و معرفیة، في بقعة محددة من احدی اطروحاته، ما یراه ألأساتذة ” صادق جلال العظم، د. محمد عابد الجابري، علي حرب، د. نصر حامد أبو زید، محمد ارکون،هاشم صالح، جمال البنا، فراس السواح، د.احمد ابو مطر، شاکر النابلسي، باسم النبریص، د.رجاء بن سلامة، نادر قریط، جورج طرابیشي، التیجاني بولعوالي…. وغیرهم من الذین یستطیعون رؤیة ما یجب رؤیته من الخفایا الماضي الموروث و الحاضر المؤلم، بما یحمله في جوفه من تناقضات و أختلافات و تشنجات عصابیة.
یقول “مطاع صفدي”:
( فلا یمکن أن یظهر عنترة بن شداد دون ظهور قبیلة عبس. ولیس هناک محمد بدون شعب الفاتحین، فکان مولد الرسول إمکانیة لأن یکون شعبه رسولا. وقراءة القرآن في بیوت مکة ثم المدینة کان إعدادا حقیقیا لإستراتیجیة الخروج من الصحراء و الدخول في تأریخ الأنسانیة. أفما کان أمرا فذا أن یتداول بضعة أفراد من البدو في الطریقة التي یمکن أن یتحرر بها العالم کله من لاعقلانیة، من جهالته. لقد کانت الدعوة الی معرفة الله، الی الآمر ان: قل هو الله احد….هي الصیغة الاولی المؤسسة لمبدأ الهویة. إلا أن العقلنة التي أتی بها مثل هذا القول، ثم الخطاب الإسلامي کله، هي الرابط بین مبدأ الهویة کأساس للمنطق، بمبدأ الوجود کأساس للمعرفة. لذلک کانت المیتافیزیقا هي الوجه الآخر للفیزیقا، بمعنی إن الأسماء الحسنی التي تتجلی خلالها دائما الذات الألهیة، تجعل الهویة خطاب فعل دائم محایث للعالم و الإنسان. فتلک أسماء توجه إستراتیجیة العقلنة نحو إقامة النظام الذي یمکن فیه الإنسان أن یکتشف ذاته من خلال تعاطیه الدائم من أسماء الله الحسنی. إنه یضع مفاهیمه و أفعاله علی مسافة دائمة من تلک الأسماء التي أصبحت مقاییس موضوعیة لها. هي الصور و المثل الأفلاطونیة ألتي تستعید کیانها خارج مغارة الأشباح و الأوهام. فهنا عملیة شمولیة مستمرة من أجل إعادة التطابق بین المثل و ظلها علی أرض الأنسان و فعاله. فلیس الله في المشروع الثقافي العربي ضامنا للحقیقة کما عند مؤسس العقلانیة الغربیة “دیکارت” بل أن أثبات الحقیقة و إعادة تأسیسها هما فعل واحد یضمن وجود الآله علی مستوی أسمائه الحسنی کلها دفعة واحدة، و بصورة تتکامل فیها دلالاتها علی تعدد مناحیها و أشاراتها التي تبدو متناقضة، تجمع الأطراف الحدیة کلها، ولذلک وجب النظر الیها و التعاطي معها، من خلال سیاقها التکاملي، حتی لاتعود الی لاعقلانیة التنافر العشوائي. فالله العادل والمنتقم، والقاهر و الغفور الرحیم، خالق السموات و الأرض، المحیی و الممیت..الخ.. هو الذي اوحی لمؤسسي الفلسفة العربیة الاسلامیة ان یعهدوا الیه مهمة العقل الأول، الذي تتسلسل منه بقیة العقول في مستویات الوجود جمیعها، التي یندمج فیها التشخیص علی هیئة الکون و طبقات کواکبه، مع التجرید الذهني الذي لاحدود له”5″).
إذا نظرنا الی قوله:
( أفما کان أمرا فذا أن یتداول بضعة أفراد من البدو في الطریقة التي یمکن أن یتحرر بها العالم کله من لاعقلانیته، من جهالته..).
قبل أن أقول شیئا حول عبارته، أقارنه بما یقوله الفنان الجزائري المعروف عالمیا، “بوکرش محمد”، في جوابه لسؤال الشاعر”علي فوزي”، عندما یسأله:
( أي الحضارات تروقک و تجد فیها نضجا من الناحیة الجمالیة و الابداعیة؟).
یقول”بوکرش محمد”:
( الأسلامیة طبعا.. بفضل من أعتنق الإسلام من غیر العرب، أما العرب یتضح یوما بعد یوم، أنهم أعتنقوا الإسلام لا لجماله و ما یحمل من مفاهیم الحیاة و قوانینها، بل خوفا من أصحاب الرسول صلی الله علیه و سلم من غیر العرب..و الدلیل علی ذلک الردة الجماعیة…”6″).
شتان بین ما یراه “صفدي” و ما یراه “بوکرش”، ألیس مایراه “بوکرش” أقرب الی الحقیقة مما یقوله”صفدي”، حول لاعقلانیة و جهالة الآخر الموجود في العالم الخارجي.
ألا یعرف “مطاع صفدي” حینما إجتاح جیوش الإسلام بلاد فارس، ووقع في أیدیهم مما لا یحصی من المسودات و الکتب و المخطوطات، کتبوا الی “عمر بن خطاب” رسالة یسألونه، ماذا یفعلون بها، وکان جواب “عمر بن خطاب”، بالعبارة الصحیحة، القوا بها في النهر.. وبهذا ضاع ما ضاع من معلومات و وثائق تأریخیة للأبد!؟.
ومن یقرأ بحوثا حول الأدیان القدیمة، یجد عمق کثیر من الأدیان عموما و خصوصا الأدیان ألشرقیة، بما فیهم الکونفشیوسیة و التاویة و الهندوسیة و البوذیة و الیزدانیة و الزرادشتیة و غیرهم من أدیان مجتمعات حاربها الأسلام، هل تلک الأدیان التي أشرنا الیها بمقارنة مع الموسویة و المسیحیة و….لاعقلانیة ؟! حتی اذا کان معتنقیها لاعقلانیین و جهلاء و برابرة، أیستحقون القتل و الأبادة و أخذ مالهم و ملکهم کغنیمة حرب!؟.
هناک امثال تاویة کتبت مابین”1030-722ق.م” و نجد مثیلاتها في البوذیة و الکونفشیوسیة و الزرادشتیة و غیرها، یقول:
( في السکن کن قریبا من الأرض
في التأمل توغل بعیدا في الضمیر
في معاملة الناس کن شهما رؤوفا
في الکلام کن صدوقا
في الحکم کن عادلا
في الشغل کن کفوءا
في الفعل: تنبه الی التوقیت
لاقتال….)
( انظر تجدها غیر ممکنة الرؤیة/ في منأی عن الصورة/ تجدها غیر ممکنة السماع/ في منأی عن الصوت/ أمسک، تجدها غیر ممکنة الأمساک/ غیر قابلة اللمس/ هذه الثلاثة لا تعرف/ ومن هنا فهي مندمجة في واحد/ من الاعلی، هي لیست مضیئة/ من الأسفل لیست معتمة/ خیط غیر مقطوع، یمتنع وصفه/ وإنها لتؤول الی الاشیئیة/ شکل الأشکال/ صورة اللاصورة/ بعیدا عن التعریف..بعیدا عن الخیال/ قف قبلها..لا تر بدایة/ کن بعدها..لا تر نهایة/…).
( شيء ما تشکل في السر
ولد قبل السموات و الأرض
في الصمت و ألخلاء
أحدیا، لا متغیرا…).
یشیر التاوي و الکونفشیوسي و البوذي و الهندوسي و الیزداني و الزرادشتي، في تعالیمهم الدینیة ألی”لاقتال” و یؤمنون جمیعا بـ”لاعنف”. الیس من الجمیل و المنطقي أن یحرض الناس علی “لاقتال” و “لاعنف”، بدل أن یحرضوا علی القتال و دفعهم للهلاک و التضحیة بأنفسهم و قتل الغیر و ما إلا ذلک من تراجیدیا الحروب.
أن رؤیة “مطاع صفدي” للغیر كـ”جاهلین و لاعقلانین”، أینطبق علی ألنماذج الذي اشرنا الیه..هل یحتاج شعوب لم یؤمنوا بعقلانیة القتال، أن تقاتلهم کي تعلمهم عقلانیة القتال. ألیس مایقوله “مطاع صفدي” نظرة أستعلائیة امبریالیة للنفس، وبالمقابل نظرة تصغیریة اشمئزازیة للغیر، کیف تطلب من الغیر الذي تراه قزما جاهلا ان تنظر الیک کعملاق عقلاني!؟ ألا یشکو المسلمین و ألشرقیین عموما من النظرة التصغیریة الغربیة لهم، مما تثیر حقدهم و غضبهم. أذن کیف یجوز ان ینظر مفکروکاتب قدیر غني عن التعریف کـ”مطاع صفدي” نفس النظرة التصغیریة الأستعلائیة للغیر!؟. هذة معضلة اساسیة في المعرفة الفکریة العربیة عموما و الاسلامیة خصوصا، وأنها أخطر من کتب الدراسیة التي تغسل الأدمغة و تهیئها الی استقبال العنف و الأخذ به، بما فیه من رؤیة فاشیزمیة و لا یؤدي الا لخلق جیل من المثقفین الحاقدین و الکارهین للآخر الجاهل و اللاعقلاني، مع تفاخرهم بعلمهم و عقلانیتهم، الذي انعم الله علیهم دون البشر!؟.
یقول”د.احمد ابو مطر” في مقدمته:
( وعندما لا نجد بین کل هؤلاء الارهابیین باکستانیا أو اندنوسیا أو مالیزیا أو أفغانیا أو نیجیریا أو سنغالیا، یصبح السؤال منطقیا و واقعیا: لماذا الإرهاب في غالبیته عربي إسلامي؟؟ أي لماذا لا یوجد من بین کل هؤلاء الإرهابیین عربي مسیحي؟؟ هذه المقالة تسعی الی وضع عنواین فقط لدراسات یجب أن یقوم بها متخصصون في کافة مناحي الحیاة العربیة، لأنه لم یعد یفید القول أن الأسلام بريء من هذه الأعمال الأرهابیة، لأن السؤال یظل قائما، مادام الإسلام بريء من تلک الأعمال فلماذا یتواصل إرتکابها من قبل عرب مسلمین فقط، بحیث أصبحت صفة العربي المسلم تعني الإرهابي القاتل؟؟).
أسئلة نقدیة منطقیة یطرحه “د.احمد ابو مطر”، ألیس النقد فاعلیة فکریة یرمي إلی کشف المحجوب و الإستنطاق و التعریة، في عملیة اقتحامیة لمناطق المستبعدة من نطاق التفکیر، استنادا الی تساؤلات شتی حول ماهیة الأشیاء، لکشف الأخطاء و إظهار التناقضات و الخلافات، حول ثوابت و بدیهیات آمن أصحابها بها، إمانا عمیاء بعیدا عن أصول العلم و أسس المعرفة و آلیات انتاج الحقیقة و المعنی.
هل یفید المسلمین عموما و العرب خصوصا، البقاء في متاهات الجمود العقائدي مکذبین العلم و الفلسفة و التغیرات و التطورات، قابعین في عالم الممنوع و الممتنع، معتزین بـ”الأنا” الذي یتماهی مع ذاته، مبتعدین عن “الأنا” المفکر، قانعین بالموروث وبما قال و قیل من حکایات و اساطیر الأولین.
ألنقد الجاد و الفعلي لا یأتي من الفراغ، أو التوقف بین الممنوع و ممتنع الاهوت و الماورائیات، وأنما یأتي من الدخول علی قضایا فکریة، معرفیة، تأریخیة، أبستمولوجیة، بعد تفکیکها و محاولة قراءتها قراءة ارکیولوجیة حسب تکوین طبقاتها، علینا ان نفتح حقول و محاور جدیدة، للتفکیر بعیدا عن شرح الشرح و التفسیر الجامد و تمیز الصح من الخطأ.
ان المهم في أي دراسة نقدیة هي تلک الإضاءآت المعرفیة و السیمبولیة و الإشاراتیة التي تقع وراء التساؤلات المطروحة، کما نراها في مقدمة”د.احمد ابو مطر” إذ یقول:
( انا اری و أعتقد أن تلک التفجیرات ارهاب صریح واضح بتقدیر امتیاز مع درجة العار و الهمجیة الأولی…. ارهابیون قتلة من الصعب إدراجهم ضمن فصیلة البشر…لماذا اعتبرها و آعتبرهم هکذا؟ اولا من الناحیة الأخلاقیة لا یجوز ترویع أناس آمنین لا تعرفهم ولم یرتکبوا خطأ او جریـمة بحقک، وهم أیا کانت جنسیاتهم غیر مسؤولین عن تصرفات و أعمال حکوماتهم مهما کانت تلک الاعمال معادیة لک، وبالتالي فإن قتلی تلک الإنفجارات ماتوا ظلما).
فإن معنی المجازي لهجمات حادي عشر من سبتمبر، قبل ان یکون موجها للعالم الغیر الإسلامي، فإنه موجه للعالم والواقع الإسلامي، بمعنی الدفاع عن کابیتال السیمبولي الأصولي و احیائها في نفوس من یری في الأصولیة و السلفیة الاسلام الحقیقي، الم یبدأ الصراع من ایام الفتنة الکبری، بین جماعات متحاربة علی من هو الإسلام الحقیقي، الم یکن کل فرقة یدعي انه یمثل الإسلام الحقیقي و الصحیح، الم یسیل دماء کثیرة حول إحتکار المشروعیة، لإستعماله کأداة سیاسیة لاحقا، کما فعل الأمویین و العباسیین و العثمانیین و الصفویین و غیرهم حتی یومنا هذا. ثم الم یظهر الحرکات الأصولیة السلفیة الحالیة، لکي تحتکر الإسلام لصالحها و یفوز بالسلطة، في ثنایا خطاب سیاسي إسلامي”الصالح لکل زمان و مکان”، إسلام فوق الزمن و الواقع و التاریخ و التغیرات و التطورات!؟.
یقول”جاک دریدا” حول ماجری في حادي عشر من سبتمبر: ( علینا ان ننظر الی ماجری من زاویة فلسفیة تساؤلیة مضادة، حتی نستیقظ من حلمنا الدوغمائي….).
ویستمر في سیاق حواره بالتساؤل حول ماهیة الإرهاب و خلافه او تشابهه مع إرهاب الدولة و یناقش الکثیر من الأشیاء الهامة و المهمة، ولکن المهم ثم الأهم هو تأکیده علی وجوب تغیر النظرة الفلسفیة السابقة لفهم ما حصل، او کما یقول لکي نستیقظ من حلمنا الدوغمائي..وکما نعلم إن “جاک دریدا” لا ینظر الی فعلیة الفکر، کثنائیة الهدم و البناء، لخروج من حالة الضعف بشتی صوره الی حالة القوة بین التأثیر و التأثر. وإنه بین الکتابة و اللوجوس، یختار الکتابة لإمتلاکها الإستراتیجیة النقدیة في رسم فضاء الدلالة والإنفتاح علی لاعقلانیة العقل المبهم المیتافیزیقي، ونقد “جاک دریدا” مرارا التمرکز حول العقل، لوجود الهالة المثالیة الموجودة حولها، أي أن علینا تنظیم الخریطة النقدیة للفکر، من خلال تحلیل عقلاني لتفتیت اللوجوس و تمزیق الذات و هدم الإنسان و تقالیده و موروثه، وتشتیت کل ما یقف عقبة نحو تقدم المعرفة الانسانیة الی الامام، من خلال الولوج بآلیات النقد التفکیکي، الی داخل کافة الأدلوجات و الاعتقادات و النظریات و الثوابت الفکریة و المعرفیة والکثیر من الاشیاء المرتبطة بنا و غیرنا، اذ لیس هناک مطلق نرجوه و نتشبث به، في عالم نسبي، متغیر و متحرک دوما الی ما لانهایة.
ولکن هناک من یرید دوما، ان یرجع الی ماضي الخرافات و قرون الظلمات بتقمصه للماضي مع استحضار ارواح ابطاله و وقائع احداثه، واستعمال آلیاته الفکریة والغیبانیة، بکل ما یحمله من جهل و بطش و عنف، لابادة الآخر و نفیه من عالم لیس له فیها حق باحتکاره. مثلما فعل النازیست و الفاشیست من قبلهم بتمجید الماضي الدموي لتاریخهم. وکما فعل الاصولیة السلفیة الإسلامیة الحدیثة، في مناطق و بؤر موبؤءة بالتخلف و الجهل، وإستطاع أن یمارس في مملکتها الواسعة، المرئیة منها والغیر مرئیة، سلطتها بشکل لا مثیل لها. بما انه لیس الإسلام التقلیدي الذي تفکک و انتهی منذ بدایتها، بعد تشعباتها و حروبها الداخلیة و إنقساماتها الی مذاهب و طوائف و سلطات متحاربة. الإسلام الأصولي دخل التأریخ الحدیث بقوة کفاحیة مشحنة بایدولوجیا عدوانیة للعالم و للآخر، بفکرة تبشیریة للرجوع الی منابع الأصلیة للإسلام، أي الرجوع للإسلام المیثولوجي، وهنا یکمن سر رفضهم للفلسفة و التصوف و تفاسیر النص الدیني، واعتمادهم الکلي علی النص الدیني بدون تأویل و أخذهم للتفاسیر الجامدة و السطحیة التي لاتخرج عن النص، ، وتلتزم بالحرفیة و لاتفتح آفاقا للروئیة.
وحینما نتکلم عن الدین علینا ان لا ننسی، کما یقول” صادق جلال العظم” في “نقد الفکر الدیني”:
(عندما اتکلم عن الدین….، لا اقصد الدین باعتباره ظاهرة روحیة نقیة و خالصة علی ما نحو ما نجدها في حیاة قلة ضئیلة من الناس کالقدسین و المتصوفین و بعض الفلاسفة…..).
ان ما یهمنا و یجب ان نحاول مرارا و تکرارا قرائته و تفکیک آلیاته، هو میکانیزم الإرهاب الجدید، کصناعة اصولیة و مشروع سلفي، بدأ نظریا و انتقل الی حقل التطبیق بشکل مروع و مخیف، موجها کل طاقاتها التخریبیة و التدمیریة، ضد التمدن و التحضر. وما حصل في حادي عشر من سبتمبر، لا یزال اکثر جوانبه الحساسة مبهمة و غامضة، لم نری منها الا صور الدمار والتخریب، ولکن این القصة الحقیقیة و السیناریو الفعلیة للحادث، هذا ما لانعرفه و یبقی في المجهول!؟.. ولکن مع کل الخفایا و والخبایا التي تقع خلف الکوالیس، علینا ان نحاول، کما یقول “جاک دریدا”:( علینا ان ننظر الی ماجری من زاویة فلسفیة تساؤلیة مضادة، حتی نستیقظ من حلمنا الدوغمائي….).
المصادر: 1- مقدمة الکاتب و الاکادیمي”د. احمد ابو مطر” لکتاب /تفجیرات الحادي عشر من سبتمبر؛
www.abwmatar.com
2- حوار مع الروائي الیاباني /هاروکي موراکامي؛
www.gazete.org
3- سیکولوجیة العنف-کولن ولسون/الاهلیة للنشر و التوزیع/اردن-2006.
4- تاریخ بدون تاریخ-نادر قریط/الموقع الالکتروني الخاص للکاتب.
5-استراتیجیة التسمیة في نظام الانظمة المعرفیة-مطاع صفدي/وزارة الثقافة و الاعلام/بغداد-1986.
6-مقابلة مع النحات و الکاتب الجزائري- بوکرش محمد/20-7-2008؛
http://bouktech.blogspot.com
7-التاو-نصوص من الفلسفة الصینیة القدیمة/دار ابن رشد-1981.
8-Giovanna Brrodori, philosophy in a time of terror: Dialogues with habermas and Jacques Derrida, the university of Chicago press, 2003.
9- نقد الفکر الدیني- صادق جلال العظم/دار الطلیعة/بیروت-1970.
—