تحاول الكاتبة والباحثة “د. علياء الداية” من خلال كتابها “جماليَّات التراث في الرواية السوريَّة المعاصِرة” تفسير ظاهرة لجوء بعضِ كتَّابِ الرواية السوريِّين إلى التراث، واستحضار رموزه، وجعله في بعض الأحيان محوراً تدور حوله الأحداث.
والكتاب عبارة عن بحث نقدي مكوَّن من ثلاثة فصول، تبرز الكاتبة من خلاله جماليَّة الشخصيَّات ذات الصِّلة بالتراث، إذ قسَّمتها الباحثة إلى شخصيَّات تخييليَّة نموذجيَّة (كالتاجر البغدادي، وأبو الشيما المتصوِّف)، وشخصيَّات ذات بُعد روحي (كالحلَّاج)، وشخصيَّات تاريخيَّة (كهارون الرشيد)، بالإضافة إلى شخصيَّات “ألف ليلة وليلة” والشخصيَّات الغربيَّة المتمثِّلة بالمستشرقين.
كما يدرس الكتاب تسخير بعض الروائيِّين السوريِّين؛ أمثال (خيري الذهبي، وخليل صويلح، ومحمَّد أبو معتوق، ولينا هويان الحسن، وشهلا العجيلي) للموروث الجمعي، من عادات وتقاليد وروحانيَّات، بأسلوب فنِّي، وصياغتها في قالب إبداعي يخدم العمل الروائي، ويؤطِّر الشخصيَّات.
ويُلاحَظ أنَّ “الداية” تولي أهميَّة لجماليَّات المكان الذي يحمل الطابع التراثي (كالبادية)، بالإضافة إلى المدن التي تحمل عراقة الشرق (كحلب، ودمشق، وشيراز، وكابول).
فالمكان من العناصر المهمَّة والرئيسيَّة في الخطاب السردي، والقيمة الوظيفيَّة للمكان على مستوى بنية السَّرد أو على المستوى المضموني والرمزي -كما يرى الكاتب محمد حسانين في كتابه “استعادة المكان”- ((لا تقتصر على الإشارة إلى المواضع أو المواقع التي تدور فيها الأحداث، بل تلعب دوراً كبيراً في إنتاج الدلالة وفي الربط بين عناصر القصَّة)).
ومن هذا المنطلق أصبح وصف المكان يُحيل إلى إشارات وإيحاءات رمزيَّة، وما عاد مقتصراً على ميزاته الجغرافيَّة، فهو ليس مجرَّد حيِّز في العمل الأدبي، بل يدخل في علاقة تفاعليَّة مع بقية العناصر السرديَّة وخاصَّة الشخصيَّة، ويحدِّد اتِّجاهاتها الفكريَّة والنفسيَّة، فهي تتأثر بالتقاليد والأعراف المتوارثة، وتخضع للأحكام والقوانين السائدة، لتفسِّر ردود أفعالها على ضوء طبيعة المكان الذي تحيا فيه.
ونوَّهت الكاتبة إلى لجوء بعض الروائيِّين إلى استخدام التراث كطعم لاصطياد القارئ، والنفاذ إلى وعيه بسلاسة، فالتراث يجذب شريحة واسعة من المتلقِّين.
ويستحضر بعض الأدباء شخصيَّات تراثيَّة بارزة، ليعيدوا شحنها بدلالات معاصرة، ما يمنحها بُعداً جديداً يمكِّنها من تجاوز عصرها، ليتم توظيفها توظيفاً عكسيَّاً، كنموذج واقعي من الجائز تعميمه في الواقع العربي المعاصر.
ولعلَّ لجوء الروائيِّين إلى الموروث الجمعي لم يكن بهدف إحياء انتصارات الماضي وتمجيده، بقدر ما يهدف إلى تسليط الضوء على سلبيَّات الواقع المعاصر وفضح عيوبه، وطرح أزمات وقضايا وإشكاليَّات الحقبة الراهنة، بالإضافة إلى ما تعانيه البلاد من ظروف سياسيَّة واجتماعيَّة خانقة، متسترين وراء رموز التاريخ من ملاحقة الرقابة، باتخاذهم طرقاً غير مباشرة لمواجهة تلك الظروف القاسية، والتعبير عن الواقع، وتصوير أزماته، من خلال أبطال التراث الذين يُنطِقُهم الكاتب بما لا يستطيع التعبير عنه بشكل مباشر، ويجسِّد من خلالهم ما تصبو إليه أحلامه.
إن توظيف التراث في الأدب المعاصر يندرج ضمن تقنية “القناع” التي كان الشعراء أول من استخدمها؛ وهذه التقنية -كما يرى الناقد فاضل تامر في كتابه “مدارات نقدية في إشكالية النقد والحداثة والإبداع”- ((أسلوب جديد في التعبير الشعري، دخل الشعر في مطلع القرن العشرين ليؤدِّي وظيفة جديدة، تمنح الشاعر معالم دراميَّة واسعة يستطيع التعبير من خلالها عن رؤياه للعالم المعاصِر)).
كما يُبرز الكتاب دور الأدباء في تلبية حاجات المجتمعات في التواصل مع تراثها، لأنَّ آثار الحضارة القديمة كثيراً ما يطالها النسيان ((إلا ما كان نتاجاً إنسانيَّاً أصيلاً، قادراً على عكس قيمٍ إنسانيَّة شاملة)). ص(9)
—————-
المؤلف في سطور:
د. علياء الداية؛ دكتوراه في الأدب العربي جامعة حلب – سوريا، كتبت في عدد من الصحف العربيَّة، صدر له مؤلّفات عدّة؛ منها:
– ديوان “تمرد، الشاعرة فروخ فرّخ زاد” 2009، مترجم عن الفارسية.
– كتاب “الرموز الأسطورية في مسرح وليد إخلاصي” 2010، دراسة مقارنة.
– مجموعة “أبو الليل” 2010.
– “الوعي الجمالي في السرد القصصي” 2012.
– مجموعة “شهرزاد الكواكب” 2013.
الكتاب: جماليَّات التراث في الرواية السوريَّة المعاصِرة.
تأليف: د. علياء الداية.
الناشر: دار التكوين – دمشق 2014.
الصفحات: 136 صفحة.
القطع: المتوسِّط.
—