ظلّت طائفةٌ كبيرةٌ من المسلمين عبر تاريخهم مشغولين بالجنّ أو بالأولياء، أو بهما معًا، متفرغين لقضاياهما الفقهيّة، مستهلِكين أوقاتهم بالترقّي من هؤلاء تارةً والتقرّب إلى هؤلاء تارةً أخرى، مستنفَدةً طاقاتهم في القراءة على النوع الأوّل، وتَفْلهم، والقراءة للنوع الآخَر، والتمسّح بقبورهم، وتمريغ الوجوه في تُرَبِهم لنيل البركات الترابيّة. وهي العقليّة ذاتها التي جعلتْ مَن قَبْلَهم من الأُمم- كمتأخّري النصارى- يؤلِّهون الإنسان، ويستعبدون أنفسهم للعبيد وعبيد العبيد، متّخذين أحبارهم ورهبانهم وصلبانهم أربابًا من دون الله! فمِن أين للمسلمين- وتلك مهاوي عقولهم وأفئدتهم- البالُ ليكونوا أمّةً نابهةً كسائر الأُمم المتحضّرة؟!
حتى القرآن الكريم، الذي قال الله فيه: “لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ”، [الحشر: 21]، لا يفلح- بحسب تلك العقليّة الهلوعة التي لا تتفكّر- في طرد الشياطين الملاعين في تسلّطهم على عباد الله المسلمين، اللهم إلاّ من خلال شيخٍ متخصّصٍ في طرد الشياطين، وإخراجهم من الأجساد، والبصق في وجوههم من فمٍ زكيّة كفمه! إن الشياطين يتعشّقون الأجساد الشرق أوسطيّة، المسلمة خاصّة، إذ يبدو أنهم لم يكتشفوا قارة أوربا ولا أمريكا ولا حتى شرق آسيا، ولا تعجبهم أجسام أهلها كما تعجبهم أجسامنا المسنّدة! .. بلى، لهم نفوذٌ مشهورٌ في أفريقيا وما جاورها، حيث البيئة الثقافيّة الصالحة لحضورهم المَهيب. ولعلّه يأتي يومٌ يظهر فيه من يرسم خارطة عالميّة للجنّ، وأين يتمركزون على الكرة الأرضيّة. وحتى يأتي ذلك اليوم فمن الواضح أن تمركزهم يظهر بكثافة أينما انغلق المجتمع أكثر، وساد تغييب العقل أكثر، وتوارى نفوذ العِلم والإيمان أكثر، ونظر الإنسان إلى نفسه نظرة ازدراء واحتقار؛ فهم ما ينفكّون متسلّطين على الشعوب المتخلّفة، وكلّما ازداد الشعب تخلّفًا وهوانًا، زاد جنّه هوسًا به وبالدخول في لحمه البشريّ والسكنى في دمه. وعلى الضفّة العقليّة الأخرى زاد أولياؤه صلاحًا وبركةً على العباد، إلى الدرجة التي تُجعل في أيديهم مفاتيح الشفاء والنجاح والفلاح والجنة في نهاية المطاف!
وعليه، ولهذه البلوى التي ابتُلي بها المسلمون في عقولهم، لم يَعُد في حيلة المسلم أن يتعوّذ بالله من الشيطان الرجيم بلسانه الذي خلقه الله، وأن يلجأ إلى الله مباشرة، ولوحده من فمه إلى باب السماء.. كلاّ، فالأمر ليس فوضى ولا اعتباطًا، ونحن في عصر التخصّص الدقيق. ولمّا كان ذلك كذلك، فلا بُدّ من اللجوء إلى صنمٍ وسيطٍ، من مطوّعٍ أو مطوّعةٍ، ليقرّبا المسلم المبتلى في عقله أو نفسه إلى الله زُلفى، فيقرآ عليه، ويمسحا على صدره، وربما ليبصقا في وجهه الكريم؛ فالبصاق ذو نتيجةٍ فتّاكة في الجنّ والشياطين، ومن تلبّسهم هؤلاء الملاعين. وهو شفاءٌ تاريخيٌّ مجرّب لما في العقول، ولاسيما من فمٍ مقدّس وليس أي فمٍ والسلام!.. وهل يستحقّ مَن ذاك مستوى تفكيره إلاّ مثل ذلك العلاج التخصّصيّ؟! لا بُدّ من راقٍ ورِيْق، وإنْ قيل إنه قد ورد أن الرسول لم يكن يرقي ولا يَسْتَرقي، أو أنه نهَى عن الرُّقَى، وقال: “إن الرُّقَى والتمائم والتُّوَلَة شِرك”، وإنه ورد لدى (الترمذي، وابن ماجة، وابن حنبل): “من اكتوَى أو استَرْقَى، فقد برئ من التوكّل”، وفي (البخاري، الطب: 17) أنه قال: “يدخل الجنّة سبعون ألفًا بغير حساب.. هم الذين لا يَسْتَرْقُون، ولا يتطيّرون، ولا يكتوون، وعلى ربّهم يتوكّلون”، قيل: هذه أحاديث إمّا ضعيفة أو فيها نَظَر، وهناك ما يناقضها ويناقض العقل والعِلْم، فعلينا بهذا لأنه يتماشى مع ثقافتنا المتوارثة! وللثقافة أيادٍ خفيّة أحيانًا فيما يُصحّح أو يُحسّن أو يُضعّف أو يؤخذ به أو يترك من الأحاديث، كلٌّ بحسب نِحلته وهواه، وإن عارض الحديثُ ثابتَ القرآن وصريحَ العقل وسُننَ الكون. ولا بُدّ من راقٍ محترفٍ، وإنْ كان المريض النفسيّ معلِّمًا والراقي أُمِّيًّا أو شِبْهه، فالمهمّ معرفة أسرار الجِنّ، وكيفيّة التفاوض معهم، والتوافر على نوعيّة المبيد الجِنّيّ الريقيّ الفعّال الذي يكافحهم! ثم مَن قال إن الدِّين بالعقل أو العِلم أصلاً؟ إنما هي بركة مرسلة لا يعلمها إلاّ الله! إنها ثقافة الرِّيق، ثقافة الأوهام والخزعبلات، وقاذورات الأفكار البالية الجاهليّة نفسها- بما في هذا الاعتقاد في المخلوقات وترك خالقها- التي كانت تعشعش في جمجمة العربيّ قبل الإسلام، عاشت في الوسط الاجتماعيّ وتسرّبت إلى يومنا، تحت أقنعةٍ شتّى، وحتى لا تُصادم نقاء التوحيد وصفاء الإسلام تُلتمس لها التعلاّت التي تسوّغها وأشكال الأسلمة التي تمرّقها في النفوس؛ لأنه يرفضها العِلم الصحيح والعقل السليم والإيمان الخالص. تلك الثقافة التي حاربها الإسلام، بل ما جاء إلاّ لنقضها لدى العرب وغير العرب، والدعوة إلى التوكّل على الله وحده لا شريك له، والانعتاق من كلّ ما يكبّل العقل والروح والإرادة من أفكار وأوضار؛ لأن خالق العقل والدِّين واحد، وغايته منهما واحدة لا اثنتان، ولا يمكن أن يسيرا إذن في اتجاهين متناقضين. ولا يمكن أن يحقّق الإنسان خلافته في الأرض وهو مستعبدٌ لغير من استخلفه، منشغل بأوهامه وخيالاته، يحسب كل صيحةٍ عليه. غير أن شياطين الإنس، لا شياطين الجنّ، هم من يزيّنون الباطل، ويصنعون منه ديانات بأكملها، ويستقطبون شعوبًا وأُمَمًا إليها. وما كلّ هذا التاريخ من الديانات والمِلَل والنِّحَل والعقائد والتوجّهات والآراء، المتضاربة في ما بينها، المناقضة في ذاتها لمنطق العقل والطبيعة، إلاّ صنيعة هذا الشيطان الآدمي الرجيم، الذي يستغلّ عواطف الدِّين الفطريّة ليحتلّ مكانه فتلتفّ حوله الجماهير. ولولا هذا، أفيخطر على قلب بشرٍ سويٍّ أن يعبد إنسانٌ بقرةً، مثلاً، أو فأرًا؟! بيد أنه الهوس الدِّيني، حين يستشري في دم إنسانٍ يعطّل كلّ مَلكاته الحيّة، وحواسّه المدركة، وأعظم من ذلك كلّه يلغي العقل إلغاءً، فيصبح الإنسان وهو أضلّ من حيوان؛ بل قد يتخذ من الحيوان ربَّه ومعبوده. أولم يَنْجُم في الإسلام من يحذّر من العقل، ويقول: إن الدِّين ليس بالعقل؟! وأنه ليس بالعِلم، بل العِلم قد يكون مدعاة ضلال؛ فلقد كان الشيطان نفسه أعلم العلماء، فضلّ بعِلْمه! ونحو هذه من الهرطقات السخيفة. بِمَ الدِّين إذن؟ بالجهل؟ باللاعقل؟ وكيف لا يكون الدِّين بالعقل والله يقول إنه قد “علَّم آدم الأسماء كلّها”، و”علّم الإنسان ما لم يعلم”، “وهداه النجدَين”… إلخ؟! إنْ ذلك إلاّ منطق عُبّاد البَشَر، تديّنًا باطلاً أو سياسة، وعُبّاد البقر، وعُبّاد الفأر، وعُبّاد الجنّ والشياطين، ومَن يتّخذون أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله.. منطق من قال الله فيهم من العرب الأوائل: “بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُون”، [سبأ: 41]. فالمؤمنون بالجنّ من العرب ما زالوا يتناسلون جيلاً بعد جيل، وما الغلوّ في الجِنّ إلاّ إيمانٌ بهم، وتعظيمٌ لشأنهم، وتهويلٌ لنفوذهم، وترسيخٌ لسلطانهم، وتعطيلٌ لملكات الإنسان، بل شطبٌ لرسالته في الحياة والكون. ولا يستوطن ذلك صدرًا يعمره إيمانٌ قويٌّ بالله، وتصديقٌ لقوله تعالى: “إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً”، أو قوله: “وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ، وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ، وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً.” [الإسراء: 70]. وإذن لا غرابة، فالمعادلة الثقافيّة تقول إن تهميش العقل وإلغاءه ليس له معنى إلاّ: الجهل، والجهل حصيلته: القلق والخوف والمرض النفسيّ والمعرفيّ، وحصيلة القلق والخوف والمرض النفسيّ والمعرفيّ: التعلّق بالأوهام والترّهات. وتلك أنابيب يؤدّي بعضها إلى بعض، مبتدؤها التهوين من العقل وعدم الأخذ بأسبابه، وهو ما جعله اللهُ سراج الإنسان للخروج من الظلمات، وقد ورد التساؤل الاستنكاريّ عن تغييب العقل قرابة ثلاث عشرة مرة في القرآن بصيغة: “أفلا تعقلون؟!”، ثم إذا الإنسان يأتي قائلاً: “لن نعقل؛ فالدِّين ليس بالعقل أصلاً”! بل قائلاً: إن العقل والعِلم بوابتا زيغٍ وكُفر، كما روّج بعض البُلْه في بعض أدبيّات الثقافة الإسلاميّة، مدّعين أن رسول الله قال: “أكثر أهل الجنّة البُلْه!” وكأن منطق الحديث النبوي نقيض منطق القرآن الكريم، فذاك يجعل سبيل الجنة البَلَه وهذا يجعل سبيلها العقل والعِلم: “إنما يخشى الله من عباده العُلَماء”.. لا “البُلَهاء”!
وعلى أساس هذه الثقافة الغيبيّة التغييبيّة الغبيّة كان تخلُّفُ المسلمين عن ركب الحضارة والعِلم، إذ كَفَروا بالعقل، وإنْ بنِسَبٍ متفاوتة، مذ راجت تلك المقولات الظلاميّة على ألسنة مفتيهم ومرجعيّاتهم ومشائخ طُرُقهم، لأسباب سياسيّة أو اقتصاديّة أو اجتماعيّة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ شذرة ــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا سبب لديَّ للشكوى…
وأنا لا أقومُ بذلك الآنَ…
فقد عَلِقَتِ النارُ… بأشجار… تُفّاحِ… المَطَر!
حتى القرآن الكريم، الذي قال الله فيه: “لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ”، [الحشر: 21]، لا يفلح- بحسب تلك العقليّة الهلوعة التي لا تتفكّر- في طرد الشياطين الملاعين في تسلّطهم على عباد الله المسلمين، اللهم إلاّ من خلال شيخٍ متخصّصٍ في طرد الشياطين، وإخراجهم من الأجساد، والبصق في وجوههم من فمٍ زكيّة كفمه! إن الشياطين يتعشّقون الأجساد الشرق أوسطيّة، المسلمة خاصّة، إذ يبدو أنهم لم يكتشفوا قارة أوربا ولا أمريكا ولا حتى شرق آسيا، ولا تعجبهم أجسام أهلها كما تعجبهم أجسامنا المسنّدة! .. بلى، لهم نفوذٌ مشهورٌ في أفريقيا وما جاورها، حيث البيئة الثقافيّة الصالحة لحضورهم المَهيب. ولعلّه يأتي يومٌ يظهر فيه من يرسم خارطة عالميّة للجنّ، وأين يتمركزون على الكرة الأرضيّة. وحتى يأتي ذلك اليوم فمن الواضح أن تمركزهم يظهر بكثافة أينما انغلق المجتمع أكثر، وساد تغييب العقل أكثر، وتوارى نفوذ العِلم والإيمان أكثر، ونظر الإنسان إلى نفسه نظرة ازدراء واحتقار؛ فهم ما ينفكّون متسلّطين على الشعوب المتخلّفة، وكلّما ازداد الشعب تخلّفًا وهوانًا، زاد جنّه هوسًا به وبالدخول في لحمه البشريّ والسكنى في دمه. وعلى الضفّة العقليّة الأخرى زاد أولياؤه صلاحًا وبركةً على العباد، إلى الدرجة التي تُجعل في أيديهم مفاتيح الشفاء والنجاح والفلاح والجنة في نهاية المطاف!
وعليه، ولهذه البلوى التي ابتُلي بها المسلمون في عقولهم، لم يَعُد في حيلة المسلم أن يتعوّذ بالله من الشيطان الرجيم بلسانه الذي خلقه الله، وأن يلجأ إلى الله مباشرة، ولوحده من فمه إلى باب السماء.. كلاّ، فالأمر ليس فوضى ولا اعتباطًا، ونحن في عصر التخصّص الدقيق. ولمّا كان ذلك كذلك، فلا بُدّ من اللجوء إلى صنمٍ وسيطٍ، من مطوّعٍ أو مطوّعةٍ، ليقرّبا المسلم المبتلى في عقله أو نفسه إلى الله زُلفى، فيقرآ عليه، ويمسحا على صدره، وربما ليبصقا في وجهه الكريم؛ فالبصاق ذو نتيجةٍ فتّاكة في الجنّ والشياطين، ومن تلبّسهم هؤلاء الملاعين. وهو شفاءٌ تاريخيٌّ مجرّب لما في العقول، ولاسيما من فمٍ مقدّس وليس أي فمٍ والسلام!.. وهل يستحقّ مَن ذاك مستوى تفكيره إلاّ مثل ذلك العلاج التخصّصيّ؟! لا بُدّ من راقٍ ورِيْق، وإنْ قيل إنه قد ورد أن الرسول لم يكن يرقي ولا يَسْتَرقي، أو أنه نهَى عن الرُّقَى، وقال: “إن الرُّقَى والتمائم والتُّوَلَة شِرك”، وإنه ورد لدى (الترمذي، وابن ماجة، وابن حنبل): “من اكتوَى أو استَرْقَى، فقد برئ من التوكّل”، وفي (البخاري، الطب: 17) أنه قال: “يدخل الجنّة سبعون ألفًا بغير حساب.. هم الذين لا يَسْتَرْقُون، ولا يتطيّرون، ولا يكتوون، وعلى ربّهم يتوكّلون”، قيل: هذه أحاديث إمّا ضعيفة أو فيها نَظَر، وهناك ما يناقضها ويناقض العقل والعِلْم، فعلينا بهذا لأنه يتماشى مع ثقافتنا المتوارثة! وللثقافة أيادٍ خفيّة أحيانًا فيما يُصحّح أو يُحسّن أو يُضعّف أو يؤخذ به أو يترك من الأحاديث، كلٌّ بحسب نِحلته وهواه، وإن عارض الحديثُ ثابتَ القرآن وصريحَ العقل وسُننَ الكون. ولا بُدّ من راقٍ محترفٍ، وإنْ كان المريض النفسيّ معلِّمًا والراقي أُمِّيًّا أو شِبْهه، فالمهمّ معرفة أسرار الجِنّ، وكيفيّة التفاوض معهم، والتوافر على نوعيّة المبيد الجِنّيّ الريقيّ الفعّال الذي يكافحهم! ثم مَن قال إن الدِّين بالعقل أو العِلم أصلاً؟ إنما هي بركة مرسلة لا يعلمها إلاّ الله! إنها ثقافة الرِّيق، ثقافة الأوهام والخزعبلات، وقاذورات الأفكار البالية الجاهليّة نفسها- بما في هذا الاعتقاد في المخلوقات وترك خالقها- التي كانت تعشعش في جمجمة العربيّ قبل الإسلام، عاشت في الوسط الاجتماعيّ وتسرّبت إلى يومنا، تحت أقنعةٍ شتّى، وحتى لا تُصادم نقاء التوحيد وصفاء الإسلام تُلتمس لها التعلاّت التي تسوّغها وأشكال الأسلمة التي تمرّقها في النفوس؛ لأنه يرفضها العِلم الصحيح والعقل السليم والإيمان الخالص. تلك الثقافة التي حاربها الإسلام، بل ما جاء إلاّ لنقضها لدى العرب وغير العرب، والدعوة إلى التوكّل على الله وحده لا شريك له، والانعتاق من كلّ ما يكبّل العقل والروح والإرادة من أفكار وأوضار؛ لأن خالق العقل والدِّين واحد، وغايته منهما واحدة لا اثنتان، ولا يمكن أن يسيرا إذن في اتجاهين متناقضين. ولا يمكن أن يحقّق الإنسان خلافته في الأرض وهو مستعبدٌ لغير من استخلفه، منشغل بأوهامه وخيالاته، يحسب كل صيحةٍ عليه. غير أن شياطين الإنس، لا شياطين الجنّ، هم من يزيّنون الباطل، ويصنعون منه ديانات بأكملها، ويستقطبون شعوبًا وأُمَمًا إليها. وما كلّ هذا التاريخ من الديانات والمِلَل والنِّحَل والعقائد والتوجّهات والآراء، المتضاربة في ما بينها، المناقضة في ذاتها لمنطق العقل والطبيعة، إلاّ صنيعة هذا الشيطان الآدمي الرجيم، الذي يستغلّ عواطف الدِّين الفطريّة ليحتلّ مكانه فتلتفّ حوله الجماهير. ولولا هذا، أفيخطر على قلب بشرٍ سويٍّ أن يعبد إنسانٌ بقرةً، مثلاً، أو فأرًا؟! بيد أنه الهوس الدِّيني، حين يستشري في دم إنسانٍ يعطّل كلّ مَلكاته الحيّة، وحواسّه المدركة، وأعظم من ذلك كلّه يلغي العقل إلغاءً، فيصبح الإنسان وهو أضلّ من حيوان؛ بل قد يتخذ من الحيوان ربَّه ومعبوده. أولم يَنْجُم في الإسلام من يحذّر من العقل، ويقول: إن الدِّين ليس بالعقل؟! وأنه ليس بالعِلم، بل العِلم قد يكون مدعاة ضلال؛ فلقد كان الشيطان نفسه أعلم العلماء، فضلّ بعِلْمه! ونحو هذه من الهرطقات السخيفة. بِمَ الدِّين إذن؟ بالجهل؟ باللاعقل؟ وكيف لا يكون الدِّين بالعقل والله يقول إنه قد “علَّم آدم الأسماء كلّها”، و”علّم الإنسان ما لم يعلم”، “وهداه النجدَين”… إلخ؟! إنْ ذلك إلاّ منطق عُبّاد البَشَر، تديّنًا باطلاً أو سياسة، وعُبّاد البقر، وعُبّاد الفأر، وعُبّاد الجنّ والشياطين، ومَن يتّخذون أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله.. منطق من قال الله فيهم من العرب الأوائل: “بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُون”، [سبأ: 41]. فالمؤمنون بالجنّ من العرب ما زالوا يتناسلون جيلاً بعد جيل، وما الغلوّ في الجِنّ إلاّ إيمانٌ بهم، وتعظيمٌ لشأنهم، وتهويلٌ لنفوذهم، وترسيخٌ لسلطانهم، وتعطيلٌ لملكات الإنسان، بل شطبٌ لرسالته في الحياة والكون. ولا يستوطن ذلك صدرًا يعمره إيمانٌ قويٌّ بالله، وتصديقٌ لقوله تعالى: “إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً”، أو قوله: “وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ، وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ، وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً.” [الإسراء: 70]. وإذن لا غرابة، فالمعادلة الثقافيّة تقول إن تهميش العقل وإلغاءه ليس له معنى إلاّ: الجهل، والجهل حصيلته: القلق والخوف والمرض النفسيّ والمعرفيّ، وحصيلة القلق والخوف والمرض النفسيّ والمعرفيّ: التعلّق بالأوهام والترّهات. وتلك أنابيب يؤدّي بعضها إلى بعض، مبتدؤها التهوين من العقل وعدم الأخذ بأسبابه، وهو ما جعله اللهُ سراج الإنسان للخروج من الظلمات، وقد ورد التساؤل الاستنكاريّ عن تغييب العقل قرابة ثلاث عشرة مرة في القرآن بصيغة: “أفلا تعقلون؟!”، ثم إذا الإنسان يأتي قائلاً: “لن نعقل؛ فالدِّين ليس بالعقل أصلاً”! بل قائلاً: إن العقل والعِلم بوابتا زيغٍ وكُفر، كما روّج بعض البُلْه في بعض أدبيّات الثقافة الإسلاميّة، مدّعين أن رسول الله قال: “أكثر أهل الجنّة البُلْه!” وكأن منطق الحديث النبوي نقيض منطق القرآن الكريم، فذاك يجعل سبيل الجنة البَلَه وهذا يجعل سبيلها العقل والعِلم: “إنما يخشى الله من عباده العُلَماء”.. لا “البُلَهاء”!
وعلى أساس هذه الثقافة الغيبيّة التغييبيّة الغبيّة كان تخلُّفُ المسلمين عن ركب الحضارة والعِلم، إذ كَفَروا بالعقل، وإنْ بنِسَبٍ متفاوتة، مذ راجت تلك المقولات الظلاميّة على ألسنة مفتيهم ومرجعيّاتهم ومشائخ طُرُقهم، لأسباب سياسيّة أو اقتصاديّة أو اجتماعيّة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ شذرة ــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا سبب لديَّ للشكوى…
وأنا لا أقومُ بذلك الآنَ…
فقد عَلِقَتِ النارُ… بأشجار… تُفّاحِ… المَطَر!
* الشاعر: إلمر هورفات Elemér Horváth، (ديسمبر 2005)، قصيدة “شاعر مجريّ في أمريكا يفكّر في وطنه”، إبداعات عالميّة: مختارات من الشِّعر المجريّ المعاصر “شعراء السبعينيّات”، ترجمة: محمّد علاء عبدالهادي، مراجعة: فودور شاندور (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب)، 39.
أ. د/ عبدالله بن أحمد الفيفي
11 فبراير 2010
aalfaify@yahoo.com
http://khayma.com/faify