إن قارئ قصيدة( قمصان يوسف) لشوقي بزيع يدرك أنها تشكل الوجه الحقيقي للكشف عن جوهر الرؤية الشعرية،وفضائها الرؤيوي المكثف،ومنظورها الإبداعي المميز، خاصة في طريقة توظيف الشخصية التاريخية،بلبوس تقني فني معاصر؛وتعالق إيحائي مؤثر؛ يستحث الرؤى الجديدة، ويغيِّر المنظورات السائدة العالقة في الذاكرة الجمعية إزاء استحضار مثل هذه الشخصيات المؤثرة، أو تلك؛شريطة أن يمتلك الشاعر رؤية فنية مماحكة تستشف ما خلف الشخصية التراثية من رؤى خبيئة (مسكوت عنها) في عالمها الوجودي فيأتي الشاعر ليكشف عنها؛ويستثيرها في باطن نصه لتكون شاهده على رؤاه الوجودية الجديدة، ومحركاته النفسية ومنظوراته للحياة والكون؛ وبما أن الشعر في لبوسه التقني- الفني يسعى إلى توظيف كل ما يمغنط الرؤية؛ لإكساب التجربة العمق،والشمولية فإن توظيف الشخصية التاريخية كإطار فني رؤيوي معاصر، يعد المقوم الأبرز في تبئير الرؤيا الشعرية الخلاقة عبر إحياء الذاكرة الإبداعية التي تستقي من التاريخ ما يلاءمها؛ ويحقق مبتغاها؛ خاصة عندما يضيف الشاعر إلى الشخصية التاريخية بعض الأدوار،والرؤى،والمؤثرات الجديدة مما يمنحها تميزها،ومحمولها الرؤيوي والأدائي الجديد أو المعاصر؛ ذلك:” أن الأحداث التاريخية،والشخصيات التاريخية ليست مجرد ظواهر كونية عابرة تنتهي بانتهاء وجودها الواقعي؛ فإن لها إلى جانب ذلك دلالتها الشمولية الباقية،والقابلة للتجدد- على امتداد التاريخ- في صيغ وأشكال أخرى؛ فدلالة البطولة في قائد معين؛ أو دلالة النصر في كسب معركة معينة تظل بعد انتهاء الوجود الواقعي لذلك القائد أو تلك المعركة باقية وصالحة لأن تتكرر من خلال مواقف جديدة وأحداث جديدة؛ وهي – في نفس الوقت- قابلة لتحمل تأويلات وتفسيرات جديدة”(1).
وبما أن الشاعر شوقي بزيع مسكون بالتراث، يعي حقائقه،ومفارقاته،ومنحدراته،ومؤثراته فإنه استطاع أن يستلهم التراث بروح المعاصرة؛ لتوليد نوع من الجدل الحاد بين ما تنطوي عليه الشخصية التاريخية المستحضرة من حقائق،ورؤى ملصقة بهذه الشخصية منذ القدم؛وما تسعى إلى توليده في سياقها النصي الجديد؛لتتكشف لنا حقائق جديدة،ورؤى،ومنظورات خبيئة في هذه الشخصية تفعِّل دورها،وتألقها بين ما تختزنه حقيقة في رؤاها و منطلقاتها الوجودية،وبين ما أسند إليها من أدوار جديدة تعري الواقع، أو تنفذ إليه لمحاكمته، وكشفه، وتبيان مظاهر فساده،وتفسخه،وانحداره؛ولذا جاءت مقولة الناقدة زهيدة درويش صائبة في أهمية هذا الأثر التقني الفني في شعر شوقي بزيع قائلة:” إن شوقي بزيع متأصل في تراثات المشرق العربي المتنوع؛ حيث تعاقبت الحضارات من بابلية؛وسومرية،وفينيقية،ومسيحية، وإسلامية،وعربية، يتمثلها الشاعر جميعها فتصهرها عبقريته لتخرج لماعة كالذهب من خيميائه السحري. فهو لا يرضى لنفسه أن يكون مجرد شاهد على التراث، أو وريثاً له؛ بل نراه يخرجه من بئر الذاكرة نابضاً بروح جديدة تبثها فيه رؤياه الشعرية التي تصدر عن حضور كثيف في مناخ العصر. إن عروة بن حذام،وديك الجن،وقيس بن الملوح، وعمر بن أبي ربيعة، وامرأ القيس، يصعدون درج الزمان، ليحضروا في قصائد تسبغ عليهم حيوات جديدة، كأن الذي عاشوه يوماً ليس سوى مادة للتحولات.ويثرب،والأندلس، والفرات ،والنيل،ودجلة، وقرطاجة ليست مجرد جغرافيا للحنين؛ بل ترتفع إلى مرتبة الرمز لتصبح هيروغلفيا للذات الحميمة”(2).
وهذا يعني أن شوقي بزيع برهن على مقدرته على تحوير الأحداث التاريخية؛واستدعاء الشخصية التاريخية التي يلقي من خلالها كل ما يعتمر في داخله من هواجس،ورؤى،ومنظورات، جدلية؛ فهو يوظف الشخصيات التاريخية بوصفها رموزاً منتجة للشعرية ومحركة لها؛وليست مجرد بؤردلالية تعمق الرؤية الشعرية وتغزي المحمول الدلالي فحسب؛ لذلك” كان شوقي بزيع يغرف من معرفته بالتاريخ القديم،وبأساطير الإغريق مادة يلقح بها خياله؛ فيخصب هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى كان يتجذر في التراث الروحاني الإسلامي والمسيحي الذي يشكل رافداً أساسياً لشعره؛وعنصراً مهماً في تكوين عالمه الذاتي؛ فتبقى القصيدة متصالحة مع الله حتى في ذروة التمرد أو في قعر الهاوية.وفي ذلك ما نضيف إلى الجمالية الفنية العالية التي تتسم بها أعماله الشعرية بعداً قيمياً أصيلاً. فالشاعر لم يزل يحمل في داخله براءة القادم إلى بيروت من أرض الجنوب، التي تطهره من كل رجس،وتمد إليه حبلها السري؛فتغذي روحه،وتربطه بأسلافه البسطاء الذين يستلهم منهم الحكمة،كما تعلمه الوفاء للبيت والعائلة. كما يحمل في قلبه بيوت النشأة الأولى،ويصونها كلؤلؤة؛ لأنها الفردوس الحقيقي؛والملاذ الأكيد عندما ينهار العالم،وتنعق غربان الخراب”(3).
ولذا؛ فأن قارئ قصائده المقنعة بالشخصيات التاريخية المستحضرة يدرك أن لتوظيفه دواعٍ فنية رؤيوية،تقتضيها التجربة،والرؤية في داخلها؛وليس إقحاماً ، أو استحضاراً غوغائياً فارغاً لا قيمة له، أو استحضاراً سننياً مقعداً ليس إلا أو زينة يوشي بها قصائده؛ إن استحضارها ضرورة فنية من ضروريات خلقها الفني وليست مجرد بنى دلالية رؤيوية محركة للأنساق الشعرية ؛ وهذا ما صرح به شوقي بزيع قائلاً:
” أنا مثلاً عندما تحاورت مع يوسف النبي مثلاً لم أعد شخصية يوسف كما هي؛ولكني حاولت أن أستنبط منها ما يمكن أن يصبح سؤالاً مطروحاً في هذا العصر؛ عندما عثرت على قمصان يوسف الثلاثة؛ القميص الأول الذي صبغه أخوته بالدم الكاذب؛ والقميص الثاني الذي مزقته زليخة من الخلف؛والقميص الثالث الذي شمه يعقوب حينما أرسله يوسف إلى أبيه مع أخوته، وكانت قد ابيضت عيناه فأبصر؛ هذه القمصان تحولت- بالنسبة لي- إلى أبعاد رؤيوية؛ وهنا أعود إلى الكتابة الرؤيوية، فأصبح القميص الأول قميص التجربة، والثاني قميص الشهوة، والثالث قميص الرؤية؛ هذه رؤية جديدة؛ وطبعاً إن القصيدة تقول: بأن كل شخص منا يحمل في داخله شيئاً من جمال يوسف،والإنسان عبر القصيدة لا يولد جميلاً؛ وإنما يصبح جميلاً؛ بالمكابدة؛ بمعنى أن الجمال ليس معطىً جاهزاً؛ ولكنه شيء نستطيع أن نجترحه نحن بالمكابدة وبالألم،وبقوة الحياة في داخلنا؛ وإلا أصبح الجمال أعطية مجانية، أوشيكاً بلا رصيد”(4).
وهذا يعني أن قصيدة (قمصان يوسف )تنطوي على أبعاد فلسفية وريؤية تحاكي ما يحوك رؤى الشاعر الجدلية واصطراعاته الوجودية بين الامتلاك الحقيقي للشيء دون عناء أومكابدة،وبين المجاهدة للامتلاك، ولهذا تسعى قصيدة (قمصان يوسف) لإثبات رؤيته الجديدة وفلسفته الوجودية، ونظرته الديالكتيكية للأشياء؛ إذ يجد الشاعر رغبته الجامحة دائماً في السعي وراء الممتنع واللا مدرك والصعب التحقق والالتقاط، ، ومن يتعمق في فكر الشاعر شوقي بزيع ورؤاه يدرك أن توقه نابع من إحساسه الفلسفي الوجودي بأن الجمال مكابدة،ولا يتحقق الجمال مجاناً؛ فالجمال ليس هبة؛وإنما اجتراح،ومعاناة؛وتبعاً لهذا
” برهن شوقي بزيع عن قدرته على بلورة نظرية متكاملة في الشعر.ودوره دون أن يتوسل لغة المنطق. ففي قصيدة(قمصان يوسف) استقى من القصة القرآنية مادة حولها بالرمز لتصبح لغة للمغامرة الشعرية التي تتطور وفق ثلاثة مراحل: الهبوط إلى البئر ومقارعة الموت(قميص التجربة) تتبعها الولادة الجديدة يرافقها شعور بالغربة وبازدواجية الذات التي تدخل في مناخ الحيرة والتردد(قميص الشهوة) قبل أن تجمع قواها لتنتصر على التوتر والخوف في لحظة إشراق الرؤيا (قميص الرؤية) حتى إذا ما بلغت القصيدة نهايتها رفع الشاعر القناع، ليعلن (الشعراء كالعشاق لا يصلون ما لم يحرقوا من خلفهم سفن الهيام”. والحقيقة ليست في الرحيل أو في المقام، بل في الطريق؛ بمعنى أن الشعر تجربة،ولغة،وتقنية إبداعية عالية،وليس مجرد سكب الأحاسيس في قوالب لفظية” ليس الشعر أن نبكي على ما ضاع من فردوسنا، بل أن نضرم تحت اللغة البكماء نيران المجاز”(5).
ومن نافلة القول: إن قصيدة (قمصان يوسف) تكاد تكون القصيدة الاستثنائية الأرقى في توظيف الشخصيات التاريخية بأفق فلسفي تأملي مفتوح في تجاربنا الشعرية المعاصرة، نظراً إلى هذا الخضم المزدحم بالدلالات، والرؤى،والجدليات التي تثيرها القصيدة،وتفتح أفقها الجمالي،ومنظوراتها المغايرة في تبئير الحدث، أو الموقف الوجودي الذي تؤطره،وترمي إليه.
ولابد من التركيز- في البداية- على بعض المعايير التي وضعها الناقد باقر جاسم محمد في الحكم على قيمة المنجز النقدي لقراءة ما من القراءات النقدية المحكمة التي تتناول نصاً ما ، أو ظاهرة معينة من الظواهر؛ويمكن إيجاز هذه المعايير والضوابط المنهجية كما حددها الناقد المذكور فيما يلي:”
1- دقة أحكام الناقد المستندة إلى وقائع نصية مأخوذة من النص المنقود؛وعدم تناقض هذه الأحكام.
2- دقة تصنيفاته للظواهر النصية المدروسة.
3- وضوح المنهج فيما يطرحه الناقد من آراء. والتزام الناقد يسياقات في التحليل، والرصد لظواهر النص المنقود منسجمة مع منهجه الذي ارتضاه لنفسه.
4- دقة استخدام المصطلحات المتخصصة، ووضوح مقاصد الكاتب من استعمالها.
5- سلاسة لغة النص النقدي،ودقة صوغها،وخلوها من الغلط في التركيب النحوي،وفي ضبط علامات التنقيط بوصفها جزءاً مهماً من نظام الكتابة
6- تناسق استراتيجيات القراءة التي اعتمدها الناقد،أو التي أقام -على أساسها -قراءته النقدية،وتناسبها مع طبيعة النص الأدبي المنقود،ومع الضرورات الفكرية والمعرفية التي تنبثق من داخله”(6).
وبمنظورنا: إن هذه الضوابط غير كافية لتحقيق قراءة نقدية علمية ناجعة أو لنقل منضبطة تملك تجذرها المعرفي؛ إذ لابد من توافر شروط إضافية تغني النص المنقود،وتحقق قراءة نقدية تكاملية؛وأبرز هذه الشروط نوجزها فيما يلي:
1- ربط الجزئيات بالكليات؛وإعطاء نظرة شاملة للنص الأدبي أو الشعري المنقود؛من حيث تماسك الرؤى الجزئية وتفاعلها على المستوى الجزئي،للوصول إلى الرؤية الجوهرية التي تمثل مركز ثقل القصيدة،ومحور ارتكازها الفني.
2- توالد المصطلحات واقتضاء بعضها لبعضها الآخر؛ بمعنى أن يقتضي المصطلح النقدي المصطلح الذي يليه برؤية منطقية مترابطة،ومنظومة دلائلية متكاملة توحد معطيات المصطلحات ؛للكشف عن المغزى النصي الجوهري للنص لتفضي الدراسة إلى موضوعية أدق،ورؤية أشمل وأكمل.
3- الخلوص بنتائج منطقية تدلل على عمق الرؤية القرائية،والغوص في الباطن النصي؛ بما يفرضه النص،وما يدلل عليه؛ لا إسقاط النتائج المسبقة، والانطباعات الحدسية المباشرة التي تقيد النص،ولا تلبس لبوسه الفني، ومعياره الحقيقي.
وبما أن القراءة الموضوعية لا تأتي مصادفة،وإنما تأتي ترجمة للتفاعل الرؤيوي الخلاق بين المبدع والمتلقي؛ فإنه بقدر ما يتفاعل المؤول مع النص،ويتفاعل النص مع المؤول بقدر ما تحقق القراءة رصانتها،وموضوعيتها،ودقتها؛وبهذا المعنى يقول شوقي بزيع:” المؤول الجيد هو الذي يضيف إلى النص ويكمله؛ فالنص يبقى ناقصاً بانتظار المؤول الناجح الذي يفكك جزئياته،ويعيد بناءها من جديد؛والمستقرئ الجيد للنتاجات الأدبية والقرائية الناجحة يعي أن التأويل الناجح هوالذي يثري النص،ويغنيه،لايفككه،ويشوهه،ويعبث به،ويجره إلى دائرة التيه والانحطاط والتسلط الإيديولوجي والإسقاط الغريزي العجائبي”(7).
ولهذا يمكن القول: إن التأويل الناجح هو الذي يحتاج إلى منتج إبداعي فعال وناجح كذلك،ومن أجل هذا،تتفاوت النصوص الشعرية فيما بينها،سواء أكانت نصوصاً مفتوحة أم مغلقة- حسب قوة الحساسية التأويلية،وقدرة الاستشفاف والملاحظة النصية؛وهذا ما يجعلنا نميز بين (النص المغلق/ والنص المفتوح)؛ إذ إن( النص المفتوح هو النص القابل للتأويل والاستجابة،والاستثارة؛ في حين أن النص المنغلق على ذاته أو النص المغلق هو النص الذي لا يتجاوز حدود التفسير المعجمي أو الشرح،وكلما اتسعت مساحة الانفتاح،وامتدت في فضاء الدلالة كانت فرص اختراق المقروء. وتجاوز المحجوب أكثر حضوراً وفاعلية “(8).
وبما أن شعرية أي شاعر تتمفصل على مثيرات،ورؤى ودلالات،ومرجعيات،ومؤثرات تحكمها في طريقة الصوع الشعري، فإن لكل قصيدة منعرجاتها،وأسلوبها،وجمالياتها،ومروضاتها،وتقاطعاتها الدلائلية التي تفتح أفقها للمؤول للخوض في بناها،ومرتكزاتها الإبداعية،بخطى دقيقة،وأحكام منطقية نقدية مقنعة؛ ولعل أبرز ما تفيض به هذه القصيدة من دلائليات ومرجعيات وتقنيات تشكل مفاصل مهمة في القصيدة نلخصها فيما يلي:
أولاً- محفزات الحدث:
ما من شك في أن الحدث وبلورته،وطريقة تمثيله،وتحريكه في العمل الأدبي يعد المقوم الأبرز في الحكم على جماليات العمل الفني،ومكمن ثقله،خاصة في القصائد الشعرية الدرامية أو الملحمية التي تضج بالحوار، وتعدد الشخصيات، ومن البدهي أن نذكر أن الحدث يمثل مركز ثقل البناء القصصي والمحفز لجمالياته، بوصفها المحرق الذي يجتذب إليه باقي المؤثرات القصصية من حبكة، ووصف،وحوار،وتأزيم للموقف،للوصول إلى نقطة الانفراج، أو لحظة التكثيف،وتمثيل الرؤية؛ بغية الخلوص بموقف جديد، أو نتيجة، أو مغزى ما ؛ترمي إليه القصة لتبني كيانها الفني؛ ومن الجدير بالذكر أن اعتماد الشعر المعاصر في إحدى تقنياته على الحدث؛ فإنما يرمي من ورائه جذب المتلقي إلى سيرورة لغة الشعر بمحك جمالي جديد؛ وتقنية جديدة غير معهودة في الصوغ الشعري إلا ما ندر، ولا يمكن أن تحقق هذه التقنية دورها الأمثل إلا عبر رسم الأحداث،والتدرج في تشكيلها؛وصولاً إلى ذروة المشهد،ولب الموقف واحتدامه؛ وبهذا المنزع تقول الناقدة خلود ترمانيني:
” يستند الشاعر العربي الحديث إلى أسلوب القص المشوق في بناء قصيدته؛وذلك باعتباره وسيلة لجذب اهتمام المتلقي؛وشد انتباهه. والتشويق له صلة بالتوتر الذي ينجم عن القلق الذي تعيشه الشخصية أو الصراع الذي يجسده الحدث المثير؛ ويقوم أسلوب القص على التدرج في رسم الأحداث حتى الوصول إلى الحبكة؛ فالذروة؛وفيها تشتد الأزمة وتتأزم؛ ثم يبدأ الحل والانفراج؛ويتجه الحدث نحو النهاية؛كما يعتمد أسلوب القص على تحديد المكان؛ورصد تطورات الزمان اللذين تجري في ضوئهما أحداث القصيدة”(9).
وبمنظورنا : إن الحدث الشعري لا يكتسب أهميته القصوى- إلا من خلال الحبكة الشعرية والنسج الجمالي الإبداعي الخصيب،والتلوين في توصيف الحدث بين الرشاقة،والسلاسة،والانتقال السريع من حدث إلى آخر؛ ومن مشهد دراماتيكي إلى آخر حيناً؛ وبين الرطانة،والاستغراق والتمطيط حيناً آخر؛ تبعاً للموقف الشعوري،ودرجة تمثيله شعرياً؛ وتبعاً لهذا؛ فإن الشاعر المبدع:” يقوم بتحويل أدوات القص إلى أدوات شعرية تستغل إمكانات البناء القصصي للتعبير عن المعاني الشعرية ذات الأبعاد المختلفة من خلال استخدام التفصيلات المثيرة التي تتفاعل مع إيقاعات اللغة؛ لتكفل لها الدلالات الموحية. وهكذا؛ يعد الأسلوب القصصي أداة تعبيرية؛ووسيلة بنائية تقوم على أساس تجسيد الشخصية المتنامية التي تفضي إلى أحدات منتظمة؛ وهاهنا؛ يشترط أن تعبر الشخصية عن مواقفها التي تناسبها دون تدخل من الشاعر؛ فالشخصية هي التي تسير الأحداث؛وتنظمها؛وفقاً لحركتها المتنامية؛وفي الوقت نفسه يمكن للأسلوب القصصي أن يقوم على أساس الحدث؛وهو الحركة الداخلية في النص الشعري التي تتنامى بحيث تدور الشخصيات في فلكه لتعبر عنه”(10).
وبما أن الحدث المكثف هو الذي يستدعي المجازات؛ والجدليات،والمتضادات،وبلاغة المشاهد،والتقنيات الوصفية في رسم أبعاد المشهد؛ فإن ما يستثير الحدث هو التفاعل بين المشاهد والأحداث في سيرورة نسقية متفاعلة؛ وهذا ما سنرصده في القصيدة؛وفق ما يلي:
1- رصد الحدث وتكثيف المشهد(سردية الحدث المشهدي):
ثمة مقولة للشاعر المصري والناقد الفنان الكبير زكي مبارك، مفادها:” الألفاظ تتقاتل في سبيل العيش كما يتقاتل الناس؛ فينتصر فريق،و ينهزم فريق؛ ثم يجيء الكاتب الحصيف، فيعانق اللفظ المنتصر؛ ويتقدم الكاتب المخذول،فيعانق اللفظ المخذول”(11).
إن هذه المقولة رغم أنها لا تناسب السياق الذي نتحدث عنه؛ أو نرمي إليه؛ غير أنها فتَّقت رؤانا؛ومنظوراتنا إلى ما نصبو إليه في هذا السياق ألا وهي: أن الأحداث تتصادم وتتعانق، وفي تصادمها وتنافرها يكمن نشاطها،وتلاحمها وتفاعلها؛ وبقدر ما تمتلك الأحداث مرجعية اصطراعية صاخبة بقدر ما تصل إلى أقصى مظاهر التفاعل،والحضور،والتأثير في إنتاج الدلالة،وتكثيف المعنى،وتعميق الرؤية؛ خاصة في الأحداث والمشاهد الدرامية التي تصل إلى ذروة التوتر والصخب والاحتدام؛ ولذا ، فإن سردية الحدث المشهدي هي ثمرة من ثمار توتير الحدث؛ وإذا كان السرد لا يتضمن أزمة ما، أو توتيراً ما في كثير من سياقاته عند معظم الشعراء الذين تقوقعوا، وفاضوا، واستفاضوا في هذا الجانب؛ فإن الكثيرين منهم خلقوا الحدث الدرامي في المشهد السردي البسيط؛ وبمنظورنا: إن شوقي بزيع ابتدأ قصيدته(قمصان يوسف) بداية سردية وصفية لا تخرج عن نطاق ما اعتدنا عليه في مثل هذه القصائد من وصف للمكان، والبيئة، وصفاً فوتوغرافياً دقيقاً؛ وهذا الوصف تدرجي أو تدريجي(تمهيدي) يرمي من ورائه الشاعر توتير الحدث بالتدريج لا إشعاله فجأة على شاكلة الشعراء القدامى خاصة شعراء المعلقات في العصر الجاهلي؛ ودليلنا أن الشاعر بدأ توصيفاته السردية بتمهيد وصفي(فوتوغرافي- مكاني) للدخول في شرنقة الرؤية؛ومحمولاتها الإيحائية؛ كما في هذه البداية السردية التالية:
” قُبَّراتُ الحقول،
تقافزُ قلبَ الثعالبِ
حول الينابيعِ
نومُ النمالِ الطويلِ
على طرقاتِ الشتاء،
عراكُ المجرَّاتِ
من أجلِ نجمٍ تغازلُهُ الشمسُ
من خلفِ ظهرِ الفلك”(12).
إن المتأمل – في القول الشعري السابق- يلحظ أن إيقاع السرد الوصفي المشهدي يطغى على سيرورة الحدث؛وهنا؛ يبدو النسق الشعري، مقدمة وصفية تدخل رويداً رويداً في خضم الرؤية دون أن تتخلى عن سرديتها،وإيقاعها الوصفي التقليدي المعتاد في كل النصوص الوصفية؛وهذا يدل على أن المدخل السردي التمهيدي لهذه القصيدة مدخل مألوف معتاد يصوغ كونه الشعري بلغة وصفية تمهيدية؛دون مشاهد حادة،أو قفزات تصويرية محرضة؛تنأى بالمشهد عن حساسية القارئ العادي،ومستوى فهمه،وإدراكه، ولهذا عمد الشاعر إلى هذا الأسلوب ظناً منه أن التمهيد السردي الوصفي للحدث المثير، أكثر ألفة وتفعيلاً للقارئ من إدخاله جو الرؤية فجأة وبشكل مباشر؛مما يُشكِل عليه مجريات الرؤية في القصيدة؛ويشكل عليها مكمن حراكها،وتحريضها للحدث.
ولعلنا لا نجافي جادة الصواب إذا قلنا: إن السرد الوصفي المشهدي- في مثل هذه القصائد- قد يضعفها،ويضعف لحظتها الإبداعية، المتوهجة؛ هذه اللحظة التي تتطلب متنفسها الإبداعي،بزخم رؤيوي،تخييلي مفتوح؛ لصياغة القصيدة التكاملية/ أو القصيدة- الموقف؛تلكم القصيدة التي تجسد الحدث بكل توتر اللحظة، وشحنتها الانفعالية/ أو التأملية الصاخبة.
وبمنظورنا: إن هذه المقدمة السردية الوصفية لا ترقى إلى مستوى ما تمثله هذه القصيدة على المستوى الإبداعي؛لأن مثل هذه القصائد تتطلب متحولاً سردياً مشهدياً سريعاً؛يلاءم حجم المتحول الانزياحي في حركة الأحداث والمشاهد؛ فيما تظل هذه المقدمة بمنأى عن جو القصيدة الإبداعي،ومسارها السردي الحداثوي المنفتح؛ فالقصيدة الرؤيا –بمنظورنا- تستدعي الفاتحة الاستهلالية الدافقة بالحراك والتنشيط البصري/والذهني بوصفها الأرضية الصلبة أو المرتكز الجوهري للقصيدة الرؤيا، أو [القصيدة البانورامية] التي تجمع الحداثة بالتراث أو التراث بالحداثة،والمشهد السطحي بالمشهد البؤري المركَّز؛ لتخليق الشعرية بمنظورات نشطة تحرك القصيدة؛ وتستثرها أحياناً؛ إلا أن هذا التمهيد لم يكن بمستوى ما تفيض به هذه القصيدة لاحقاً من حيث تفاعل الإشارات،والعلائق التناصية؛ والاستعارية بلغة تتوهج إبداعاً ؛وحساسية؛وكان من الأرجح لهذه القصيدة لتحقيق سيرورتها الإبداعية المتوهجة أن تبدأ بالسرد الوصفي الإيحائي الرشيق الذي يتضمن صوراً،وإشارات وصفية فنية تمتلئ بوظيفة تركيبية إيحائية ذات سيادة في جذب القارئ إلى تلقي القصيدة بمنوال جمالي جذاب،وتتابع تدريجي ممنتج للأحداث واللقطات المكثفة يقود الموجة الإيحائية؛ لتشكل سيرورتها الدلالية؛ والتزأبق في مركز حساس يفجر آفاق الشعرية؛ ويعلي من نشاطها الفني خاصة في لحظة تكثيف الرؤى، في تدافع حركة الأنساق إيحائياً ودلالياً. وهذا ما لم تضطلع به هذه المقدمة السردية على الإطلاق رغم توهج القصيدة فنياً فيما بعد. والسبب يعود – من منظورنا- إلى أن ضغط الرؤية،وفلسفتها، ومحاولة تركيز الحدث، بأبعاد فلسفية- رؤيوية عميقة جعلته بمنأى عن توصيف المشهد بحرارته الإبداعية المتوهجة،وإحساسه الدافق بهذه الشخصية؛ولعل العجز عن تمثل وهج الحالة في بداية القصيدة قد سرى بشريانها إلى الصور المؤنسنة التي جاءت مائتة جامدة-كذلك-لا نبض فيها؛ ولا حراك؛وكأن الكلمات مصفوفة إلى بعضها البعض بأدلجة تشعيرية خالية من وهج الإحساس،ودفق الشعور؛ودليلنا على ذلك الصورة الرطينة الباهتة التي جاءت رغم أنسنتها متحجرة دلالياً ونبضاً عاطفياً محموماً:(قبرات الحقول تقافزُ قلب الثعالبِ حول الينابيع)؛ فالقارئ لا يشعر بأيه قشعريرة؛ أو إثارة، أو إحساس جمالي إزاء هذا النسق الوصفي؛ ومما زاد من رطانة النسق- الجمود،والتحجر الذي ران النسق الوصفي التالي للنسق الأول؛فمن الملاحظ في اللعبة الشعرية المبدعة التي تنطوي على حراك فني مثير أن الشاعر حينما يقدم نسقاً سردياً مباشراً أن يفعله بنسق فني فعال يحرك رطانة النسق الأول ،لكن الشاعر استمر على هذه الشاكلة،بنسق أكثر جموداً ورطانة من النسق الأول؛(عراكُ المجرات من أجل نجمٍ تغازلهُ الشمسُ من خلفِ ظهر الفلك)؛ إن القارئ ليشعر بأنه أمام نسق وصفي قصصي تقليدي متحجر؛ خالٍ من كل مثيرات الشعرية وآفاقها، ورؤاها، ومحفزاتها على الإطلاق؛ وسيلحظ ثمة فرقاً كبيراً في المستوى الفني بين هذه البداية السردية الباهتة، والتخليقات الجمالية والرؤيوية في سياق القصيدة،وتجسيد أحداثها، بعين لاقطة تمسح كل ما قلناه،وتؤكد تجذره الإبداعي،وتوهجه في إثارة النسق الجمالي بروح متمردة ثائرة تغوصُ في خضم الرؤية،وعمقها بمنظار إبداعي خصيب؛ يتجاوز مثل هذه المنزلقات التي تقلل من شعرية القصيدة؛ بل تضعف أهم ركن من أركانها، أو أقوى عمود من أعمدتها؛وهي الفاتحة الاستهلالية المثيرة أو الجذابة؛وقد سبق أن أكدنا في معظم بحوثنا النقدية السابقة أن الشاعر المبدع هو الشاعر الذي يثير المتلقي منذ الفاتحة الاستهلالية لأن الفاتحة الاستهلالية المثيرة هي الإشارة النصية المحرضة الأولى بعد العتبة الاستهلالية في إثارة المتلقي وتحفيزه للتفاعل معها؛ فالشاعر عندما يحسن في اقتناص الفاتحة الاستهلالية المتوهجة فإنه يرقى بالقصيدة إلى أعلى درجات الإثارة؛ مفعلاً درجة تلقيها الجمالي؛ومحلقاً بأسهم شعريتها لا محالة؛وهذا ما عجزت عنه القصيدة بشكل واضح وأكيد؛وهذا بمنظورنا يعود إلى كثافة الرؤى المتخيلة في ذهنه واحتدامها، فلم تسعفه اللغة في نقل هذا الاحتدام الرؤيوي، بكثافته وحراكه الفاعل ، فأرتدت إلى مثل هذه الرؤى المشتتة الخالية من مركزية رؤيوية ممنهجةأو ممنتجة فنياً في تعميق الحدث وتكثيف الرؤية.
وبتقديرنا: إن سردية الحدث المشهدي المثير- لتتحقق بكامل محفزاتها الفنية – ينبغي أن تعبر عن جدلية رؤيوية؛ أو منزع توصيفي مثير؛ يبتعد عن مجانية السرد،وصوره الباهتة التي تثقل النص بدلاً من تنشيطه،وبعث الحركة في متخيلاته،ورؤاه البصرية،وأنساقه الوصفية؛وهذا ما افتقرت إليه القصيدة في مساقها الاستهلالي المباشر السابق.
2- التفاعل الدرامي المشهدي (بانورامية الحدث):
إن شعرية الحدث تكمن في دراميته أو بانوراميته؛والشاعر حين ينزع إلى تحوير الحدث، وقلب معطيات الأحداث بمنظورات جديدة؛ فإنما يحاول أن يتغلغل في بؤرة الرؤية الشعرية وعمقها؛ ومخزون ما تبثه من معطيات إيحائية تدخل صلب المشهد والحراك الشعوري في تمثيله؛ومن هنا:” يتغلغل العنصر الدرامي في صميم النص الشعري فيستكشف خصائصه الدقيقة التي تذهب في كل اتجاه؛ولا تثبت على فكرة واحدة؛ وإنما تخضع لجملة من الأفكار المتناقضة التي تتحرك في كل أرجاء النص؛ بهدف إغنائه،واستكناه مساربه الخفية.وعلى هذا؛ تبدو القصائد ذات النزعة الدرامية أكثر عمقاً من غيرها؛ فهي قادرة على إدراك المتناقضات لاستبصار العلاقة الخفية والروابط الشعرية بين الأشياء”(13).
والشاعر حينما يدخل نطاق الحدث البانورامي المشهدي لا يدخله مجانياً برؤية واحدة؛ ومدلول مركز أو معين ؛وإنما يدخله مشغولاً بزخم رؤيوي،وإحساس وجودي جدلي عميق؛وإن أولى سمات الحدث الرؤيوي تكمن في” تفعيل الرؤيا، لتدل عن الواقع الموضوعي الذي يعيشه الشاعر؛ الرؤيا بمعنى من المعاني هي الكشف،والحدس، والنفاذ إلى أعماق الواقع وأسراره؛ بحيث تكون الرؤيا مظهراً من مظاهر الكشف.والرؤيا بمعنى تصور المستقبل، واستشرافه والتنبؤ به؛ وبهذا؛ تعبر الرؤيا عن وعي حاد باللحظة الراهنة؛وهنا؛ تلعب الرؤيا دوراً مهماً في تقديم موقف الشاعر وفلسفته”(14).
وبهذا التصور- فإن بانورامية الحدث في بنية القصيدة الحداثية تتنامى بتنامي الحدث الدراماتيكي أو الدرامي؛وبقدر تفاعل الحدث الدرامي مع المشهد البانورامي، بقدر ما ترقى التجربة،وتزداد الرؤية،وإيقاعها أثراً وإيقاعاً داخلياً محتدماً،”ولو تتبعنا الخصائص الإيقاعية للقصيدة ذات الطابع المشهدي الدرامي لوجدنا أن الإيقاع لا يسير في اتجاه واحد؛ فالذات الشاعرة تقابلها القيمة الموضوعية،والظاهر يستخفي وراء الباطن،والحركة الخارجية تقابلها حركة داخلية؛ومستوى الشعر يقابله مستوى الحياة نفسها؛ومن هنا؛ يصبح الإيقاع غنياً يرتكز على حرارة التجربة الوجدانية؛ وبذلك تتنامى درجات الإيقاع الداخلي؛ وتبلغ أعلى مستوى من التكثيف؛ والتنويع دونما تشتت؛وذلك من خلال استخدام الأقنعة التي تحتفظ بكل طاقاتها التعبيرية؛ لكونها وسيلة درامية يحاول الشاعر من خلالها إدماج ذاته في ذات أخرى بعد أن تمكن من وعي الحقائق التي تعيشها شخصيات القصيدة. وفي الوقت نفسه؛ فإن في تعدد الأصوات، ونهوض أصوات مضادة ما يكسب القصيدة مزيداً من التكثيف، والتناقض؛ إذ تتوالى الانعطافات الشعرية،وتتصارع المتناقضات،وتتعدد الشخوص حتى يندفع النص نحو ذرى درامية؛ قوامها الصراع المركب الذي يحتضن التجربة الشعرية بكل تفصيلاتها؛ وعلى هذا الأساس يستجيب الإيقاع للتوجه الدرامي؛ فيتشكل مع تشكل العلاقات النصية المتنوعة في النص الشعري الواحد”(15)
وبمنظورنا: إن شوقي بزيع – في هذه القصيدة على ما يبدو- يستشعر الحدث ببانورامية مشهدية تخط ألقها بالعزف على سفر التناص بالرموز؛ والإشارات النصية المقتنصة من القرآن الكريم والإشارات التاريخية من أسماء وقصص،وأحداث،ومنظورات؛ تاركاً القارئ في مجابهتين؛ الأولى- مع اللغة بشذراتها التناصية المنفتحة، والثانية مع الحدث بمحاكمته، ومحاورته، وتعديله بما يرتضيه بمنظور الرؤيا،والتجدد الإبداعي الخصيب، والمراوغة في نقل الحدث،والتلاعب في تجسيده، بما يضمن مشاكسة المشهد، وتحريك الحدث، كما في قوله:
” كلها الآنَ تسجد لكَ
كلها الآن تجثو على قدميكَ الإلهيتين
ميممة شطرَ أهدابكَ السود
مسرعةً كي تقبِّل ثغرَ الهلالِ
الذي قبَّلك
ولكنَّ سركَ في أن تكونَ
جديراً بسحركَ
في أن تخضَّ المياه التي سكنتها الشياطينُ
كي تستعيدَ البراءةَ
أو تستعيدَ بجذع اختياركَ
من حاسدٍ حسدك”(16).
إن قارئ هذه الأسطر يلحظ انبناءها على نسق تكاملي في التفاعل المشهدي؛ وبانورامية الحدث؛ بأنساق وصفية تتلمس الشذرات التناصية؛ واللمحات المضيئة لشخصية النبي يوسف؛وهذا الانتقال من مجال السرد الوصفي المشهدي؛ إلى مجال الحراك المشهدي، أو ما أطلقنا عليه:[ بانورامية الحدث] يرفع من وتيرة الصور؛ وحراكها؛ وتصعيدها البانورامي الإيحائي المكثف؛ وهنا؛ تختلط المرجعيات التناصية،وتتداخل بالمرجعيات المشهدية، وقلقلة الأحداث، لتخليق الصورة البانورامية على شاكلة التحوير النسقي في المشهد المشهدي، كما في قوله:[كي تستعيد البراءة-أو تستعيد بجذع اختيارك من حاسدٍ حسدك]؛وهذا القول يتناص مع القرآن من خلال سورة(الإخلاص)؛وبمنظورنا: إن بانورامية الحدث، أو قلب الصورة، والتلاعب بالأنساق،وقلقلة الحدث،ومستتبعاته النفسية،وأحداثه المترامية،والزوغان في سيرورة الأحداث، هو من مولدات شعرية هذه القصيدة؛ لكسر استهلالها النمطي المقيت؛ محركاً النسق؛ برغبة هائلة إلى تجذير الحدث،وتعميق رؤيته الفلسفية؛ولاغرو في ذلك فهو القائل:( الصورة –بالنسبة لي- فلسفة رؤيوية،وقلقلة لحركة الأنساق؛ولذا؛ فإن قصيدة(قمصان يوسف) هي طرح لمنظومتي الرؤيوية،وإحساسي الوجودي التفاعلي مع هذه الشخصية تفاعلاً جدلياً حاداً موارباً؛لتخليق الأنموذج المثالي في هذه الشخصية أو كسر الأنموذج المثالي بالأنموذج الجمالي الواقعي الذي نجترحه بالمعاناة بمعنى أن الجمال استحواذ بالمكابدة والممانعة،والبحث عما في داخلنا من حيوية،وإشراق،ومنبع جمالي يتفجر على الدوام مع كل لحظة حياة،وإحساس،وتفاؤل “(17).
وبهذا الأسلوب يستمر الشاعر في خلق التفاعل الدرامي المشهدي؛ ليجعله عنصراً بنائياً فاعلاً، في التحفيز،والإثارة،والمناورة،والجدل، والاعتراض، في قلب الأحداث،وخلخلة المشاهد،وإثارة صدامها،وجدلها، خاصة عندما تتخللها الشذرات التناصية بذهنية مجازية متقدة،ومرجعية إبداعية فلسفية رؤيوية فذة؛كما في سيرورة النسق التالي:
” وسرُّكَ في أن تعودَ إلى نقطةِ الصفرِ
كيما ترى جسدكْ
نظيفاً كجوهرةٍ في العراءْ
وكيما تخلِّص نرجسكَ المتوجس
من نفسهِ
لا تصدق جمالك
صدَّق ظلالك فوق الجدار
وغصْ نحو وحلِ الحقيقةِ
كي تجدِّد
ما قوَّضَ الطينُ فيكَ”(18).
بادئ ذي بدء، نقول: إن المرجعية الفلسفية،والجدل الفلسفي، يشكل الخلفية الإبداعية لهذه القصيدة؛ فالشاعر يريد أن يتخلص من ثقل الأشياء وعبئها، ممارساً رؤيته الفلسفية التي مفادها بأنه لا فكر بلا تأمل، ولا جمال بلا مسبب أو مولد شعوري داخلي؛ وما جمال(يوسف) الساحر إلا ناتج إشعاع داخلي؛ فجمال يوسف ليس بالامتلاك،وإنما بمكابدة الجمال واجتراح المعاناة في تحقيقه؛ فجمال يوسف الظاهري لا قيمة له في مقابل الروح الجمالية التي امتلكها بالمكابدة والاجتراح؛فالشاعر يريد أن يقول في قصيدته : إن الجمال ليس امتلاكاً؛ وإنما معاناة للامتلاك واجتراح الجمال بقوة الفعل وروح الحياة التي تنبع من الصميم؛ هذا ما أراد أن يطرحه في منظوراته الفلسفية الجدلية عبر مقصديته الرؤيوية العميقة؛وعلى هذا؛ تتبدى أوجه المفارقة والمناقضة بين صورة يوسف في القرآن الكريم؛وصورة يوسف في القصيدة؛وهذا دليل:” أن الشاعر يختار من شخصيات التاريخ ما يوافق طبيعة الأفكار،والقضايا،والهموم التي يريد الشاعر أن ينقلها للمتلقي؛ومن ثم فقد انعكست طبيعة المرحلة التاريخية والحضارية التي عاشتها أمتنا في الحقبة الأخيرة؛ وإحباط الكثير من أحلامها؛ وخيبة أملها في الكثير مما كانت تأمل فيه الخير؛ وسيطرة بعض القوى الجائرة على بعض مقدراتها،والهزائم المتكررة التي حاقت بها رغم عدالة قضيتها.. انعكس كل ذلك على نوعية الشخصيات التاريخية التي استمدها شاعرنا المعاصر”(19).
وبمنظورنا: إن التوظيف الجدلي للشخصية التاريخية المستحضرة لأشد أثراً في تمثيلها،وتمتين أواصر تفاعلها في النص الشعري؛لأن ثمة الكثير من المعاني ستتفتق حصراً من خلال التصادم بين السياقين؛ مما يفيض بالدلالات الجديدة،والمعاني الإيحائية اللامتوقعة؛ إثرَ اصطدام الرؤى،وتفاعل المداليل؛وهذا ما نلحظه في المقطع الشعري الذي بيَّن فيه الشاعر مرجعيته الفلسفية،ورؤاه للجمال؛لاكتشاف حقيقة الذات والوجود؛ووفق هذا التصور؛ فإن القصيدة تحفل بالدلالات والرؤى والمثيرات الشعرية التي تحقق أقصى دلالات الرؤية والمرجعية الجمالية.
3-فلسفة الحدث وتبئير المشهد:
لاشك في أن خاصية التبئير من الخاصيات المهمة في الكشف عن عمق الرؤى الشعرية ومحفزاتها النصية في القصيدة؛خاصة إذا أدركنا أن تبئير الأحداث؛وفلسفتها أصبحت لعبة الشعرية الآن في كثير من القصائد الحداثية التي ما عادت ترمي الصورة البليغة والمشهد التصويري الجامد(الأستتيكي)؛ أو ما نسميه( المشهد الوصفي الساكن) أصبحت القصيدة لعبة- سردية فلسفية؛مبئرة للأحداث، والمشاهد السردية؛ عبر تركيز الحدث على محرق بؤري رؤيوي محدد،ورصد تتابع الأحداث، والمشاهد السردية، والانتقال المفاجئ من الاستفهام إلى النداء،ومن أمر إلى تمني، ومن إثبات إلى نفي، وهكذا دواليك بلعبة فنية مراوغة،ومتنفس إبداعي وصفي عميق؛ وإن اعتماد هذا البناء القائم على أسلوب القص:” يسهم في إثراء التجربة الشعرية من خلال تقديم الأفكار،والأحاسيس بطرق مختلفة عن الطرق الغنائية، أو السردية؛ ذلك أن تقنيات القص تقدم صوراً تحليلية للموقف الشعري الذي تتبلور رؤيته مع تنامي الأحداث،وتطور الشخصيات؛وهذا يكسب الشكل الذاتي للقصيدة شكلاً موضوعياً تخفت فيه النبرة الخطابية، وتتضاءل النزعة الغنائية على اعتبار أن تنامي الشخصيات،وتطور الأحداث هما اللذان يحولان دون تحول القصيدة القصصية إلى الغنائية أو السردية”(20).
ولهذا، عمد شوقي بزيع- في قصيدته هذه- إلى تلوين الأنساق والتلاعب بالأحداث،وقلقلتها،رغبة في تفعيلها؛ ببعد جمالي فلسفي مبئِّر لها إفراداً،وتركيباً؛وذلك لإكساب الشخصية المستحضرة عمقاً و دلالة،وتماسات، وتعالقات جديدة ما كانت لتظهر لولا تبئير المشهد،والأحداث،وإثارة توترها، بكل تداعياتها،وتطوراتها؛ ومفاجأتها السردية،ومراوغتها النصية؛وللتدليل على ذلك نتابع سيرورة النسق الشعري الذي انتهجته القصيدة؛كما في قوله:
” فهذا الزمانُ الذي برَّأ الذئبَ
من شبهةِ الدمِ
فوقَ قميصكَ
ليسَ زمانكْ؛
وهذا الحصانُ الذي لم تخنْ
برقَهُ المتردد
خانكْ
وإخوتكَ اتحدوا مع قميصكَ
ضدَ دموعِ أبيك”(21).
إن القصيدة تحاول أن تطرح فلسفتها عبر شعرية الحدث،وتبئير مدلوله، بمخاطبة وجدانية تدخل عمق القارئ بأسلوب يميل إلى استخلاص الأمثال، والأمثال، والتأمل عبر ما يسمى ب(فلسفة الاغتراب)؛ وأولى مظاهر الاغتراب في القصيدة تتمثل في تحوير الأحداث، والتلاعب بها ذهنياً، لمحاكمة تأملية منفتحة؛ تتخذ مرجعها من بعض الإضاءات الإشارية المقتبسة من القصص القرآنية في الذكر الحكيم؛ كقصة النبي يوسف،والأحداث البانورامية التي مرت بها هذه الشخصية الدينية؛ فأسقط الشاعر ظلال هذه الأحداث،وومضاتها،وإضاءاتها المعهودة؛ لتحويرها والتلاعب بها فنياً؛ بما يليق، وحجم الرؤية،وإغواءاتها،واستحواذتها التأثيرية على القارئ؛ وقد عمد الشاعر إلى التدليل على ذلك بوضوح عبر بعض الدوال التناصية المعبرة بحذافيرها عن تشابك الأحداث ؛وتأزيم خيوطها، تدريجياً، للوصول إلى نقطة الانفراج، والحل؛ وهي نبذ الخيانة،والمكر، والخداع والحسد، الذي دلل عليه بأحداث القصة على حقيقتها؛ كما في قوله:[ وإخوتكَ اتحدوا مع قميصكَ ضدَ دموعِ أبيك”].ناهيك عن بعض الدوال، والشذرات النصية الدالة على التناص:[ برأ الذئب- شبهة الدم- فوق قميصك- خانك]؛ إن هذه الدلائل والإشارات لتحقق فعل إغوائها،وتأثيرها، وتحريكها للحدث، باستبصار وئيد بالأحداث،ودوالها المؤسسة على إثارة الصدام بين ما يرتئيه في شخصية يوسف في سابق عهدها، أو ما يضفيه عليها من صفات جديدة؛ وتحريكها للوصول إلى ذروة الحدث؛ وهو نبذ الزمن الذي عاشت فيه هذه الشخصية؛ لإسقاط نفيه لزمانها على نفيه لزمانه الموبوء بالغش،والمكر؛والخداع؛ فإسقاط الحدث،وتبئيره جاء مفلسفاً لرؤيته،وكاشفاً عن مدلولها النصي العميق.
وإلى جانب هذا الإيحاء العام لشخصية النبي يوسف حاول الشاعر أن يوجه بانورامية أحداثه صوب لبوس العارف الحكيم الذي يوجه النصائح،ويقيم الأشياء بترقيش رؤيوي إبداعي ذهني عميق؛ كما في قوله:
“فلا تتعلقُ بدلو الأمانِ
الذي انتحلوه لكي يخدعوكَ
توقَّ أحابيلهم
وابتكرْ من خيوط الهلاك
حبالك
دع قميصكَ للذئبِ
كي تنتهي عارياً مثلما كنتَ
واهبط إلى آخر البئرِ
كي تستحقَ جمالكَ”(22).
بادئ ذي بدء، نشير إلى أن كينونة الإثارة،ومكمن اللذة في أي حدث شعري مشهدي مُبَأَّر،تتبدى في إثارة النسق بالمتحاورات التناصية التي تملك منعقداتها الدلالية،بالارتكاز إلى بؤرة حدثية،تفضي إلى دعم الحدث؛وتبئير مدلوله؛وهنا؛ استطاع الشاعر بمماحكته التناصية أن يحاور شخصية يوسف،متمثلاً الأحداث،بتغليب فلسفي- ذهني سردي حكائي لا منهج شاعري راقٍ للعبارات والجمل على شاكلة ما اعتدنا عليه في قصائده الغزلية المتوهجة؛التي تسمو بها اللغة والاستعارات إلى فيض إيحائي ودلالي عميق؛ وبمنظورنا: إن تبئير الحدث،وتركيز أبعاده الوجودية،وجدلية أفقه هي التي تفتح النسق الشعري،وتزيد خصوبته الجمالية،لكن في هذا السياق لاحظنا تدني مستوى الشاعرية؛ويعزى هذا التدني إلى فقدان الطاقة الاستعارية لمخزونها الإيحائي،وتوهجها الإبداعي الخصيب الذي لاحظنا توهجه في غير قصيدة لشوقي بزيع؛وربما يعود السبب من منظورنا إلى أن فعل الإغراء الرؤيوي كان الحافز الدسم الذي دفعه لرسم الأحداث بسردية دلالية مباشرة دون الغوص في الصورة- الدهشة،أو الصورة التوالدية التي تحقق مركبها الاستعاري بحنكة فنية -لغوية لا مثيل لها.
وبالنظر- فيما يخطه النسق الشعري في القصيدة من دلالات،ورؤى- نلحظ أن النسق يملك خاصيته الرؤيوية المؤثرة التي تحاول أن تؤطر الدلالة في نسق اختلافي لا يمتلك قوته التأثيرية في الإغراء؛ أو الإغواء الاستعاري؛وإنما يلجأ إلى إثارة ملامح وجوانب هذه الشخصية بقالب رؤيوي يتزيا ثوب الحكم، والعبر في إسقاط ملامح هذه الشخصية على شخصيته؛ليبث على صفحات مرآتها منظوراته وأحاسيسه الداخلية الجدلية المحتدمة بين الجمال الذي اصطفاه الله،وخصه به دون سواه، على باقي المخلوقات؛والجمال المجترح الذي يكابده الشاعر للوصول إليه،بالمكابدة،والتوق،والمعاناة،و لا سبيل إلى تحصيله إلا بالمكابدة، والمشقة، والبحث المتواصل؛ فالجمال لا يملك إغواءه إلا إذا كان ممتعاً؛يستحوذ على عالم الآخر بنضارته،وإشراقه،وخصوبته؛وهو- في الآن نفسه-ثمرة جهد شاق،ومضن،ومكابدة اجتراحية طويلة لتحقيق هذا الجمال؛ والمحافظة عليه؛ولهذا؛ جاء هذا القميص الموسوم ب( قميص التجربة) بمعناه الحقيقي(قميص المعاناة)؛ أو لنقل:( قميص الاجتراح الجمالي) الذي يحاول الشاعر أن يجري محايثة داخلية بين جمال يوسف الذي يمثل وجه الإغراء،والاستحواذ،واللذة،والإشراق الفطري،والجمال الذي نكابده نحن من أجل الوصول إليه والاحتفاء به؛وهذه القصيدة- في معناها الداخلي ما هي إلا محاكاة، أو محاورة لقصيدتيه:(حوار مع ديك الجن )؛و(ليلة ديك الجن الأخيرة) التي ينزع فيها إلى قصة ديك الجن،واحتفائه (بورد) على طريقته بحب الامتلاك،والتلذذ بجمال محبوبته؛ فجاءت هذه القصيدة انعكاساً تأملياً لفلسفته الجدلية بين رغبة الامتلاك/و اللا امتلاك لاجتراح المعاناة والمكابدة في سبيل تحقيق ما يصبو إليه؛ وهذا ما يجعله في بحث دائب عن أمكنة جديدة، ونساء أخريات لم يرتادهن من قبل؛وما رغبة ديك الجن الجامحة في امتلاك (ورد) محبوبته، واحتفائه بها وقتلها في النهاية للاستئثار بها،والشرب على نشوة امتلاكها،كأس اللذة، والمتعة؛ ومن هنا؛ جاء ولع شوقي بزيع بالأماكن اللامرتادة أو اللامعتادة انعكاسا لرغبته الجامحة في امتلاك نساء غير معتادة أو مرتادة رغبة في التجديد والتنشيط الرؤيوي على الدوام.
وصفوة القول:
إن فلسفة الحدث،وتبئير المشهد،من أبرز مقومات القصائد الرؤيوية، خاصة عندما يمتلك الشاعر موهبة فذة في تنويع الأحداث والضمائر،واللعب بالمتضادات المشهدية وحرااك الأحداث مع احتدام المشاهد واصطراعاتها في الحدث البؤري الدرامي المجسد؛ وهذا ما استطاعه شوقي بزيع في قصيدته(قمصان يوسف)وقصيدته (ليلة ديك الجن الأخيرة).
4-التلاعب بالحدث وأسطرته:
ما من شك في أن أسطرة الحدث تؤدي إلى تكثيفه، وإثبات كينونته الإبداعية،وتفعيله،وإبراز طقوسه الأسطورية؛ أو تحميله أبعاداً أسطورية تضاعف من عمق الحدث، وإصابته المرمى الجمالي خاصة إذا أدركنا أن الحدث المؤثر الصادم هو الذي يؤسطر الموقف؛ويبعث صدمة الرؤية بالأفكار، والرؤى الجدلية التي تحرك القشعريرة الإبداعية لدى المتلقي؛ أو تجذبه إلى ممارسة فعل التأمل،والتفاعل مع موحيات الحدث الأسطوري بكل طاقاته الحيوية وشذراته الرؤيوية المنفتحة؛ باعتبار أن الحدث الأسطوري هو المحرك لكينونة الأحداث؛ والباعث على تنشيطها؛ وتفعيل حراكها الجمالي؛ تقول(ديميرسيون):” لقد اجتمع نقاد الشعر وعلماء الأساطير كلاهما على أن الشعر في نشأته كان متصلاً بالأسطورة؛لا بوصفها قصة خرافية مسلية؛وإنما بوصفها تفسيراً للطبيعة،وللتاريخ،وللروح، وأسرارها؛ومعنى تفسيرنا للأساطير هو أن نكتشف فيها رموزاً للأشياء؛والأساطير ليست سوى أفكار متنكرة في شكل شعري”(23).
وبمنظورنا: إن فنية الشاعر،ومهارته،ومقاربته التقنية العالية هي التي تمنح الحدث الشعري طابعه الأسطوري المميز،وترتقي بفنية المجازات التي تخلقها الصورة الأسطورية في نسقها؛ خاصة عندما تتوافر على حدث شائق أو جذاب؛ يقول شوقي بزيع:”إن شخصية يوسف في قصيدة(قمصان يوسف) حملت أبعاداً فلسفية؛ ومثيولوجية؛ ونفسية،وجدلية؛ ورؤيوية شعورية. وهي تطرح رؤيتي الجدلية إزاء الثنائيات الوجودية المتعارضة أو المحتدمة كالثنائيات التالية:(الرجل/ والمرأة)و(الجمال/ والقبح)،و(المقدس/ المدنس)و(الروحي/ المادي)و(المحلل/ المحرم)و(الموت/ الحياة)؛ وقمصان يوسف هي صرختي الوجودية الجدلية في معارضة التراث والنظر إليه بعين حداثوية معاصرة”(24).
وبهذا المقترب ندخل رحاب المقطع الشعري الذي أسماه ب(قميص الشهوة)؛وهذا المقطع يدلل على أسطرة المشهد، والتلاعب بالحدث، وتحميله ملامح أسطورية على شاكلة قوله:
” حينَ عدتُ من البئرِ
أحسستُ أني أعودُ غريباً
كمن مسَّهُ
من نسيمٍ الألوهةِ
برقٌ خفيفُ
يباعدني عن يديَّ ملاكانِ
لا يبصرانِ سوى شبحي فيهما
وتسبحُ صحراءُ من خجلٍ
في عروقي
ولكنني منذ أبصرتُها
ضاقَ صدري لي
فأسلمتُ خوفَ أبي للذئاب
ولحيتهُ للرياحِ
وأحسستُ أني سواي”(25).
تنهض القصيدة على تبئير الحدث، وأسطرته عبر محاكاة الإحساس الداخلي لشخصية يوسف؛ باتخاذها قناعاً يبث من خلالها صدى إحساساته المترامية، وزخم الاصطراع الداخلي الذي يؤزه بين نيران الشهوة،وشبقية الغريزة، وأنيابها الكاسرة،وقيود العفة، والحياء،والرزانة والطهارة،والتقى .وبين هذين الشعورين المصطرعين تحتدم المشاعر،وتتنافر الرؤى،وتتراكم الإحساسات المتقابلة،وتزداد إثره وتيرات الاحتدام، والقلق الشعوري،رداً على هذا الشعور المتوتر الذي يعتمر في داخله،ولا يستطيع له خلاصاً أو ملاصاً؛ وهنا؛ سعى الشاعر إلى ترسيم مشاعره،وإحساساته المصطرعة على لسان النبي يوسف،وكأنه الهاجس الناطق بداخله، يتحثث كل ما في بواطنه الشعورية،وإحساساته المحتدمة؛وبهذا، ينقل الشاعر الحدث من طابعه التهويمي الفضفاض، إلى طابع نفسي شعوري مؤسطر، يرصد قلق الذات من الداخل بألوان من الرؤى والحساسية الجمالية والوعي الفني.
ووفق هذا المنظور؛ نستطيع القول:
إن أسطرة الحدث لا تعطي قيمة لبنية النص الشعري إن لم ترتبط بمنحى جمالي رؤيوي جديد،ومنظور مغاير،لما اعتاده القارئ في بلورة الحدث، وتأزيمه، واختزاله بشكل جدلي فني مغاير؛وهذا ما عمد إليه شوقي بزيع، في هذا النسق:
“وقد راحَ يركضُ في خرزِ الظهرِ
ماءٌ كفيفُ
وإذْ راودتني زليخةٌ
عن جنتي شفتيها
انشطرتُ
وراحَ الملاكانِ يقتتلانِ
على كتفيّ الثقيلين
فيما براكينُ حمراءْ كانت
تمزقُ أقفالها
وتهرولُ تحت ثيابي وما بين كفي جمرٌ يطوفُ
كأنَّ دمي ملعبٌ للوساوسِ
بعضي يحاربُ بعضي
وتشهرني
ضد نفسي السيوفُ”(26).
تنهض هذه القصيدة فنياً على سيرورة الأحداث، والرؤى، وتدافعها الشعوري المحتدم الذي يقوم على أسطرة الإحساس والشعور؛والسؤال الذي يمكن أن يطرحه علينا القارئ؛ هل ثمة إحساس مؤسطر،وإحساس غير مؤسطر؟؟ومتى يكون الإحساس مؤسطراً؛ أو خالقاً للشعرية أو باعثاً لها؟! وكيف نحكم على حدث ما بأنه أسطوري أو مؤسطر؟؟ وحدث ما لايرتقي إلى الأسطورة أو الأسطرة؟! وهل كل حدث أسطوري فاعل في تعميق الرؤية الشعرية وتحفيز مدلولاتها هو حدث أسطوري شعري مثير؟! ما هي المعايير التي نحكم من خلالها على فاعلية الأحداث الأسطورية؟!
قبل الإجابة عن هذه التساؤلات نورد المقولة التالية:” إن الأسطوري هو البعد المحجب من أبعاد العادي. والعادي هو لحظة شفافة من خلالها يتراءى الأسطوري؛ولكنه لا يمنح نفسه إلا للكلام الأصيل الذي يعيد للكلمات حرارتها الأولى وخطرها الأول: التسمية/ التأسيس. وهذا لا يقدر عليه إلا الشعر”(27).
بهذا المعنى نقول: إن أسطرة الإحساس؛ أو الإحساس المؤسطر حقيقة شعرية لا محالة في تلك النصوص التي ترصد منظومة المشاعر، وتوترها، وشحنتها العاطفية المتوترة خاصة في جو ملحمي تتفاعل فيه الملامح، والإشارات التاريخية مع الأحداث الواقعية، والمناورات التناصية التي تفعل الحدث الشعري،وتحول الإشارات، والدلالات من مدلولها الإيحائي السطحي القريب؛ إلى مدلولها الإيحائي البعيد( المبأر)؛ والأسطرة ليست في الحدث الأسطوري، وإنما في الحدث الواقعي المحوَّل إلى أسطورة، أو إلى ملامح أسطورية؛وقد أكد شوقي بزيع مقولة صائبة مفادها:”إن ابتعادي عن الأساطير كان – بالنسبة لي- مبرراً لشعوري بأن بنية اللغة الشعرية بنية أسطورية.. إنها لا تحتاج إلى مزيد من المحمول الأسطوري؛ إنها تقوم بذلك عبر الصورة،وعبر التخييل الاستعاري،والرمز الديني”(58).
وبهذا المنظور استعاض شوقي بزيع عن مسألة استحضار الأساطير الحقيقية؛ بزخمها في الذاكرة الجمعية بأسطرة الأحداث، والوقائع، والرموز التاريخية؛ وهذا ما يلحظه القارئ في شخصية يوسف، وديك الجن، وامرئ القيس،وعروة بن حزام،وغيرها من الشخصيات؛ إذ استطاع شوقي بزيع بحنكته الفنية من تحويل الأحداث الواقعية، والرقي بها- بفضل متخيلاتها المنفتحة، واحتدام المشاعر الصاخبة واصطدامها- إلى درجة الخيال المؤسطر، أو الإحساس الشعوري التخييلي المؤسطر؛ رافعاً مستوى الأحداث، والإشارات النصية إلى مستوى أسطوري؛ لنستشف خلاله عبق الأسطورة ومناخاتها المحتدمة، يقول الناقد الفذ عز الدين إسماعيل:” كل عمل شعري يمثل الطابع الأسطوري أو تتمثل فيه ىروح الأسطورة؛ أي كل عمل شعري تكشف لنا بنيته عن تركيبة أسطورية ومضمون أسطوري”(29).
وفي ضوء هذا التصور الرؤيوي نقول: إن الأسطرة تحميل شحنات أسطورية لأحداث واقعية أو أحداث تشي بالواقع، وتنأى به بمتخيلاتها الفذة إلى آفاق إغوائية؛ نتنسم فيها عبق الأساطير حتى ولو كان السياق غير مشبع أسطورياً؛ لكنه يفيض بحساسية الأساطير،وعبقها الجدلي،وهذا ما دفع الناقد أنس داوود إلى القول:
“خلف كل لغة شعرية؛حتى و لو كان الشعر تعبيراً حاراً عن تجربة ذاتية في صورة غنائية ترتد طبقة من الإشارات، والرموز الأسطورية؛ ويترسب قدر من لغة الإنسان الأولى،بكل ما فيها من تجسيد للأهواء والمشاعر، ومن بث الحياة في الأشياء؛ ومن إحساس بوجود الكون والحياة. وحدة تجعله جزءاً من الكيان الحي”(30).
وبالعودة إلى سيرورة القصيدة نلحظ أن الشاعر استخدم شخصية يوسف بوصفها قناعاً يبث من خلالها احتدام مشاعره، بجو ملحمي- أسطوري؛تبرز فيه الأحاسيس،وتحتدم في معمعة شعورية منفتحة على كل الاحتمالات،والرؤى، الجدلية المصطرعة بين نيران الغريزة والشهوانية،وإحجام الضمير بين ثنائية(المقدس/والمدنس)؛ عبر ازدواجية تفاعلية – لاشعورية محتدمة؛ترصد تفاعل الأحاسيس واحتدامها،وقلق الذات وتوترها؛ولا يمكن لأي عاقل إغفال هذا الإيقاع الصاخب الذي تولده الأحاسيس المصطرعة في قرارة ذاته التي تؤسطر الحدث؛ بل تنقل الإحساس من حيز الاعتمار النفسي إلى حيز الانفتاح الوجودي المؤسطر؛،وهذا يعني أن المتمعن في الزخم الشعوري لهذه الأنساق يلحظ العبق الرؤيوي الاصطراعي الذي يشف عن أسطرة الحدث برؤى شعورية مؤسطرة ترفع قيمة الحدث أسطورياً على شاكلة قوله:( كأن دمي ملعبٌ للوساوس.. بعضي يحاربُ بعضي.. وتشهرني ضد نفسي السيوف)؛ وهذا دليل أن الأسطرة ليست حدثاً فحسب، وإنما رؤية، وتوجه، وتشكيل بنائي داخلي حتى ولو لم يكن الحدث أسطورياً بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة. وحتى لو لم يكن ثمة أسطورة بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة؛ ولم يكن ثمة أسطورة حقيقية أو شخصية أسطورية قابعة في سجل الأساطير؛وإنما موهبة الشاعرالفذة؛ وإمكانياته الإبداعية الرؤيوية الخلاقة هي التي ترفع الحدث الشعري إلى ما هو أسطوري؛ وترفع الشخصيات ببعدها الاصطراعي الداخلي إلى جو يفيض بالأساطير وعبقها والأحداث الدرامية باحتدامها واصطراعها؛ولذلك
” لابد للشاعر المبدع من أن يستخدم الشخصية الأسطورية؛ بوصفها حاجة فنية ملحة، لا يتم للتجربة الإبداعية التشكل على النحو الأكمل إلا من خلالها؛ أما محاولة التلفيق المصطنع بين التجربة،وأية شخصية أسطورية لا توائم حاجتها التعبيرية ولا السياق الذي نسجت فيه، فهي جناية على الأسطورة والتجربة الشعرية كلتيهما”(31).
وبهذا المنحى المقارب يقول شوقي بزيع:
” الشاعر الذي لا نتنسم من خلف أنساقه الشعرية عبق الأساطير؛ و بعض الملامح الأسطورية المحرضة للرؤية الشعرية؛ و بلورة الموقف، وأسطرته، وتحميله طاقات إبداعية والتحليق إلى ما هو جمالي أسطوري خارق وغير مألوف؛ عاجز عن تحقيق شعريته الدرامية؛وفي ضوء هذا حتى وإن غابت الأساطير الحقيقية عن قصائدي فإن جوها الملحمي الاصطراعي لم يغب قط حتى في خضم توظيفي للمرأة والطبيعة؛ فإني حملتها أبعاداً أسطورية،ولم تغب حساسيتي المثيولوجية في خلق الجو الملحمي الدرامي الاصطراعي الذي يعبق بأريج الأساطير دون أن يعثر القارئ على أية إشارة أسطورية حقيقية ألا ما ندر”(32).
وهذا ما أثبتته الدراسة في مفصلها السابق.
5-تلفزة الحدث ودينامية اللقطة السينمائية:
لاشك في أن لجوء القصيدة المعاصرة إلى فن المونتاج، وتلفزة المشهد،وتمثيل الحدث بلقطاته المشهدية البصرية المثيرة كان وراء تفتق الذهنية الشعرية المعاصرة،وتنامي الحساسية الشعرية، والذوق الجمالي لدى القارئ في التقاط المشهد؛ وتحثثه بعين البصر لا البصيرة وبعين الرؤيا لا الرؤية فحسب على الرغم من أهمية الرؤيتين معاً؛ وبما أن اللحظة الشعورية الراهنة لحظة متسارعة فمن الواجب التقاطها، والتمسك بها، وإحيائها فنياً عبر تقنية الشعر التي تحاول الاحتفاظ بها، وبخصوبتها الجمالية؛ ولحظتها الزمنية الدافقة بالحساسية والشعور،وأبرز سبيل إلى ذلك تمثيلها للقطاتها البصرية؛ وحرارتها الطازجة؛وهذا دليل أن ركائز المخيال الشعري الخصيب تجسيد المتخيلات بصرياً بعين تقارب المجردات؛ لتصلها بالواقع المحسوس؛وأفضل ما توصف به الممارسة الإبداعية:” بأنها توليد بما هي خبرة جمالية مبدعة،والخبرة الجمالية في أحسن ما توصف به أنها ولادة جديدة تتجدد مع كل خبرة جمالية جديدة هي نشوة لحظية فورية تغمرنا بعد أن نكون قد قطعنا الصلة بين اللحظة الراهنة والماضي؛ لكي نستسلم لهذا الانجذاب الذي نلمح من خلاله المطلق واللامتناهي”(33).
والسؤال المطروح الآن: ما أهمية تجسيد الحدث بصرياً في مثل هذه القصائد؟!. وهل ثمة فائدة مرجوة من منتجة الحدث،وتكثيف لقطاته، في ظل احتدام الإشارات التاريخية، بين الزمن الماضوي والزمن الآني؛ كيف ترتقي الرؤية البصرية؛ لتتعمق جوهر الرؤيا، ومحور تكثيفها الإيحائي؟!
إن هذه الأسئلة تضعنا في لجة البحث عن فرادة النص الشعري؛ كقيمة جمالية تحقق فرادة المنظور الشعري،وعمق المشهد البصري الذي يعتمد الصورة المشهدية المتحركة كطاقة تعبيرية خصبة في التعامل مع الحدث؛ بوصفه طاقة بؤرية لتكثيف الرؤى،وتنشيطها،وتعدد
الاستجابات،والمنظورات المشاهدة، والمختزلة بصرياً؛وهذا يعني –حسب رأي شوقي بزيع- أن” الصورة المتلفزة أو الممسرحة هي التي تلتقط المشهد،ببانورامية تصويرية متسارعة تمنتج رؤاها، ولقطاتها على تكثيف الحدث،وإبهار الناظر بتتابع اللقطات،وتسارعها، لتجذب المشاهد،وتحقق له متعتين بصرية ورؤيوية معاً عبر اللقطة المتحركة؛ أو اللقطة الممسرحة للرؤية زمكانياً؛وهذا ما يجعلها أكثر جاذبية عما سواها من الصور”(34).\
وبالنظر- في سيرورة اللقطات،وتتابع موجتها البصرية من حيث تلفزة المشهد؛ومنتجة الصورة،وخلق مؤثراتها التشكيلية- لأدركنا أن هذه القصيدة تشتغل على مؤثرات بصرية تملك طاقة تعبيرية فذة في الإثارة،والإبهار البصري،والتوتر اللاهث وراء فاصلة بصرية، أو لقطة بصرية ممنتجة للحدث؛ وممركزة للقطات الجزئية الأخرى؛ لتقف عليها عين الرائي بوصفها القطب المحرقي البصري للصور واللقطات الأخرى؛وهذا ما نلحظه في المقطع الشعري التالي:
” ليس بيني وبين زليخةَ
إلا قميصانِ من عفَّةٍ وتشهٍّ
كأنَّ الصراعَ المؤبدَ
مابين إبليس والله
قد ضاَقَ
حتى غدا بحدودِ القميصينِ
أيهما الآن أختار؟؟
عدتُ من لجةِ البئرِ
كي لا أعودَ إلى البئرِ ثانية؛
غير أن فحيحَ الأنوثةِ
حول خناقي
وجسمي ضعيف”(35).
ترتكز هذه القصيدة- على رصد المشهد بمتحولات رؤيوية،ومحفزات بصرية ممنتجة للحدث؛وكأن هذه المشاددة التصويرية في رصد الموقف المحتدم؛ بين (يوسف وزليخة)،ورصد متحولاتها،وحركتها، ممركزة بصرياً بعدسة الكاميرا المصوبة التي ترصد حال الصراع والمراودة بينهما؛ وهنا؛ تشتد حدة الصراع لتصل إلى أشدها؛ لدرجة إبراز الجانب البصري، بمونتاج مشهدي متتابع، يقترب شيئاً فشيئاً من الأشياء،راصداً حركة الحدث بكل زخمه الرؤيوي، ومنتجته الفنية المؤثرة؛وهذا دليل أن الشعرية الحداثية ذات تقنيات بصرية أكثر من كونها تقنيات لغوية؛وبقدر ما تتسع دائرة التجسيد،والالتقاط المشهدي المؤثر بقدر ما تثير القارئ،وترفع وتيرة الشعرية.
والملاحظ أن حدة التوتر في الشخصية المستحضرة يزداد بقدر تنامي الصورة المشهدية وتكثيفها مع الأجواء النفسية والرؤيوية والشعورية للشخصية التاريخية الموظفة في سياق رؤيوي فني- متكامل؛ يشي بالعمق،والخصوصية، وعمق التأمل؛وهذا ما استتبعته القصيدة في مسارها الفني؛كما في قوله:
” كان لابد أن ينقذ الله
صورته فيَّ
فلما هممتُ وهمَّتْ
تدلَّتْ مراياهُ من خشبِ السقفِ
حتى حسبتُ بأني أعانقُ نفسي
وأنَّ زليخةَ ليستْ سوى
صرخةِ الإثمِ في داخلي
فاستدرتُ إلى الخلفِ
أعدو وراءَ جمالي
ويعدو ورائي
نباحُ الدماءِ المخيف!!”(36).
بادئ ذي بدء؛ نشير إلى أن الطابع النفسي للصورة المشهدية هو الذي يعزز إيقاعها المشهدي وبؤرتها الدلالية المكثفة،وفرادتها الإيحائية،وآليات تفاعلها مع الحدث،وسيرورة تناغمها مع المشهد؛ وبقدر احتدام الصورة المشهدية بالأجواء النفسية الشعورية،والاصطراعات الداخلية بقدر ما تنعكس على سيرورة اللقطات والصور زخماً إيحائياً شعورياً عميقاً؛وبهذا الخصوص؛ يقول شوقي بزيع:”إن الصور السجالية هي التي تخلق ديناميتها من جو الصراع الملحمي الدراماتيكي بين ما أضيفه إلى شخصية يوسف،وما تنطوي عليه حقيقة لتشكل النسج اللغوي النفسي البؤري للصورة المشهدية التي تستقطب الأحداث بدينامية شعورية مصطهجة وقلق شعوري محتدم؛ ولذلك ثمة حبكة داخلية،ورصد بانورامي مشهدي ونفسي للصور المشهدية التي تملك إمكانات عدة لرصد الحس الشعوري المعتمر في ذات الشخصية المستحضرة،إزاء جميع الأحداث دون أن تستطيعها الصورة السينمائية المشهدية حقيقة في واقعها الفني فيما يسمى بالكولاج والمونتاج السينمائي”(37).
لذلك؛ فإن أبرز ما يدلل عليه المقطع الشعري هذا الحراك الشعوري –البصري الذي يحوز المشهد؛وينقله نقلة مشهدية- بصرية شعورية اصطراعية محتدمة للكشف عن مختلف الهواجس التي تعتمر الشخصية المستحضرة بما تضخه من مشاعر؛وما تشي به من اصطراعات، وتوترات محتدمة(فلما هممتُ/ همت)و[استدرتُ إلى الخلف]؛ ولو دقق القارئ في سيرورة الصورة المشهدية المستحضرة لأدرك أن تقنية السينما في صورها المشهدية كلها بمكوناتها البصرية الدقيقة ولقطاتها الحية المتحركة؛لتعجز عن هذا الوصف الدقيق؛وهذا الرصد الشعوري العميق للباطن الشعوري المحتدم في رصد هيجان الحالة الغريزية وإحجامها؛ومن هذا المنطلق؛ تعد تقنية الصورة المشهدية في لغة الشعر أكثر غنى وخصوبة من الصورة المشهدية السينمائية رغم تقنياتها الفنية كلها.مما يدلل على أن للشعر لغته الإيحائية،وتموجاته النفسية الشعورية المحتدمة التي ترصد أدق الخفايا بمنظار فني- رؤيوي بصري متحرك؛ بتنقلات حركية إيقاعية شفافة؛ ترتقي بالحدث الشعري، وفي مساق الصورة البصرية وتموجاتها الحية كلها؛ وهذا يترك- تأثيره الفائق في المتلقي محرضاً فيه الحس الجمالي، والذائقة الفنية العالية في تحثث ما خفي من إيحاءات في الباطن النصي.
وخلاصة ما نذهب إليه: إن استحضار شخصية يوسف بوصفها قناعاً يبث من خلالها كل معتمراته الرؤيوية،والنفسية، والشعورية في مساق ملحمي شعوري درامي ممنتج لدليل على القيمة الفنية التي تحملها هذه الشخصية في ذاكرته الإبداعية؛ وما محاولة استجرار مساجلتها ومناقضتها رؤيوياً، ورصد تحركاتها الشعورية، ومعتمراتها النفسية إلا لرصد منعكساته الشعورية؛ ورؤاه الوجودية المواربة بحراك ذهني يستجليه مشهدياً عبر بوصلة الإحساس والشعور، وتحريك التاريخ، لتجسيد موقفه الرافض، ورؤاه الجدلية الممنهجة على نفي المألوف الروتيني، والنمطي، والتجديد لكل ما هو خارق، ورؤيوي، وإبداعي.
ثانياً- محفزات الرؤيا:
إن الشعر بلاغة رؤيا،وفضاء تعبيري خلاق؛ والشعر رؤيا كونية جديدة للحياة والكون؛ولا يخلد الشعر إلا إذا كان مرتكزاً على رؤيا فنية خصبة، وطاقة تخييلية عالية،وقدرة لغوية رفيعة المستوى،ولا يستحق الشعر سمة الشعرية إن لم يكن شعراً رؤيوياً خلاقاً –بامتياز- يفيض بمعانٍ ودلالات لا حصر لها؛ وهذا يعني أن:
“الرؤيا تجيء- بشكل مفاجئ- أو تجيء إشراقاً؛والرؤيا إذن تكشف، إنها ضربة تزيح كل حاجز؛ أو هي تخترق الواقع إلى ما ورائه.. فنحن لا ندرك الرؤيا إلا بالرؤيا”(38).
وهذا القول جد دقيق: فالشاعر الرؤيوي هو الذي يملك إرادته الإبداعية الخارقة التي لا تقف حيال سطح الدلالات؛ وإنما تصل إلى عمقها أي إلى مستويات لا حد لها من العمق النصي، والتبئير الرؤيوي؛وهذا ما يجعلنا نميز بين شكل الكتابة التقليدية،وشأن الكتابة الإبداعية،في خضم المقارنة بين الشعر التقليدي والشعر الإبداعي؛ وفق المنظور التالي:ف” الشعر التقليدي والشعر الإبداعي. فالشعر الإبداعي، أو قل الكتابة الإبداعية بشكل عام؛ هي مظهر جوهري أبدي متصل بعمق الحياة الحضارية عن الأمم والشعوب كافة؛ بينما يقيم نظام الكتابة التقليدية أو الشعر التقليدي بخاصة؛ في الزمن المتقطع والعابر والمؤقت؛ فالتضاد بين الزمن السائل/ المستمر من جهة؛والزمن المتقطع من جهة أخرى؛ هو المعادل الحقيقي للمعادل الفني الذي يتمثل في عملية التضاد بين الشعر الإبداعي الدائم السيولة في النفس الإنسانية،والشعر التقليدي الوقتي الذي يعيش على ضفاف الآن”(39).
وبهذا المقترب الرؤيوي نقول:
إن الرؤيا هي الممارسة التفاعلية الإبداعية في الخلق والتوهج الإبداعي؛ بوصفها محور ثقل الإبداع ؛ومكمن الألق الفني؛وأبرز مرتكزات القصائد الرؤيوية: تبئر الرؤيا، وفق منظورات تفاعلية نعيها أثناء ممارستنا التأويلية؛والدليل على ذلك إدراكنا للأفق الإبداعي والرؤيوي الذي شكل من خلاله الشاعر شوقي بزيع مفاصل قصيدته، حيث جاء العنوان الموسوم ب( قميص الرؤيا)؛ ليشكل محور ثقل القصيدة؛ هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى كاشفاً عن منازع رؤيوية عديدة تشكل محور هذا المفصل، ومكمن ثقله؛ إذ تتراوح هذه المنازع بين المنزع الرؤيوي الوصفي،والمنزع المونولوجي الداخلي،والمنزع المونتاجي،والمنزع العقلاني الكشفي،والمنزع الاستحضاري الإشاري، والمنزع الأسطوري، أو الأسطوريم؛ونظراً لأهمية كل منزع من هذه المنازع في تشكيل جوهر الرؤيا النصية لهذا المفصل،فقد آثرنا دراستها كلاً على حدة؛للوقوف على سيرورة القصيدة،ومساراتها الرؤيوية المتعددة التي تتجذر عليها،وهي:
1-المنزع الرؤيوي الوصفي:
يعد المنزع الرؤيوي الوصفي نمطاً أسلوبياً من أنماط شعرية الرؤيا الوصفية؛وفيها يلتقط الشاعر الصور الوصفية التي تملك تفاعلها الحي، ومنظورها المغاير؛ فهي استقطاب، وتفتح، وتمثل إبداعي خلاق؛واستشراف للعالم الآخر؛ بمنظار يفيض تحققاً، وإبداعاً فنياً ؛خصوصاً أن تجسيد الرؤيا-الوصفية يتطلب وعياً، وتفتحاً إبداعياً، وإحساساً دافقاً بالتعبير الفني الذي يملك مجاذبته الدافقة، وفيضه الحساس؛لتحقيق فن الرؤيا؛ بوصفها جوهراً لا إطاراً وصفياً جامداً؛ أو منظوراً مقنناً لا يملك دينامية المعنى،وفن التعبير؛فالرؤيا ليست شكلاً براقاً؛ونمطاً أسلوبياً خاصاً في تمثيل خطاطة التعبير؛وإنما هي انفتاح دائم،وحراك إيحائي مستمر؛وهوية رؤيوية تجعلنا نتوق دوماً لكل ما هو جديد؛ أو كل ما هو متجدد؛ يؤذن بهوية إبداعية جديدة؛ تملك تجذرها الفني؛وإشعاعها الوجودي الإبداعي الأصيل؛ولاغرو إزاء هذا القول أن نعي أن “الهوية ليست شيئاً نبحث عنه بقدر ما هي رؤية تدفعنا إلى العمل”(40).
وتقدم لنا منتوجها الإبداعي الثر؛ولذا؛ فإن الشاعر المبدع حقيقة يمتلك بصمته الحقيقية المميزة، وهويته الإبداعية الخاصة التي تجعله يتفاعل مع الوجود برؤية شاملة؛ومنظور متجدد دون أن تطمس هذه التفاعلات ملامح رؤيته الأصيلة، وبريقها المميز؛بل تثريها، وتمدها بنسغ إيحائي خصب لا يضمحل، ومعين رؤيوي متجدد، خاصة عندما يتفاعل مع التراث، محركاً الشخصيات التاريخية، بمنظار مغاير لما هو معتاد؛ومن هذا المنطلق يمكن القول:إن الشاعر المبدع الحساس لا يتفاعل مع الشخصية التاريخية؛ بوصفها تفتحاً رؤيوياً في منح الشعر شرنقة الحياة؛والتفاعل مع جزئيات الوجود تفاعلاً حياً خصباً؛وبهذا المنزع الرؤيوي المحايث لمنظورنا ومستوى إدراكنا يقول شوقي بزيع:” الشاعر الذي لا يملك رؤيا إشراقية تواكب الحدث،وترتقي به إلى حيز التفاعل، والتواصل الإبداعي الخلاق مع الآخر بروح الحداثة ووعيها لا يملك روح الفن، وجوهر الإبداع؛وأي إبداع فني مثير لابد أن يرتكز على خصوبة رؤيوية وانفتاح نصي في المنظورواللغة والحساسية الجمالية “(41).
وبهذا المقترب ندخل المفصل الثالث في قصيدة(قمصان يوسف) الموسوم ب( قميص الرؤيا) الذي بدأه ب( المنزع الرؤيوي الوصفي) عبر توصيف الحدث،والدخول معمعة المشهد الوصفي السردي،والكشف الاستدلالي الرؤيوي المفتوح على شاكلة قوله:
“تدورُ الكواكبُ من دونَ يوسفَ
من دونهِ يراكضُ آذارُ
بينَ الشهور
ليجبي شقائقهُ من دمٍ الوردِ
من دونهِ
يلطمُ الموجُ صومعةَ الانتظار
المضاءة في قلبِ يعقوبَ
والشمسُ تذبلُ فوقَ الشجرْ
كان يوسفُ ؟أعذبَ من نجمةٍ
تتزينُ للموتِ
أطول من سروةٍ
بين نهرينِ”(42).
إن المتأمل- في هذه الأسطر- يدرك أن شهوة الكتابة الروائية حاضرة- بقوة- في هذه التوصيفات السردية؛والصور الممطوطة التي تحاول أن ترصد المشهد؛وتُمَهِّد للحدث؛ولعل أبرز ما يؤكد هذا المنزع- لديه- هاجس داخلي يلازمه لكتابة هذا الجنس؛قائلاً:” إن عندي هاجس مقيم في داخلي؛ وهو أن أكتب الرواية؛لأني شديد الافتنان بهذا الجنس الأدبي”(43).
وهذا ما تشير إليه جمل المقطع الشعري بأكملها؛ بيد أن ما يضعف هذه الغريزة طغيان أسلوب السرد القصصي؛والبداهة السردية في التوصيف؛وهذا ما يناسب الرواية والقصة، أكثر من مناسبتها للجو الشعري، أو المناخ الشعري؛ إذ إن الصور لا تصلح شعرياً؛ وإنما تصلح لسرد قصة،والتمهيد لها؛وللتدليل على ذلك نأخذ الصورة السردية التالية:[ كان يوسفُ أعذبُ من نجمةٍ تتزين للموتِ؛ أطول من سروةٍ بينَ نهرين]؛إن اعتماد الشاعر أسلوب الخطاب الغيبي؛بإبراز الضمير(هو)، لدليل على نزوعه للتأقلم مع الجو القصصي السردي بأوصاف معتادة لا تخرج نطاق البداهة السردية في قصة من القصص؛ أو رواية من الروايات التي تمهد للدخول في أتون الحدث،وإقحام الشخصية؛ لتمارس دورها الفني.
وبمنظورنا: إن الشاعر كان بعيداً كل البعد عما قصدناه ب(المنزع الرؤيوي الوصفي)؛لنؤكد أن هذا المنزع يتطلب زخماً رؤيوياً،وإحساساً فلسفياً عميقاً في رسم ملامح الشخصية؛ولعل الإرهاق والإرهاص الذي لازمه في أغلب تمهيداته السردية أفقد هذا المنزع مصدر غناه، وباعد بين فنيته، ومستوى رؤيته،ووفق هذا التصور،نؤكد أن هذا الجانب المهم والبارز ألا وهو الملمح الرؤيوي الوصفي في رسم الشخصية لضرورة ملحة في مثل هذه القصائد التي تقوم في إحدى تقنياتها على استحضار الشخصية التاريخية، وتحميلها معانٍ رؤيوية؛وهذا ما لم تستطع هذه القصيدة الاضطلاع به إطلاقاً؛ولا نبالغ إذا قلنا: إنها أضعفت المسار الفني للقصيدة؛وللدورالرؤيوي الذي اتخذته الشخصية كذلك في الاضطلاع برؤى مهمة تقف على جوانب بارزة من مسارها الرؤيوي وحراكها الفني.
ولو تابعنا سيرورة القصيدة،وفق هذا المنظور، لتبدى لنا أنها لا تحيد عما قلنا؛انظر إلى قوله:
” والقمحُ كانَ يدلُّ على شعرِهِ
كلما هبت الريحُ،
والحزنُ كانَ يسابقُ عينيهِ
نحو دموعِ السفرجلِ
أجملُ إخوته كانَ
أشبههم خلقةً بنحيبِ الثلوجِ
على قمرٍ في الحداد
لذلكَ خبَّأتهُ في حناياي
دثرتهُ بقميصِ الوفاءِ الملوَّن
من دونهم
كي يضلل هذا الهياج السماويَّ
عن فتنة الخلق”(44).
إن المتمعن –في هذه الصور السردية الوصفية- رغم إقحامها للجانب الشاعري في بعض الأوصاف؛ فإنها تظل تئن تحت وطأة العجز؛ والإرهاق الشعوري؛ أو لنقل تحت وطأة التصوير الروتيني المعتاد الذي يكاد يخلو من ومض الإشعاع الفني؛ وهنا؛سيلحظ القارئ أن ثمة فرقاً حاداً بين ما انتهى إليه الشاعر عند لفظة(الخلق)؛وما ستتفتق عنه من رؤى إبداعية وهاجة تنسي القارئ هذا الاضمحلال الذي ران على القصيدة؛ بافتتاحها السردي اللاشعري؛لتنقله نقلة نوعية رؤيوية وشعورية عميقة؛ تؤكد أن كاتبها شاعر رؤيوي- بحق- يملك الحذاقة الشعرية؛ وإن خفتت هذه الشعرية- وغابت في بعض الأحيان؛ لكن نضج التجربة وعمق مخزونها الإبداعي قد أنقذها مرات متكررة.
2-المنزع الرؤيوي العقلاني أو الكشفي:
ما من شك في أن لكل قصيدة رؤيوية شاعرية بامتياز ألقها الجمالي،ومحفزها الرؤيوي الشاعري المثير؛ فالقصيدة – إن لم تتضمن فن العمق والإيحاء والاستدلال-فإنها لا تؤكد حضورها كنص إبداعي خلاق؛مفتوح على كامل الاحتمالات،والاستجابات،والرؤى المواربة ؛وقد عبر عن هذه الرؤية شوقي بزيع بصورة شديدة الألق ،والإيحاء،والعمق،والشاعرية؛ إذ يقول:”إنني أتنفس صفاء العالم؛وأستشف الكون بروح تستضيء بظلها،وتتمرأى على أفنان عبيرها لتجوب بشذى بخورها عطر الكون وأنسام الوجود؛ فأحن في قصائدي إلى بكارة الأشياء؛ فأراها كل يوم ببريق جديد وأمل جديد؛ أحس العالم يغرد من حولي؛ وأجراس الكنائس تقرع مؤذنة بفجر جديد؛ وعبق جديد أصبح أنا والعالم بقعة ضوء لا تتجزأ في فضاء من الصفاء الكوني المطلق الذي ينقذني من دنس الموجودات،وروتين الحياة”(45).
وبتقديرنا: إن المتنفس الإبداعي لهذه القصيدة يكمن في منزعها العقلاني الفلسفي،ومجاوزتها الذهنية التقليدية في المنظور؛لدرجة ترقى حيزاً مهماً من الاستدلال والكشف،والعمق،والإيحاء؛كما في قوله:
“قلتُ له: يا بنيَّ
ستبصرُ أشياءَ لم ترها العينُ،
سوفَ تشفُّ لكَ الأرضُ أحشاءها
كي ترى سوأةَ الطين،
والزرعُ يركضُ أعمى
أمام جرادِ النهاياتِ
والماءُ يصعدُ نحو جرادِ النهاياتِ
والماءُ يصعدُ نحو الينابيعِ مرَّ المذاقِ؛
ولن يرثَ العشبَ عشبٌ سواه”(46).
بادئ ذي بدء، نقول: إن المنزع الرؤيوي العقلاني أو الكشفي- في قصائد شوقي بزيع عامة؛ وهذه القصيدة خاصة يعتمد اللعب بأدوار الشخصيات التاريخية،واستشفاف أبعاد رؤيوية تناط بها؛ لخلق تواصلها الرؤيوي المتفاعل مع القارئ؛ خاصة عندما يوفق الشاعر في اختيار الشخصية الفاعلة التي تملك زخمها الرؤيوي في الذاكرة الجمعية؛ كقصة النبي يوسف عليه السلام؛ وبالنظر- في المقطع الشعري- نلحظ أن ثمة ارتفاعاً فنياً ملحوظاً في البعد الرؤيوي للقصيدة ؛وهذه البؤر الفلسفية العميقة:[كي ترى سوأةَ الطين- يركضُ أعمى أمام جراد النهايات]؛ وبالتأمل في المسار الرؤيوي لهذه الأنساق نلحظ أن الشاعر يطرح بعداً فلسفياً مرده فاعلية الرؤية، وعمق التأمل في طبيعة الخلق والوجود؛ فكما أن الإنسان يخلق من طين فإن معاده ومرجعه إلى هذا الطين،وسوأة الخلق تكمن في النهايات الحتمية للوجود؛ وهي الغناء؛وطالما أن الإنسان يعي نهايته فإن يوسف في بحثه ومغامرته الوجودية يشق طريق نهايته التي تقود إلى تيه الكشف عن الجمال؛وما جمال يوسف إلا مكابدة في عمق الصراع، والبحث،والتأمل؛ ولهذا؛ جاء التحول والالتفات في حركة الضمائر من الخطاب إلى الغيبية؛ومن الغيبية إلى الخطاب؛راصداً هذا التحول الرؤيوي بحساسية جمالية؛ وبعد تأملي فلسفي رؤيوي عميق؛وتأسيساً على هذا، يمكن القول: إن المنزع الرؤيوي العقلاني أو الكشفي يدلل على عمق الرؤيا في ربط الرؤية بالفلسفة،والصورة بالمحاججة العقلية؛ للكشف عن جوهر الرؤية ومغزاها الفني؛ وهذا دليل:
” أن الرؤيا تتيح للشاعر الكشف عن الغيب،والنفاذ إلى حقائق الأشياء،والقدرة على الإبداع والتغيير الدائم.. ولا نبالغ إذا قلنا: إن القصيدة الرؤيا تفسح المجال للمتلقي في المشاركة الإبداعية عبر قراءة تأويلية جمالية تتيح له تكوين الرؤيا التي يعايشها من خلال القراءة والاستماع”(47).
وبهذا المنظور، يخطو بنا الشاعر شوقي بزيع في قصيدته (قمصان يوسف) خطوات رؤيوية جريئة تحرك ما ران في استهلالاتها المتواضعة من سرد نمطي تقليدي؛ليدخل عمق التكثيف،والبؤر الفنية الكاشفة بالإيحاءات؛ والشذرات العميقة؛رافعاً مرتبة شعريتها،وحركية القصيدة لتخلق ثنائيتها الجدلية التي تتراوح بين(المد/والجزر)و(الوجود/والعدم)و(البداية/النهاية)و(التصادم/التوافق)؛ وهذا ما أضفى على القصيدة دماء جديدة تزيدها عمقاً وكشفاً عن رموز الصراع الإنساني بين معاناة الوجود/ وتغييب الوجود بكهف العدم؛ وما تفرزه القصيدة من جدليات وثنائيات واصطراعات؛ لدليل على مخيلتها الفذة ومحاورتها الفنية الكاشفة.
3-المنزع الرؤيوي الإشاري التناصي:
ما من شك في أن المنزع الرؤيوي التناصي منزع رؤيوي عام يكاد يكون ملازماً للنصوص الأدبية على اختلافها؛ وتنوع مرجعياتها؛ لدرجة أنه لا يكاد يخلو نص من النصوص الأدبية من مرجعية نصية؛ يرتكز عليها في تعضيد رؤيته؛ وتفعيلها في مسارها النصي؛وهذا الأمر على حد تعبير آصف دريباتي” طبيعي في كل نتاج أدبي في أي عصر من العصور؛ فهو لا يقف على عصر معين؛ أو شاعر معين؛ لأن أي نص من النصوص هو – في حقيقته- شبكة من العلاقات الدلالية، والرمزية، والجمالية التي تتضافر فيما بينها،لتشكل حقيقة النص وجوهره؛ فالنص –وفق ما تقدم- هو مفتوح على جهات متقابلة؛ متعاكسة،وهو –في أساسه- مبني على نصوص سابقة له”(48).
وبمنظورنا: إن المنزع الرؤيوي الإشاري؛ أو التناصي منزع عميق في تمثيل المتناصات؛ لدرجة تبدو أكثر شعرية، وقدرة على التحريض النصي في سياقها الأصلي؛هذا فيما يخص الشعر الرؤيوي الذي يبئِّر المشهد؛ أو الحدث التاريخي المحيط بالشخصية التاريخية؛ أو الحدث الذي تثيره الشخصية المستدعاة من عمق،وتأمل،وانفتاح؛ خاصة عندما يوظفها في سياق فلسفي ديالكتيكي وجودي جدلي؛ وهذا ما ينطبق على المسار النصي الذي تتخذه القصيدة في قوله:”
سترى الشمس خاشعةً
والكواكبَ ساجدةً تحت رجليكَ
فاكتم على الناس رؤياكَ
كي لا تشم الذئاب التي
تتقمصُ أرواحهم
ما تراه”(49).
إن قارئ هذه الأسطر يدرك المحاورة التناصية الكاشفة التي تعمق المدلول النصي؛وترفع درجة مغنطة الرؤية النصية؛وأول مظاهر التناص مع الأيات القرآنية ،التناص مع آيات الذكر الحكيم من سورة (يوسف) الصديق عليه السلام( إذ قال يوسف لأبيه يا أبتِ إني رأيتُ أحد عشرَ كوكباً والشمس والقمر رأَيتهم لي ساجدين* قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدو لك كيداً إن الشيطان للإنسان عدو مبين”(50). إن استشفاف الشاعر للسور القرآنية بتحوير تناصي يعمق الرؤيا، ويكشف عن وتيرة التحول النصي في القصيدة. وبما أن المنزع الرؤيوي منزع فني مبئر للحدث؛فقد استطاع الشاعر أن ينقل المشهد من الصورة القرآنية المتعالقة في الذكر الحكيم ؛ ويوظفها في سياق إيحائي يمغنط رؤيته،ويعمق فاعلية الدور اللغوي؛ المنوط بالشخصية التاريخية(شخصية يوسف النبي)؛وهنا؛ باشر الشاعر شوقي بزيع لعبته الشعرية ؛محولاً النسق من الخطاب إلى الغيبية؛وفي هذا التحول تزداد الإشارة التناصية تغلغلاً في المنتجة النصية؛ لتحقق مضاعفتها الإيحائية على شاكلة قوله:
“لماذا، إذن، لم يُصخِ
لصراخ المرايا التي انشقَ عنها
توردُ خديهِ؛
وانحاز للذئبِ
ضدَّ وصايا الإله
تدورُ الكواكبُ من دونِ يوسفَ
لا البئرُ عادتْ بهِ
مع خيولِ الشتاءِ
ولا الريحُ تحملُ
نحو أبيه الذي شاخَ
وقعُ خطاهُ..
ولكنَّ باقة عطرِ
تهبُ على بيتِ يعقوبَ
حاملةً مع قميص ابنهِ نجمتينِ اثنتين
تصبان في بئر عينيهِ ضوءهما المشتهى
وتعيدانه من عماه”(51).
إن قارئ هذه الأسطر يلحظ سلسلة الإشارات، والتناصات،والرؤى المتداخلة التي تجذر مدلولها على ما أسميناه ب( المنزع الرؤيوي الإشاري)؛ لتتغلل كل إشارة نصية في مساق جديد،ويولد دلالة مباعتة، تحقق الصدمة؛ والإثارة النصية؛ وكأن الشاعر يعيد شخصية يوسف بمنظار فلسفي تأملي مفتوح؛محوراً في مسارات الأحداث،وملتقطاتها بما يلاءم أحداث القصة في واقعها الحقيقي؛مضفياً عليها من لمساته ما يؤكد وعيه وإحساسه الشعوري العميق؛وهذا ما تبدى في الشذرة التناصية مع القرآن الكريم( اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأتِ بصيراً وأتوني بأهلكم أجمعين)(52).وهذا دليل أن البنية التناصية تخلق متعتها من تغلغلها في السياق النصي،وامتصاصها الإيحائي الذي يستثير الدلالات،ويضاعف من مردودها الإيحائي؛ يقول شوقي بزيع:” إن التناص- في شعري- جدلي مراوغ يملك أرضيته المعارضة ؛ التي تعضد السياقين معاً؛ وأغلب شذراتي التناصية تحاورية تهدف إلى استحضار النص الغائب؛ ولو بإشارة، أو لمحة، أو ومضة، أو جملة، أو صورة”(53).
وبهذا المقترب نصل إلى صفوة ما نرمي إليه بعد هذا التقصي البنيوي البؤري للتعالقات النصية المحرضة لشعرية القصيدة؛وهي:
إن قصيدة(قمصان يوسف) تشكل نافذة رؤيوية ثاقبة في التحوير النصي،والخروج برؤيا عميقة متجددة لهذه القصة؛ عبر ما يريد طرحه من جدليات بتأمل عميق،وخصوصية إبداعية محلقة في عباب الإحساس،والتأمل، والخصوصية، والعمق الرؤيوي هذا إذا ما تجاوزنا الاستهلالات السردية الوصفية الجافة؛ أو الباهتة التي تخرج من الإطار الشعري؛ إلى الإطار الوصفي السائد في التشكيل القصصي؛وما عدا ذلك فقد شكلت انفتاحاً رؤيوياً في المخيال الشعري؛والنضج الإبداعي،والوعي الفني في استنطاق الشخصية؛ ومحاورتها بأسلوب تقني فني معاصر.
ثالثاً- نظرة عامة فاحصة للقصيدة:
ترتكز قصيدة (قمصان يوسف) على ثلاثة مرتكزات- حسب ما أسماها الشاعر في مفاصله الثلاثة لقصيدته؛وكل مرتكز يشكل مفصلاً رؤيوياً؛ مفلسفاً لهذه الشخصية؛ وباعثاً لحراكها بمستويين متداخلين، أو لنقل متضافرين: واقعي داخلي؛ يحايث هذه الشخصية من الداخل؛ويرصد مصطراعاتها؛ وقلقها الوجودي، وتخييلي خارجي يُحّمِّل الشخصية دلالات إضافية؛ويشكلها وفق منظوراته الجدلية،وإحساساته الداخلية؛لا بتعاث نظرته الجدلية من جهة؛ وليبث من خلالها صدى إحساساته واصطراعاته النفسية المحتدمة من جهة ثانية؛ من خلال فهم الأشياء،وتأويلها بمنظاره التأملي،وكشفه الديالكتيكي عن حراك الأشياء؛ وصخبها الوجودي؛ولإبراز طاقته الرؤيوية الفلسفية التي جاءت ممازجة لهذه الشخصية، ومتفاعلة معها، إن اختلافاً؛ وإن ائتلافاً؛ولعل أبرز ما يدلل على ذلك أن الشاعر مازج بين رؤيته ومنظوراته لهذه الشخصية فيما يخص موضوعة الجمال؛وعكس هذه الرؤية ليحملها لشخصيته المستدعاة برؤية فلسفية مفادها: أن الجمال ليس حالة سكونية، أو أعطية مجانية راكدة؛وإنما هو طاقة دينامية تحمل معها قوة المكابدة،للوصول إلى متنفسها الوجودي؛ وهو دافع الحياة؛والبحث عن جوهرها الساكن فينا؛ وتحريك الجمال السكوني الراكد في مظهرنا؛وهذا ما عبر عنه بقوله:( لا تصدق جمالك) بمعنى: لا تصدق جمالك الساكن فيك أو أعطية مجانية؛وإنما ابحث عن جمالك المتحرك في ذاتك في طاقتك الوجودية واصطراعاتك مع الكون،لتحصيله بقوة الفعل، وطاقة الحياة؛كما أشرنا؛وهذا ما عبر عنه في نهاية المفصل الأول(واهبط إلى آخر البئر؛ كي تستحقَ جمالك)؛ و هذا ما قصده بالبئر، أي أن يعاني المرء في البحث عن جماله الخفي حتى يستحق الخاصية الجمالية.
أما المفصل الثاني فهو المفصل الوحيد في القصيدة الذي جاء ملتهباً رؤيوياً؛ ونبضاً جمالياً بوصفه المفصل المتألق الذي جاء باعثاً؛ لدفق الإحساس،وحيوية الإيحاء؛ولا نبالغ إذا قلنا: إنه طاقة إبداعية خلاقة في ذاتها على النقيض من المفصلين الأول والثالث اللذين تخلفا عن ركبه في المستوى الفني والرؤيوي في آن معاً؛ ويمكن لمن له أدنى معرفة بالشعرية ومفاصلها الحداثوية وروزها الجمالي المحكم أن يدرك حجم الجمود الذي لازم المفصلين في فاتحتهما الاستهلالية التي غلَّبت الجانب الوصفي السردي الضحل على الجانب الرؤيوي الاستعاري الوهاج؛ مما أضعف المفصلين معاً ؛وقلل من ملامح توهج هذه القصيدة فنياً في بعض مساقاتها؛ لكنها متوهجة على المستوى الرؤيوي، والفلسفي، والبعد التأملي، والقدرة على تحوير الرؤية؛وربما لو حذفنا هذا المفصل من لبنة القصيدة لما نالت هذه الشهرة،وما حظيت بهذا القبول والشهرة والتداول النقدي الحسن؛ وبمنظورنا: إن ملامح ارتقاء هذا المفصل ظهرت منذ بارقته اللفظية الأولى،وصولاً إلى استعارته الموحية؛ بموصوفاتها الرؤيوية التأملية الخلاقة:( تسبحُ صحراءٌ من خجلٍ في عروقي]و[ كمن مسه من نسيم الألوهةِ برقٌ خفيف]،و[ قد راح يركضُ في حرز الظهرِ ماءٌ كفيف]؛ وأبرز ما أعطى- هذا المقطع- طابعه الرؤيوي الخلاق اتخاذ الشاعر شخصية يوسف بوصفها قناعاً،فاتحدت رؤى الشاعر برؤى الشخصية؛ولعل سر تـألقه وتوهجه إبداعياً يعود كذلك إلى تمثل هذا القناع الذي منح الشخصية طاقة رؤيوية حيوية خلاقة؛ وبعداً رؤيوياً جدلياً يرصد جو الصراع، الذي لازم شخصية يوسف من أحداث،ومشاهد- بطابع مشهدي بانورامي، وملحمي مكثف؛ مما أعطى للصور الشعرية مخزونها الرؤيوي؛ ومنتوجها البصري المشهدي الإيحائي المؤثر؛ الذي انعكس على سيرورة الدلالات والصور؛ليطرح فلسفته الجدلية بين [ الرغبة/والإحجام]،و[ التقوقع/ والإقدام]،و[ الشر/و الخير]و[ الجمال/ والقبح]؛ ليدلل على أن الوجود كله ساحة اصطراعات خصبة،محتدمة بين ضدين؛ أو طرفي نقيض؛الحياة مقابل الموت،والعفة مقابل الشهوة،والرغبة مقابل الكبت والإحجام؛والنور مقابل الظلمة؛والجمال مقابل القبح؛وهكذا؛ جاء هذا المفصل حافلاً بالثنائيات، والرؤى المحتدمة؛ ليثبت الشاعر منظوراته الجدلية في فاصلته الأخيرة؛مؤكداً أن الجمال طاقة حيوية خصبة تتوالد في ذواتنا؛ بدافع نشوة الحياة،وقوة الفعل المحرضة لمكنوناتنا؛ لنعي ذواتنا؛ونتحثث الحياة بنبض الحياة ذاته؛والجمال المتحرك الذي نعدو خلفه،وتعدو رغباتنا المتسارعة في اللحاق به بغية تحصيله والتقاطه:[ أعدو وراء جمالي،ويعدو ورائي نباحُ الدماء المخيف]؛ في حين جاء المفصل الثالث المحرقي للقصيدة الموسوم ب(قميص الرؤية)؛ ليكشف عن تفاعل هذه الشخصية مع الشذرات التناصية الحوارية المقتنصة من آيات الذكر الحكيم،بتلوين نسقي يضيء الكثير من منعرجات هذه الشخصية وجوانبها المشرقة،بواقعها السردي الوصفي الحقيقي من جهة؛ وتجريدها من أدوارها وإكسابها أدواراً إضافية تحاكي مداخل هذه الشخصية ببعدها الرؤيوي والرمزي في آن من جهة ثانية؛ بحيث أصبحت هذه الشخصية معادلاً موضوعياً تعبر عن الكثير من رؤى الشاعر الوجودية؛ ومنظوراته المصطرعة؛ والمحتدمة إزاء القضايا الوجودية الكبرى؛ وجوهر الحياة والكون؛وهذا ما جعله يركز عين الرؤيا في الفاصلة النصية الختامية على الواقع الرؤيوي الدقيق لهذه الشخصية؛ بواقعها وأحداثها الحقيقية التي تنطوي عليها؛ بهدف وضع القارئ في صلب المحاورة؛ والمقارنة بين واقع هذه الشخصية؛ ببعدها الحقيقي؛ والتعالقات الإضافية والرؤيوية المسقطة عليها؛ للخروج بمنظور جديد؛ ورؤية إيحائية جديدة،تؤكد حذاقة الرؤية وشعريتها لديه، بكل الطاقات، والبنى، والمرجعيات الدينية، والمعرفية، والبيئية، والنفسية، لتفجر دلالاتها الجمالية اللامتناهية عبر عملية التلقي الفعال؛ والرؤية الثاقبة؛وهذا دليل أن الشاعر الحاذق- من الممكن-” أن يفيد من توظيف الشخصية التراثية بوصفها عنصراً عابراً في صورة جزئية أكثر مما يفيد سواه من توظيفها إطاراً لتجربة شعرية شاملة؛والعبرة في النهاية بمدى ما تؤديه الشخصية التراثية في الصورة الجزئية؛ثم بمدى ما تؤديه الصورة الجزئية في القصيدة من وظيفة تعبيرية،ومن تآذر والتحام مع بقية الأدوات الشعرية الأخرى التي يستخدمها الشاعر في القصيدة”(54).
وهذا القول جد دقيق ومصيب في إصابته مكمن الحقيقة،وجادة الصواب؛ فالمهارة الفنية في توظيف الشخصية التاريخية في إطارها الفني الجذاب هو المحك في الحكم على براعة الاستحضار؛وعمق الإثارة في توظيف هذه التقنية؛ بما يخدم التجربة الشعرية،ويزيد من غناها ومصدرها الجمالي.
وصفوة القول:
إن شعرية المحفزات النصية في هذه القصيدة تكمن في مثيرها الرؤيوي،ومضمونها الدلالي،وخصوبتها بالمتغيرات الأسلوبية،والتلاعب بالضمائر،والحديث إلى الشخصية المستحضرة بالالتفات بالضمائر من ضمير إلى آخر؛ من الخطاب إلى الغيبية،ومن الغيبية إلى المتكلم ،ومن المخاطب إلى الغيبية،متحدثاً تارة إلى الشخصية المستحضرة؛ وتارة عنها،وتارة بلسانها،وتارة بلسان غيرها؛ وهذا ما يكسبها مضاعفة في الدور الفني،ومضاعفة في تنويع الحدث ومتعلقاته النفسية والشعورية؛ ولذلك،تتنوع الأحداث، والرؤى، بتنوع الضمائر وحراكها على مستوى الرؤية، وسيرورة الدلالات ،ومحركاتها ضمن النسق الشعري الكلي الذي تنبني عليه؛ووفق هذا المنظور نصل إلى النتيجة النصية التالية:
1- إن جوهر الرؤية النصية تكمن في تحفيزها النصي وفق متغيرات الرؤية؛ واللعب بالحدث الشعري؛ ولهذا يمكن القول تنطوي هذه القصيدة ضمن منطق شعرية الرؤية؛ أو شعرية الحدث؛وكل ما خلصنا إليه من نتائج لا يتعدى هذه المؤولة النصية في تحفيز القصيدة وتحريك أنساقها.ومن هنا،نؤكد أن هذه القصيدة تعد من مستدرجات الشعرية الدلالية ،ومغريات الحدث؛ وألق الرؤية،ومثيرات المشهد الديالكتيكي البانورامي المكثف؛ومن أجل ذلك حققت القصيدة حضورها المميز؛ وألقها المستمر؛وهذا ما يكسب القصيدة شرعيتها الإثارية ومنطقها الفني الجذاب.
الحواشي:
(1)زايد،علي عشري،1997- استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر،دار الفكر العربي، القاهرة، مصر،ط1، ص 120.
(2)جبور،زهيدة درويش،2005-شاعرية المفارقات والمصائر المتحولة وجغرافيا الداخل، مقدمة ديوان شوقي بزيع،ج2/ ص9.
(3) المرجع نفسه،ص9-10.
(4)شرتح،عصام،2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية،ص428.
(5)جبور، زهيدة درويش،2005-شاعرية المفارقات والمصائر المتحولةوجغرافيا الداخل،ج1/ص26.
(6) جاسم محمد،باقر؛2009- نقد النقد أم الميتانقد،(محاولة في تأصيل المفهوم)،مج عالم الفكر،ع3، مج37، ص125.
(7)شرتح،عصام،2012- حوار مع شوقي بزيع،مخطوط، ص11.
(8)عدمان،عزيز محمد،2009-حدود الانفتاح الدلالي في قراءة النص الأدبي، ص86.
(9)ترمانيني،خلود،2004- الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث،رسالة دكتوراة، جامعة حلب، ص376-377.
(10) المرجع نفسه،ص373.
(11) مبارك،زكي،1999- رسالة الأديب،تقديم كريمة زكي مبارك،وزارة الثقافة،دمشق،ص265.
(12)بزيع ،شوقي،2005-الأعمال الشعرية ج2/ ص499.
(13)ترمانيني، خلود،2004- الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث، ص383.
(14) العيد،زكوان،2007- مفهوم الرؤيا في النقد العربي المعاصر،مجلة بحوث في جامعة تشرين،مج29،ع2، ص41.
(15)ترمانيني،خلود،2004- الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث،ص383-384.
(16)بزيع،شوقي،2005- الأعمال الشعرية،ج2/ ص449-500.
(17)شرتح،عصام،2012-حوار مع شوقي بزيع، ص23.
(18) بزيع،شوقي،2005- الأعمال الشعريةج2/ص500.
(19)زايد،علي عشري،1997-استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر،ص382.
(20)ترمانيني،خلود،2004- الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث،ص382.
(21)بزيع،شوقي،2005- الأعمال الشعرية،ج2/ص501.
(22)المصدر نفسه،ج2/ص501-50
(23)زايد،علي عشري،1997- استدعاء الشخصيات التراثية،ص174.
(24)شرتح،عصام،2012- حوار مع شوقي بزيع، ص27.
(25) بزيع،شوقي،2005- الأعمال الشعرية،ج2/ ص502.
(26) المصدر نفسه،ج2/ ص502-503.
(27) اليوسفي، محمد لطفي،1992- كتابات المتاهات والتلاشي في النقد والشعر،دار سراس تونس،ص179.نقلاً من المناصرة؛ حسين،2004- الحجر بين الترميز والأسطرة، ص105.
(28)شرتح،عصام،2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية،ص448.
(29)إسماعيل،عز الدين،1988- الشعر العربي المعاصر،قضاياه، وظواهره الفنية والمعنوية،ط5، دار العودة ،بيروت، ص217. نقلاً من مقال: الحجر بين الترميز،والأسطرة،ص506.
(30)داود، أنس،1975- الأسطورة في الشعر العربي الحديث؛مكتبة عين شمس، القاهرةط1،ص215. نقلاً من مقال الحجر بين الترميز والأسطرة،ص506.
(31) زايد،علي عشري،1997- استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي الحديث، ص 176-177.
(32)شرتح، عصام،2012- حوار مع شوقي بزيع،مخطوط،ص10.
(33)سويف،مصطفى، الأسس النفسية للإبداع الفني في الشعر بخاصة،دار المعارف، القاهرة،ط3،نقلاً من مقال وعي الشعر،ص95.
(34)شرتح،عصام،2012- حوار مع شوقي بزيع، ص23.
(35)بزيع،شوقي،2005- الأعمال الشعرية،ج2/ص503-504.
(36)المصدر نفسه،ج2/ص504-506.
(37)شرتح،عصام،2012- حوار مع شوقي بزيع،ص14.
(38)العبدو،زكوان،2007-مفهوم الرؤيا في النقد العربي المعاصر، ص37.
(39) الحسين،قصي،1998- تشظي السكون في العمل الفني،(الزمن،الشعر، الصورة)،مجلة الفكر العربي،ع92،ربيع، بيروت، لبنان، ص198.
(40) النعيم، مشاري بن عبد الله،2009- الهوية والشكل المعماري: الثابت والمتحول في العمارة العربية،مجلة عالم الفكر، ع3،مج37،يناير- مارس،ص245.
(41) شرتح،عصام،2012- حوار مع شوقي بزيع،ص23.
(42)بزيع،شوقي،2005-الأعمال الشعرية،ج2/ص505.
(43)شرتح،عصام،2012-ملفات حوارية في الحداثة الشعرية ،ص449,
(44)بزيع،شوقي،2005- الأعمال الشعريةج2/ص505-506.
(45)شرتح،عصام،2012- حوار مع شوقي بزيع، ص43.
(46)بزيع،شوقي،2005- الأعمال الشعرية،ج2/ص506-507.
(47)العبدو،زكوان،2007- مفهوم الرؤيا في النقد العربي المعاصر،ص42.
(48)دريباتي،آصف،2007- التناص في شعر نديم محمد،دراسة الصورة الساخرة،مجلة جامعة تشرين،مج29،ع2، ص11-12.
(49)بزيع،شوقي،2005- الأعمال الشعرية ج2/ص507.
(50)سورة يوسف، الآية(4و5).
(51)بزيع،شوقي،2005- الأعمال الشعرية،ج2/ص507-508.
(52)سورة يوسف، الأية(93).
(53)بزيع،شوقي،2012- حوار مع شوقي بزيع،ص15.
(54)زايد،علي عشري،1997- استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر، ص225.
—