رحلت بهدوء ايها الودود حتى أطبق الصمت على شفتيك خلاصا ، وعلى شفتينا اندهاشا وتأسياً .. فما لهذا الموت الشقي الذي لا يدع صغيرا ولا كبيرا حتى ياخذه اليه ويغيبه بين طيات الالم والحسرات .. كيف تغادر ايها الكريم في اخلاقك ، ونبلك ما زال يملأ مساحة لقاءاتك وكلماتك الهادئات الثكلى كيف نُعزيهن..؟ او تعزينا ؟.. كيف نفارق وجهك واطلالتك وحنانك هل هناك حنان مثل حنانك ايها الوديع الابي ؟ ليس بالعلم وحده رفعت الايام شأنك ، بل هو بهاء اخلاقك وصوت محبتك وأنين ألمك وجهدك واجتهادك وكتبك واوراقك وسهرك ونظريتك في علم الاجتماع ايها العراقي الذي تَطَبَعَ كثيرا باطباع العراق ، حتى مت على الطريقة العراقية .. العراقيون يموتون من دون اسباب والحروب تلاحقهم اينما رحلوا او حلوا ، وتداعيات الموت امتدت الى مشافينا فلا تسعف أحدا بل تكمل عليه مشواره لتوصله الى حافة القبر.. لم هذا الالم الذي وسعه صدرك وقلبك وشرايينك حتى تمزقت تمرداً ، فهي أما ان تكون او لا تكون ، وحين عجزت ان تنبض بالحياة اختارت طريقاً اخر لا رجعة فيه.
ايها الصبوح ابدا بوجه باسم وقلب مُلء قيحا من وطن يقتلنا عشقاً او نذبح دونه .. الى كل من أحب كريم ، والى زملاء كريم ومن ترك كريم فيهم شيئا او ذكرى ، لم يعد كريم يراودنا حتى في أحلامنا فقد اختار فضاءً اوسع من صناديق حياتنا المغلقة .. نبض كريم توقف ، وما عاد قادرا على ان يمنحنا مزيداً من الحب والحنان ، فهذا الرجل رقد في مكان ما بعيداً عن الجامعة ، وبيت الحكمة ، والمجالس الادبية ، والمؤتمرات لقد اخذ صوته معه وترك صورته وألمه في قلوبنا .. كلماته بل همساته من فرط اخلاقه لا يمكن ان تنسى ، وسحنات وجهه الجنوبي تُنْبأ بعلامة العلماء البسطاء المانحين الباذلين النفس من اجل حقيقة جديدة وعلم نافع تأخذه الاجيال وتطوف به.. عِلم عراقي ونظريات في السلوك الاجتماعي بحثها الاستاذ تحت سقوف لم تكن رحبة دائماً .
كريم محمد حمزة وجه لاينسى ، وعِلم لم نكتشفه بعد ، وعالم لم يأخذ مكانته التي تليق به ، واثر لم نعثر عليه.. لعله طبق نتائج علم الاجتماع الذي درسه ، ودرّس فيه ، على نفسه وذاته حتى اجهد جسده النحيف وعقله الكبير المتجدد وخلقه الرفيع الذي هذبه كثيراً.. من اين اتى بكل هذا التهذيب ومن اين لنا الصبر على فراقه.. وكيف لنا ان نجد مثله..
ايها الوديع حتى مع الموت ، لم تعترض ولم تنبس ببنت شفة حتى اتى ليأخذك اليه ولم تعترض على مصاحبته في رحلة الى المجهول .. ألم يكن لك ان تقول لا .. ليس الآن .. هناك من ينتظرني .. وهناك من ألف لقائي وكلماتي واطلالتي وألقي وودادي.. ايها الموت لم اخترته من دوننا وتركت لنا الالم والحسرات .. يا شمعة من شموع العراق لم أطفأتك هذه الرياح وكنت متوقدا وتتصدى لعواصف اكثر منها قوة وشدة وتنتصر عليها ..
أهكذا هي لحظات الفراق ، لم تعودنا ان تغادر دون ان تقول لنا وداعاً الا هذه المرة ، فماذا عسى أن نفعل ونحن ما زلنا ننتظر عودتك واطلالتك وحديثك وحوارك وبنات افكارك وحضورك البهي ايها الوديع .. يا كريم النفس والخلق و يا مانح الايام سحنات وجهك ، ويابحر الحنان اهكذا تذوب وتترك اللهب يشتد أوارا في حشاشتنا .. لا يليق بك الصمت اليوم كما كان عندما تستمع الى محاورك .. اصرخ ايها الكريم ، فراقك لا يطاق وجسدك العراقي النحيف المسجى آن له ان ينتفض ، فلا يليق بك هذا السهاد وهذا الرقاد وهذا الصمت المطبق وهذا الظلام الذي يلف المكان .. يا شمعة أيامنا عد الى ضيائك ونور عقلك وفيض فكرك فما زلنا بحاجة اليك وما زال العراق يحتضنك وينظر اليك ، كيف تمضي ولم تكمل نظريتك الشاملة في علم الاجتماع .. اجتماع اهل العراق وفرقتهم وآلام الصراعات في السياسة والمرض وانسداد الطرق والشرايين وتعطيل الدوام والقلب .. ألم تكن من دعاة الاصلاح لم قبلت بالموت دون ذلك ؟.. هل ابدلت نظريتك حتى آمنت ان لا اصلاح الا في الموت ام ماذا ؟..
ايها الودود كم نحن بحاجة الى ودادك ومحبتك وحنانك وضياء وجهك وبسمة تغرك وبهاء محياك وبعض آلامك وصمتك الذي اصبح حالة ابدية ..
لنكتب على قبرك وداعا ايها الودود .. فليس مثل كرم اخلاقك كريم.. طوبى لثرى ضم بين جنباته جسدك النحيف وابقى عقلك الكبير وفكرك النير .. عزاؤنا انك في القلب والذاكرة وصورة لا تغيب عن أبصارنا.. وداعا .
القاهرة
—