قصيدة ( التتويج ) للجواهري … نموذجا !
عشت وجدانيا مع شاعرنا الكبير المرحوم محمد مهدي الجواهري فترة طويلة … قارئا ومستمعا ومقربا ، فقد كنت طوال الفترة التي قضاها في العراق بعد غربته الاولى عنه وتحديدا بداية سبعينات القرن الماضي حتى مغادرته النهائية للارض التي أحبها وسكنت فيها مشاعره وأحاسيسه.. ملازما له في حلّه وترحاله وربما يعرف زملائي إن تلك العلاقة ( مع فارق السن ) أتت نتيجة الصداقة الرائعة والحميمة التي ربطتني بنجله الاكبر ( فرات ). فكنا إثنان في واحد !!
وقد نشرت قسما كبيرا من ذكرياتي مع الجواهري معززا بالصور الخاصة التي تجمعني بالجواهريين الاب والابن في صفحة ( شخوص في حياتي )في جريدة (المشرق البغدادية في عددها 36 ) الصادر في 17 / 1 /1004 …. وتأسيسا على ذلك ، أقول إنني مازلت في حيرة بشأن قصيدة ( التتويج )التي نوقظها اليوم ونسلط الأضواء عليها ..
ومبعث حيرتي إن الجواهري كان يعلن بمناسبة وبغير مناسبة امام سامعيه وبحضوري كرهه الشديد لهذه القصيدة ، وقد ثبّت لاحقا ، ندمه على نظمها في كتبه ومذكراته وفي أحاديثه الصحفية والاذاعية وايضا في مناسبات عامة عديدة … لكنه للأمانة ( وهذا سبب حيرتي ) كان يردد امامي وامام نجله فرات ( ابو محسّد الرائع) .. إن قصيدة ( التتويج ) محببة اليه .. !!! وإنه يحبها كثيرا ويعتز بها … وكان يردد مقاطعها بفرح واضح وبإلقاء مشوب بالحسرة … وكثيرا ما رأيته وقد إعترته ( صفّنة ) أثناء ترديده للقصيدة .. قبل أن يغيّر الحديث !!
وللأمانة ايضا ، اقول إن الجواهري كان يظهر مقّته لقصيدة ( التتويج) جهارا في اللحظة نفسها التي يعلن لنا عن إعتزازه بها … ولم أعرف سر التاقض العجيب هذا حتى …. اليوم !
وانا أتفق مع السيد ( مراد العماري ) في بحثه ( قصيدة التتويج التي نغّصت حياة الجواهري ) بأن قصيدة ” التتويج ” كانت مثار جدل وجدال بين نكران الجواهري لجوهرها ونظمها .. وبين إستهجان المثقفين في بداية خمسينات القرن الماضي …. والسبب واضح وهو إن الصراعات السياسية آنذاك كانت السبب المباشر في إذكاء ذلك الجدل ، وصب الزيت على ناره المشتعلة … أصلا !
وأعتقد إن الجواهري كان فرحا بشدوّه لهذه القصيدة داخل نفسه … مزكوما وزعلانا وثائرا في الساحة العلنية لعراق تلك الحقبة !
مقاطع من ( التتويج )
ولتذكير القراء الأعزاء بقصيدة ( التتويج ) أقول إنها القصيدة التي ألقاها الجواهري في حفل القصر الملكي ببغداد ( الرحاب ) بمناسبة تتويج فيصل الثاني ملكا على العراق رسميا بعد بلوغه سن الرشد :
ته يا ربيع بزهرك العطر النــــدي
وبضوئك الزاهي ربيع المولد
باه السما ونجومّها بمشعشــــــــــــع
عريان من نجم الرّبى المتوقد
وإذا رمتك بفرقد فتحدّاهــــــــــــــــــا
من طلعة الملك الأغر بفرقد
يا نبتة الوادي ونغمة عطـــــــــــــره
يا نبعة الثجّاج في اليوم الصدي
يا خطوة الآمس المعاود طيفــــــــــه
يا صفوة الامل المرجّى في غد
أشرق على الجيل الجديد وجـــــــــدّد
وتوّل عرش الرافدين وأصعد
وقد الجموع الى الخلاص تفز بـــــــــه
وبهم وخلد امة وتخلـــــــــــــد
يا ايها الملك الاغر تحيــــــــــــــــــة
من شاعر باللطف منك مؤّيد
أنا غرسكم أعلى ابوك محلّتــــــي
نبلا وشرّف فضل جدّك مقعدي
********
وتلك الابيات هي من قصيدة ( التتويج ) التي رفض الجواهري ، نشرها في كل دواوينه، وزاد الجواهري من الاعلان عن كرهه ( العلني ) لها بوصّفها إنها ( زلّة) ولم يكتف بهذا الوصف بل ذهب الى اكثر من ذلك بكثير ، إذ قال في الجزء الثاني من ذكرياته ص 121 ( … إنها زلة العمر في مديح فيصل الثاني ، اقولها زلة وأكثر من زلة ، ولا أتراجع او احاول أن اخفف من وطأت الموقف … ولن استعمل التبرير الذي اعتاد رهط كبير من الكتاب ممن يخطئون ويزلّون في المجتمع العربي … ذلك لأنني بمحض ارادتي هرولت مسرعا الى تلك الهاوية ولأنني كنت اول العارفين ان هذا الممدوح ربيب الاستعمار الانكليزي ) ….الخ
وفي مكان اخرمن ذكرياته وصف هذه القصيدة التي احبها في ( السر ) وكرهها في ( العلن ) قائلا ” إنها المعركة الخاسرة مع الحياة ” !!! عجيب.
وكلمة ( عجيب ) كما لايخفى على القارىء…. هى من عندي انا العبد لله كاتب هذه السطور وزاد من ( عحبي ) تأكيد الجواهري في ذكرياته التي ينبغي ان تسرد بصدق ( المخبوء والمعلن ) قوله عن قصيدة “التتويج” باسلوب قاس وقلم حمل ضغينة كبيرة لا اعرف دافعها ، لحد الان ( .. كي اطرد بعضا من الكوابيس التي لاحقتني ، ولكي اعطي القارىء درسا في كيفية الاستفادة من اخطاء الاخرين وتجنبها اقول : المهم انني نظمت قصيدة التتويج ” الزلّة” وقررت ان ألقيها رغم تحذيربغض الاصدقاء والذين لم يكن تحذيرهم بمستوى الردع المنشود… وانني لازلت اتساءل : لماذا لم أتهرب من إلقاء القصيدة ؟ ولماذا تملقت من كان يتملقني ، ولماذا لم أستطع أن انهض ضميريا من تلك : الزلة ، النكسة ،النكبة ،الهاوية )
وأنا أقرأ سطور الجواهري في القصيدة التي امتدحها امامي مرارا وهجاها في تلك الذكريات بقسوة وبكلمات بعيدة عن لغة الجواهري نفسه ، شعرّت بأنني افرأ تاريخا مرتبكا، مجروحا في عمقه ، ممزقا في أجزائه الحميمة …. عجبي مرة .. أخرى !
ماذا تقول اوراقي ؟
وفي العودة الى أوراقي التي حملت ذكريات ومذكرات 45 عاما من العمل الصحفي ، وجدت إنني سألت الجواهري وانا اتناول الطعام معه في حانة ( فيولا ) المحببة لدى الشاعر وكان ثالثنا نجله ( فرات ) في مدينة براغ عام 1978 عن قصيدة “التتويج ” فقال : حسنا سجّل عندك ( ان قصائدي مثل اولادي .. لا فرق بينهم .. وقصيدة ” التتويج ” اثيرة عندي لكن للسياسة احكامها … ولعن الله السياسة )
والان وبعد هذه العقود الطويلة من الزمن ، اعود واكرر بأني مازلت في حيرتي وستبقى هذه الحيرة ما حييت ، فالكل صار يعرف ان الجواهري تنكر لقصيدة “التتويج “حتى إنه لم يذكرها او ينشرها في كل دواوينه كما ذكرت ، غير اني لا أستطيع ان اكذب أذناي وقد سمعتا مرارا كلمات الحب الخفي لهذه القصيدة المتجذّرة في وجدان الجواهري..من الجواهري نفسه !
إنها ، مصيبة ان يعيش المرء في دوامة الآراء فيما ( يختزن ) عنده القول الفصل… فمن يصدق الحقيقة الضائعة في قصيدة ( التتويج ) الخائف منها ، ناظمها الجواهري دوما دون سبب واضح …فيما يرددها مع نفسه … بحب ووله . بل وفي احدى المرات رددها غناءا بصوت رخيم !!
ماذا يقول ، المختصون بشعر الجواهري لحالة الازدواجية في( حب داخلي وكرّه علني) لقصيدة ” التتويج ” من قبل ناظمها محمد مهدي الجواهري ؟؟.