على الرغم من انحسار الاعتقاد بنظرية المؤامرة في كل ما يحصل من أحداث داخلية وخارجية، لكنّ الاعتقاد بها يطل علينا بين الحين والآخر، في بارانويا جماعيّة تبني الاستدلالات على أسس وهميّة، تستخلص منها حقائق مطلقة.
هذه البارانويا تتطور الى تجليّات وبائية بين أفراد الشعوب التي تشهد الحروب والنزاعات، وفي مجتمعات الفساد، وفي حقب الانكسارات الداخلية والخارجية، حين يفقد الفرد الثقة بأمته، ويتصرّف بسلوك، ناجم عن الاستلاب الحضاري والوجودي.
وأكبر ما أصاب العراقيين والعرب من هذا الداء الفكري، تلك الاحداث المرتبطة بالحرب العالمية الأولى والثانية، والتي
انتابت بنتائجها اغلب دول العالم، لاسيما أوربا والشرق الأوسط، لكن العرب يصرّون على انّ ما حدث كان مؤامرة مدبّرة ضدهم، وحدهم، محجمين عن إدراك عالم جديد يتشكّل.
قرعت تداعيات الحرب الأولى، أبواب أوربا، قبل العرب، حين سقطت إمبراطوريات النمسا والمجر وروسيا والدولة العثمانية، ورسمت خريطة جديدة للشرق الأوسط.
وأحدثت الحرب دولا، مثل تشيكوسلوفاكيا، ويوغوسلافيا، واتفق الأقوياء على توحيد بولندا التي كانت مقسمة بين النمسا وروسيا وبروسيا، فيما أوجد المنتصرون، دولة النمسا الحالية.
أصيب العرب بخيبة أمل كبيرة بعدما اتفق البريطانيون سرا مع الفرنسيين في 1916 على اقتسام الشرق الأوسط، لكن الحقيقة انهم لم يكونوا وحدهم الذين طالتهم التجزئة، لان الخارطة السياسية الجديدة شملت تركيا وأوربا.
لا أحد ينكر التداعيات السلبية التي حفرت المستنقعات الأيديولوجية والاقتصادية والسياسية، للعرب ومنطقة الشرق الأوسط، لكن يجب ان لا نحكم على الاحداث التاريخية من منطلق المؤامرة فقط، لانّ الخارطة الجيوسياسية التي رسمتها القوى العظمي، شملت كافة أرجاء العالم، لكن التفاوت، ان البلدان الأخرى، لم تعد تتكأ على عقد تاريخية مثلما يتكئ عليها العرب، وتتضخّم لديهم حتى باتوا يعيشون على حطام أحداث أنتجت واقعا معترف به أمميا، شاءوا أم أبوا.
الشعوب ومنهم الاوربيون أسدلوا الستار على الماضي، وهم الذين ذاقوا مرارة خرائط جديدة جزّأت بلدانهم، بل ان روسيا اقتنعت والى الابد بدول جديدة تشكلت من أراضيها وهي كل من فنلندا واستونيا وليتوانيا ولاتفيا.
يعتقد كتاب مستقبل الشرق الأوسط وهو من تحرير هيو مايلز وألاستير نيوتن، ان التكدسات التاريخية والتفسيرات
لها من باب المؤامرة، ضعضعت ثقة الشعوب العربية بنفسها وبأنظمتها، التي تأسست برعاية الاوربيين، في اعتقاد بانها من صنيعة الغرب، الأمر الذي دفع أعدادا متزايدة من الناس إلى حركات التطرف، ومن ثم صعود الجماعات المسلحة في جميع أنحاء المنطقة.
ومن غير تبرئة القوى الغربية من الجروح الكبيرة التي ألحقتها بالشعوب العربية، لكن ذلك يجب ان لا يكون العلة الوحيدة التي أنجمت التخلف والفوضى وعدم القدرة على النهوض، ذلك ان أمما كثيرة تقطّعت أوصالها، وذاقت مرارة الانكسار، ودفعت التعويضات، لكنها نجحت في النهوض من جديد، بل وتفوقت على الدول التي احتلتها في يوم من الأيام.