اللامقدمة:
لماذا كلما كانت ظروف الاشتغال صعبة (والجهود مضاعفة)، كلما ازدادت درجة اللااعتراف بذلك؟ سؤال فلسفي وتنموي متجدد يتبادر إلى ذهن كل من اشتغل أو يشتغل بالأقاليم التي وقعت بنود زواج كاثوليكي مع الهشاشة والبؤس واللاتنمية…
يكفي أن تجوب أغلب فيافي ومرتفعات ووديان إقليم تنغير، الذي لا يخرج عن نطاق أقاليم الهشاشة المركبة واللاتنمية المطبع معها، بل، يظل رائدا في قساوة الظروف، لكونه يجمع بين كل المتناقضات الصعبة: مرتفعات بمناخ صعب وصحاري بمناخ أصعب، مسؤولون محليون في الغالب لكن بذهنية صعبة وتصورات وتفكير لا ينهل من المحيط ومتطلباته، إداريات جد صارمة وتفاصيل مكتظة وعض على النصوص بالنواجد لكن في بيئة كلها نواقص وحاجة وفراغ بنيوي تجهيزي اقتصادي.
يكفي أن تجوب أغلب المتناقضات المجالية والجغرافية لهذا الإقليم، إعمالا للضمير، لتجد نفسك في ذيل الترتيب على الصعيد الوطني من حيث الدرجة…
بمعنى، فكلما اشتغل الإنسان في بيئة سمتها الهشاشة وغياب شروط العمل واستفحال عوامل القهر كما هو الشأن لإقليم تنغير، كلما قوبل ذلك باللااعتراف. لكن ما سبب هذا اللااعتراف؟ ربما من المجحف اتهام الطبيعة والمناخ والمجال والجغرافيا لوجود أقاليم أقرب من إقليم تنغير من حيث تلك العوامل والأسباب، لكنها تقابل العاملين بها على الأقل، وذلك أضعف الإيمان، بالاعتراف، والرغبة، وإن تأجلت أو تعثرت، في شكر العاملين بها.
السبب، وهو أغلب الظن، هو ذهنية هذا الإنسان الجنوب الشرقي العجيب الغريب المضحك في الوقت ذاته. من خلال عملي في مناطق مختلفة من أرجاء هذا المغرب وبعد الانطلاقة من والعودة إلى إقليم تنغير، لاحظت كيف تسير الأمور بيسر وسلاسة في تلك المناطق الخارجة عن هذا الجنوب الشرقي، وكيف يصعب التعامل مع المسؤول المحلي إذا تعلق الأمر بأبسط الأمور وأسهل المساطر في هذا الإقليم.
ولأن التعميم لا يجوز، فهناك نماذج محلية تعمل بيسر وتتواصل وتتفهم الأمور وفق المطلوب دون تعقيدات وبيروقراطيات مستوردة من عواصم التجهيز والبنية التحتية المساعدة. لكن، قلما تندمج في بيئة غلبت عليها ذهنية جامدة همها القوانين لا روح تلك القوانين وغاياتها. لذلك تفضل إما العزلة الأنطولوجية أو المغادرة حتى بلوغ سن التقاعد، سن التخلص من الالتزامات المهنية والتفرغ لسرد الذكريات والحوادث والاخفاقات والانجازات. كما يمكن مصادفة مسؤول وافد عن الإقليم يعمل في أقاليم الذهنية المصعبة والمفرملة للأمور البسيطة، وهو على نفس نهج الفرملة والتعقيد، وهذا ربما ناتج عن طول معاشرته لهؤلاء القوم لذلك اكتسب صفاتهم، أو لعدم اندماجه في مناطق التواصل والتيسير والفهم الصحيح للقوانين والمساطر والمذكرات المستوعب لخصوصيات واكراهات المحيط، لذلك حط رحاله حيث يجد ضالته….
معادلة أخرى تتكرر في مناطق عدة هي أنها كلما كانت ظروف العمل جيدة ومناسبة كلما كان الاعتراف، ولو أثناء القيام بأبسط الانجازات، أكبر. يكفي فقط زيارة مدن البنية التحتية وكيف يتم التصفيق لأبسط الأمور والاحتفال بأصغر الأفعال، وعقد مقارنة بما يتم تقديمه من تضحيات ومجهودات مضاعفة في أقاليم الهشاشة من طرف العاملين بها، ليقابل ذلك باللااعتراف: تذيل أسفل الترتيب…
سياق هذه التدفقات:
وأنا أتذكر عدد المرات التي جلست فيها في محطة سيارات الأجرة في انتظار انطلاقها صوب مناطق وجود مؤسسات القطاع المدرسي، لأعود بخفي حنين بعد طول جلوس وانتظار لتأخر استكمال العدد الكافي من الركاب…برد قارس و”تذمر جسدي”، حرارة مفرطة و”ترهل نفسي”…
كما أتذكر كثرة لحظات انتقالي بين محطة سيارة الأجرة وحافلات النقل المزدوج لعلي أظفر بأول المنطلقين لضمان الوصول إلى تلك المناطق النائية باكرا…أنفاس متقطعة وهرولة هنا وهناك ومحفظة شاحبة لم أعد أتذكر نوع دلائل التوجيه التي تحتويها وهل هي محينة أم قديمة…لا وقت تبقى للتأكد، أنا الذي لا أملك طابعة وناسخة وأنترنت لتحيين وطبع ونسخ ما استجد وصدر مؤخرا.
أتذكر كم مرة أديت من أجرتي ثمن سيارة بأكملها أو نصفها للوصول إلى تلك المناطق البعيدة، أو كي لا أعلق فيها حيث لا يوجد مأوى ومأكل كلما اقتربت الساعة السادسة. جري هنا وهناك وانتظار طويل، وفي الأخير، قد لا أصل في الوقت إلى مؤسسات القطاع، لأعود دون نتيجة لأربط الاتصال من هاتفي الشخصي بالمنتظرين، أخبرهم بتعذر الوصول وتأجيل المجيء إلى وقت لاحق.
لكي يصل المرء مرة واحدة إلى مؤسسات القطاع في الوقت المطلوب أو انقص منه قليلا، عليه أن يقوم بمحاولتين أو أكثر…فهل، أنا الذي أقتطع من أجرتي الشخصية مصاريف التنقل والاتصال، كنت يوما السبب في عدم انتظام النقل أو غياب النقل إلى تلك المؤسسات؟ هل أنا سبب صعوبة المسالك المؤدية إليها، وسبب تكسرها، وتآكل حافاتها وانقطاعها وقت الشتاء والثلج…
أتذكر، أنه للوصول لأقرب مؤسسة وهي تابعة طبعا للبلدية، كم يجب علي الانتظار لمجيء سيارة أجرة تقلني، ضرورة، إلى المركز وبعدها انتظار سيارة أجرة ثانية للانطلاق نحو مكان تواجد تلك المؤسسة المعزولة عن الطريق والصعبة الولوج، مع ضرورة أداء ثمن السيارة بكاملها أو جزء كبير منها، للوصول في الوقت المحدد…وبعدها تظل العودة على مثن سيارة أجرة غير مضمونة لكون المؤسسة نائية ومعزولة… لذلك، قررت مرارا الذهاب على مثن دراجة هوائية رغم صعوبة الطريق إليها لكونها تضم مرتفعات ومنخفضات…لتصل إلى تلك المؤسسة، وهي تابعة للبلدية، عليك أن تتصبب كل أصناف العرق، ويتآكل ما تبقى لديك من أمل ويعتريك التذمر…فهل أنا السبب في صعوبة الولوج إليها، أنا الذي لا يملك سوى دراجة هوائية جد عادية؟
جاء الصيف واستشعرت النزيف الطاقي والنفسي والزمني الذي ينتظرني في الموسم المقبل، وتوجهت إلى وكالة مصرفية وطلبت قرض استهلاك لشراء سيارة بسيطة تعفيني من كثرة الانتظار وتقيني من برد وحرارة تلك الأمكنة المتفرقة والمتباينة المناخ…لكن طالما اكفهر خاطري بأسئلة من قبيل:
-لماذا لا يتقاضى المستشارون في التوجيه التربوي تعويضات كغيرهم على تنقلاتهم بين مؤسسات القطاع المتفرقة والبعيدة؟
-لماذا نشكل الاستثناء في عدم التوفر على هواتف مهنية تقينا كثرة مصاريف الاتصال والتنسيق مع كل المتدخلين؟
-لماذا نشكل الاستثناء في طبع ونسخ كل الوثائق المرتبط بمهامنا من أجرتنا، وهي كثيرة ومتجددة نظرا لطبيعة مجال التوجيه التربوي؟
-لماذا لا نتوفر على ربط بالأنترنت ومهنتنا ومهامنا مرتبط أساسا بالبحث وتحيين المعلومة؟
-لما لا توفر لنا الوزارة حواسيب للعمل لإعداد البرامج الدورية والتقارير الشهرية والاحصائيات والبحوث والعروض الإعلامية؟
-لماذا انتقلنا من وضعية مهنية (التدريس) إلى أخرى (التوجيه التربوي) لنجد أنفسنا قد تقهقرنا ماديا جراء كثرة المصاريف والتنقلات التي لا نتقاضى عليها ولو درهما رمزيا؟
-لماذا كلما فكر المستشار في التوجيه التربوي بالتحرك إلى إحدى مؤسسات القطاع إلا واقتطع جزءا من أجرته، دون أمل في استرجاعها أو التعويض عنها؟
حيرة:
طيلة أربع سنوات من العمل كمستشار في التوجيه التربوي، أجبت عن كل تلك الأسئلة وغيرها من رصيدي ومن أجرتي الشخصية، واشتغلت في مجالات صعبة، وفي أصعب الأقاليم جغرافيا ومناخيا (طاطا، شيشاوة، تنغير)، لأجد نفسي في أسفل الترتيب من حيث النقطة الإدارية الممنوحة للترقية بالاختيار برسم 2020. والغرض من كتابة هذه التدفقات ليس البكاء واستجداء التعاطف، فالترقية لا تهمني، كما لا يهمني رأي وانطباع أي كان، ولست ممن يقدس الوظيفة إذا انتفت فيها الكرامة. كل ما يهمني هو محاول فهم وتفكيك وإعادة بناء عبارتي المستوحاة من الممارسة الميدانية: “كلما ازداد القهر وشروطه، كلما ارتفعت درجة اللااعتراف”.
حمزة الشافعي
تنغير-المغرب