يرددُ، بصخب، قادةُ إئتلاف العراقية كونّهم أصحابَ مشروع وطني عابر للطائفية. وصاروا يتكلمون بقدر من الغطرسة والغرور والثقة وكأنهم حقا المرجعية في تحديد من هو وطني ومن هو لاوطني وطائفي، وخاصة في الحقبة التي تراءى لهم فيها بأن الجهد الخارجي، وخاصة السعودي، أصبح قادراً على حملهم إلى كراسي الحكم. يذكِّرني هذا الإدعاء بإدعاء صدام حسين الذي جعل من نفسه ومن حزبه الطغموي المرجعية العراقية لمنح سمة الوطنية لهذا الحزب أو الشخص أو ذاك، وطرح ذلك جلياً في خطابه المعنون “خندق أم خندقان” في منتصف سبعينيات القرن الماضي. وصار كلا الطرفين، حزب البعث وإئتلاف العراقية، يلحّان في تقمص هذا الدور، الذي لم يمنحهما إياه لا برلمان ولا إستفتاء شعبي نزيه ولا إجماع وطني، لدرجة أنهم صدَّقوا أنفسهم بكونهم المرجعية الوطنية وأصحاب مشروع وطني وسلكا سلوك القائل “إحلم وإدَّعِ، ثم إحلم وإدَّعِ، حتى تُصدِّقَ نفسَك ويصدّقكَ الناسُ”!!.
الآن، إستند إئتلاف العراقية في هذا الإدعاء إلى معيارين: أولاً: إن قائد الإئتلاف الدكتور أياد علاوي وعدداً آخر من القياديين هم من الطائفة الشيعية. وثانياً: إن إئتلاف العراقية نجح في فوز عدد من نوابه في مناطق الجنوب والوسط بينما لم يحصل إئتلافا دولة القانون والوطني العراقي على مقاعد في المناطق الغربية والموصل ولم تحرز الأحزاب الكردية مقاعد في المناطق الغربية.
بادئ ذي بدء، وقبل أن أناقش هذين المعيارين للطائفية، أقول إن إئتلاف العراقية لم يعمد إلى تفحص ودراسة المعيارين الحقيقيين لمواضيع الوطنية والطائفية واللاطائفية وهما: أولاً: البرنامج السياسي للإئتلاف ولخصومه، وثانياً: ما حققه كل منهما على أرض الواقع. إذا وضعنا جانباً برنامجي الطرفين المكتوبين وتفحَّصنا موقفيهما العمليين، وهما الأهم، لوجدنا أن الإئتلاف العراقي الموحد (الذي أصبح الآن التحالف الوطني) قد أفصح عن برنامجه الستراتيجي الحقيقي وصبَّه في الدستور العراقي الذي لعب ذلك الإئتلاف، إضافة إلى التحالف الكردستاني، الدور الرئيسي والقيادي في بلورة مشروع الدستور قبل عرضه على الشعب لإستفتاءه. بينما نجد أن أطراف ما أصبح اليوم يُعرف بإئتلاف العراقية عارضت ومازالت تعارض بنوداً هامة في الدستور حول حقوق الأكراد والنظام الإداري والفيدرالية للعراق وقضيتي كركوك والأراضي المختلف عليها ومحاسبة قياديي النظام البعثي الطغموي وقطع الطريق على عودة أية ممارسات مشابهة لتلك التي إنتهجها ذلك النظام الطغموي، وغير ذلك. كما سآتي على ذكره لاحقاً، فقد دأب السيد أياد علاوي على المطالبة ب “إصلاح” العملية السياسية وحلِّ البرلمان وتجميد الدستور وقدَّم مشروعاً بهذه المفردات إلى الدكتورة كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة إلا أن السيد علاوي وقائمته وإئتلافه لم يجرؤوا على إعلان مشروعهم بشكل علني ومفصل وواضح بأبعد من الكلام المقتضب الذي أدلى به السيد أسامة النجيفي. الغريب أن الدكتورة رايس قد ايدت المشروع غير أن السيد المالكي رئيس الوزراء كان أقوى من أن يسمح لأحد بمسِّ النظامَ الديمقراطي الذي صوت عليه الشعب. وهذا دليل آخر على الجهة الصادقة في إحتضان الديمقراطية والجهة التي تسعى لتقويضه، والديمقراطية نقيض الطائفية، بينما نقض الديمقراطية هو تأسيس للطائفية.
ومن الناحية التطبيقية فإن إئتلاف العراقية ينسب لنفسه مشروعاً وطنياً عابراً للطائفية وكأن العراق ومنذ إنتخابات كانون ثاني 2005، أي منذ أن خذل الشعب السيد أياد علاوي في صناديق الإقتراع بعد أن “توَّجَهُ” رئيساً للوزراء، الأمريكيون والنظام الرسمي العربي والأمم المتحدة، يفتقد هكذا مشروعاً. وهذا يجافي الواقع إذ كان هناك مشروعاً منذ البدء وقطع مراحل عملية هامة وتجاوز حالة المشروع فأصبح واقعاً على أرض العراق، بينما مازال مشروع إئتلاف العراقية المفترَض يحبو على سطح الإدِّعاء الفارغ لحد الآن، ولا تشير مواقف هذا الإئتلاف الإجتماعية والسياسية إلى أنه سيقف على رجليه.
فمنذ أن صوَّتَ العراقيون على الدستور الدائم في 15/10/2005 الذي أُقر النظام الفيدرالي للعراق وإنتُخِبَتْ بموجبه حكومةٌ عراقية في شهر كانون أول عام 2005؛ ومنذ صدور قانون المحافظات وإنتخاب مجالس المحافظات بموجبه في نهاية عام 2008 أصبح العراق، خارج إقليم كردستان الذي تربطه علاقة فيدرالية بالمركز، يُدار من قبل حكومات محلية منتخبة جماهيرياً، ولا يُعيَّن المسئولون فيها من بغداد كما جرت العادة أيام النظم الطغموية (1)، في جميع المحافظات ولها موازناتها المالية المموَّلة مركزياً بموجب الدستور الذي تنص إحدى مواده على كون ثروات العراق الطبيعية وعلى رأسها النفط “هي ملك للشعب العراقي”. تُحدَّدُ الموازنات المحلية سنوياً ضمن موازنة الدولة العامة التي تقترحها وزارة المالية ويعتمدها مجلس الوزراء ويقرها مجلس النواب ويصادق عليها مجلس الرئاسة لتصبح نافذة المفعول (2)، علماً أن الرآسات الثلاث تتمثل فيها شرائح المجتمع تمثيلاً حقيقياً لاشكلياً ولأول مرة في تأريخ العراق.
لا أعتقد أن الطائفية قادرة على إختراق هذا النسيج الإداري المترابط الذي يغطي العراق كله دون تمايز أو إستثناء (عدا كركوك بقدر معين).
كل هذه الإنجازات، التي أحدثت ثورة في البناء السياسي العراقي وخلقت أرضية صلبة لوحدة العراقيين على أسس طوعية حرة، قد حصلت أثناء حكومتي السيدين الجعفري والمالكي المتهمتين من قبل السيد أياد علاوي وحركته وقائمته وإئتلافه ومن لف لفهما بالطائفية واللتين يطرح إئتلاف العراقية نفسه نقيضاً “وطنياً لاطائفياً” لهما وللتحالف الحكومي مع الأكراد والآخرين الذي قاداه. وبدلاً من دعم تلك الجهود التي جسدت الوطنية واللاطائفية، حاولت القائمة العراقية وجبهة التوافق عرقلة تلك المسيرة حتى أن بعض نوّابهما صدرت بحقهم أحكام قضائية بتهمة الإرهاب (3)، كما إنهما إنسحبتا من الحكومة بهدف تقويضها، والأنكى دعا السيد أياد علاوي وزيرة الخارجية السابقة الدكتورة كوندليزا رايس إلى “إعادة النظر في العملية السياسية بالكامل وتغيير طريقة إدارة الدولة العراقية وتجميد الدستور وحل البرلمان”؛ كما طلب السيد طارق الهاشمي من الرئيس بوش تسليم الطغمويين المفاصل الحساسة في الدولة العراقية، أي نقض النظام الديمقراطي، مقابل إسداء خدمات للمصالح الأمريكية على غرار ما تقدمه الحكومات العربية الأخرى، حسب تعبيره وعلى ذمة تقرير صحيفة البيسو الإسبانية.
فأية وطنية ولاطائفية يتحدث عنها إئتلاف العراقية، إذاً؟. يبدو لي أن ما يعتبره هذا الإئتلاف طائفياً هو البناء القائم وخصوصاً النظام الفيدرالي ومحاولة حل قضية كركوك والمناطق المختلف عليها ديمقراطياً وحسب الدستور، ووجود “هيئة المسائلة والعدالة” وعدم صياغة “المصالحة” حسب مقاسه، (رافضاً المشروع الحكومي للمصالحة الذي لا يفرط بحقوق الشعب)، والوقوف بحزم بوجه التدخلات الإقليمية والدولية، وعلى رأسها التدخل السعودي والسوري والإيراني، التي ترمي إلى النيل من سلامة البناء الديمقراطي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1): الطغمويون والنظم الطغموية: هم أتباع الطغم التي حكمت العراق وبدأت مفروضة من قبل الإحتلال البريطاني في عشرينات القرن الماضي، ومرت النظم الطغموية بمراحل ثلاث هي: الملكية السعيدية والقومية العارفية والبعثية البكرية-الصدامية. والطغمويون لا يمثلون أيا من مكونات الشعب العراقي القومية والدينية والمذهبية بل هم لملوم من الجميع ، رغم إدعائهم بغير ذلك لتشريف أنفسهم بالطائفة السنية العربية وللإيحاء بوسع قاعدتهم الشعبية. مارستْ النظمُ الطغمويةُ الطائفيةَ والعنصريةَ والدكتاتوريةَ والديماغوجيةَ كوسائل لسلب السلطة من الشعب وإحكام القبضة عليها وعليه. بلغ الإجرام البعثي الطغموي حد ممارسة التطهير العرقي والطائفي والإبادة الجماعية والمقابر الجماعية والجرائم ضد الإنسانية كإستخدام الأسلحة الكيمياوية في حلبجة الكردستانية والأهوار. والطغمويون هم الذين أثاروا الطائفية العلنية، بعد أن كانت مُبَرْقعَةً، ومار سوا الإرهاب بعد سقوط النظام البعثي الطغموي في 2003 وإستفاد الإحتلال من كلا الأمرين، فأطالوا أمد بقاءه في العراق بعد ثبات عدم وجود أسلحة الدمار الشامل. كان ومازال الطغمويون يتناحرون فيما بينهم غير أنهم موحدون قي مواجهة الشعب والمسألة الديمقراطية؛ كما إنهم تحالفوا مع التكفيريين من أتباع القاعدة والوهابيين لقتل الشعب العراقي بهدف إستعادة السلطة المفقودة.
(2): في الوقت الذي أقر فيه مجلس النواب العراقي الموازنة العامة لعام 2010 قبل إنتهاء ولايته، لم تصدر موازنة العام 2010 اللبنانية لحد الآن رغم تشكيل الحكومة منذ أشهر ورغم عراقة الديمقراطية اللبنانية وتمرسها وتمرس السياسيين والتكنوقراط في الدولة اللبنانية. والجدير بالذكر أن كلا الحكومتين اللبنانية والعراقية لم تقدما كشوفاً بالحسابات الختامية للسنين المنصرمة لحد الآن.
(3): صدرت أحكام قضائية، بتهمة الإرهاب، بحق النائبين السابقين الهاربين عبد الناصر الجنابي ومحمد الدايني؛ وهناك مذكرات برفع الحصانة تمهيداً لمحاكمة النواب السابقين: عدنان الدليمي وحسن ديكان وتيسير المشهداني.