ترى ما الذي يجعلنا نبحث دوما عن أشيائنا الصغيرة التي تناثرت ذات لحظة من طيش أو نزق أو دهشة مثل سراب بعيد . نحن السائرين دوما على خطى أحلامنا كي نصل إلى الضفة الأخرى وفي كل مرة نكتشف عري خيباتنا وسذاجة أعمارنا الطاعنة بالفقد . لم نكن لنكتشف هذا كله إلا في فترة متأخرة فنبدو مثل مومياءات فاغرة الأفواه تصلح أن تقبع في متحف يخلّد ذكراها . وفي زحمة بحثنا عن سر المتاهة العجيبة لذواتنا ، نكتشف بأن خيوطها متشابكة إلى الحد الذي لا يمكن معه فصلها إلا بجراحة خبير ، فهو وحده القادر على فك اشتباكها وترتيب مساراتها ووصف مخارجها ومداخلها بدقة متناهية وبحرفنة ثاقبة . يحدث هذا كله في لحظة تمرق خلسة من تقويم المملكة العجيبة ، لحظة ينعدم فيها الزمن عبر مختبر سردي يهدي المجهول لكائنات تخضع لتجارب عديدة قبل أن تنفذ من آخر عدسة لتنطبع على شريط النيجاتيف بالأسود والأبيض معلنة سر اللقطة الموغلة بالتعقيد والصفاء .
هنا يكتشف الخبير أسرار الحكايا التي تناسب اللقطات بعد تجارب لاتحصى ، فيدفع بها لاحقا بضغطة من إصبعه الحاذق نحو الحافة الأخرى فتصبح آدمية وفق مقاساته لتغدو الحكايات مكتنزة بالتفاصيل ومحتشدة بالغايات . يجري كل ذلك في وقت لايشير إلا زمن محدد فالساعة المتمركزة على أحد حيطان المختبر بعقرب واحد فقط مما يشي بتأريخ يتعكز على دورة لاتكتمل أبدا مادام الفراغ هائلا ومخيفا .
أتذكر أننا كنا ننخرط من عدسة المصائر زرافات ووحدانا ، ننفذ برشاقة لنجد أنفسنا وسط مملكة سوداء ، نقف في الطابور ، ننتظر تعاليم العارف يضخها في أعماقنا لنأخذ دورنا بعمارة المملكة والتفاعل مع مزاجها الفريد . ولاحقا كنا ننفذ عبر أقبية، وسراديب، وسلالم مظلمة، وباحات معتمة، وآبار ، وغرف رطبة، ومحطات لقطارات تجيء في موعدها ، وكنا نرهف السمع لوقع خطى مجهولة، أصوات غريبة ، موسيقى جنائزية، خرير مياه، صراخ، رفيف أجنحة طيور ، في عوالم باذخة الجمال والروعة والحزن في آن . رويدا كنا نحن شعب المملكة السوداء ، لانتباعد عن الرضا التام بأدورانا التي خرجت من رحم عدسات المختبر العجيب . وكم مرة كنا نرى صاحبنا العارف وهو يخرج في رمق الليل الأخير ليطمئن علينا بوصفنا شعب مملكته ، يلقي التحية أو يكتفي بأشارة من كفه لنعرف أن الأمور تجري على مايرام ، ومن بعيد كان يحوك لنا عوالم متناهية الصغر أحيانا ، وأخرى كبيرة ، يرشها بالضوضاء ويعمدها بالميتافيزيقيا ، ويمنحها تدرجات في اللون فتتراءى من بعيد مثل لوحة فريدة . كان يرمقنا بنظرات لم نكن لنفسرها بسهولة وهو منهمك دائما في تشييد بناء تتناهبه العيون من جهات شتى ، تتسق فيه جماليات النظر مع الوقائع والحواس فنرهف السمع لمزيج من الأصوات والروائح والصور التي لاتشبه سواها . وعند كل صباح كنا نستيقظ باكرا ، نرتدي ثيابنا المفصلة على مقاساتنا ، نحمل أوعيتنا أو مستلزمات أدوارنا ، غير آبهين بفتنة أيامنا القادمة ، فنحن نثق بمسارات حيواتنا التي رسمها صاحب المختبر بمنتهى الحكمة والذكاء .
بعد أعوام من الحفر والتنقيب والصيد والسفر ومصارعة الحياة وسط أجواء لاهبة ، مانزال نحن الواقفين في الطابور بكامل أناقتنا وبؤسنا ، شعب المملكة السوداء الطاعنين بالحب والخصب والجدب والكبرياء ، نبتسم في لقطة مبهرة من خلال سيلفي فريد يشير إلى وجودنا على قيد الحياة . هذا هو السيلفي الوحيد الذي لم يمر عبر عدسة المختبر هذه المرة ، فقد التقط خلسة وفي لحظة بالغة الحنكة والدهاء .