لم يكن في نيتي الرد عليه، لولا نصيحة قرأتها في أحد كتب أستاذي الراحل علي الوردي، مفادها أن العراقيين أكثر الشعوب تأثراً بالإشاعات، والاتهامات الباطلة، وإذا وُجِهَت لك تهمة ولم ترد عليها وتفندها، فمعنى ذلك أن التهمة صحيحة والويل لك!! وبناء على هذه النصيحة من حكيم مجرب، رأيت من المفيد كتابة هذا التوضيح، كرد على مقال الصديق الدكتور سيار الجميل، وأرجو منه أن يستقبله بروح أكاديمية رياضية وليس بالانفعالات العاطفية وسوء الفهم كما تلقى مقالي السابق.
الظاهر أن الدكتور الجميل فسر مقالي خارج سياقه جملة وتفصيلاً، وراح يسهب ويطنب في أمور لم تخطر على بالي، وليس لها أي ذكر في مقالي المشار إليه، مستغلاً ورود بعض المفردات مثل: (التركية والانكشارية والمماليك)، ليبني عليها اتهامات ما أنزل الله بها من سلطان، وكأنه كان ينتظر هذه الفرصة على أحر من الجمر لتصفية حسابات مكبوتة، أو لغاية في نفس يعقوب، ولحد علمي لم تكن بيننا حسابات، إذ كنا أصدقاء، وإن اختلفنا في آرائنا السياسية حول ما يجري في العراق من مصائب بعد سقوط الفاشية البعثية، وما رافقه من مضاعفات وتبعات، وكان المفترض في هذه الحالة، العمل بمبدأ: “الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية”، ولكن مع الأسف الشديد، لم يراعِ الصديق ذلك، لسبب لا أعرفه، فما عدا مما بدا؟
خلاصة القضية، أني طرحتُ في مقالي المذكور حول أزمة تشكيل الحكومة الجديدة، فرضية مفادها: أن العراقيين أكثر شعوب العالم اختلافاً فيما بينهم، وإن مقولة (اتفقوا على أن لا يتفقوا) تنطبق عليهم أكثر من أي شعب آخر، وإذا ما اتفقوا على شيء فلأنه فرض عليهم بالقوة من جهة ما!! وأتحدى أياً كان أن يفند لي هذه الفرضية!! وفي الحقيقة، هذا المرض هو ليس الوحيد المتفشي في العراق، بل هناك أمراض عضال أخرى مثل، جنون العظمة، والذات المضمخة، والنرجسية المفرطة.
ولإثبات فرضيتي (عدم اتفاق العراقيين إلا بضغوط أو قوة) هذه ذكرت على سبيل المثال لا الحصر، بعض المحطات في تاريخ العراق، وتفادياً للإطالة ركزت على تاريخ الدولة العراقية الحديثة منذ تأسيسها عام 1921. وفي هذه الحالة كان لا بد لي من ذكر الملك فيصل الأول والآباء المؤسسين الأوائل. لا اعتقد أن الصديق الدكتور سيار يختلف معي في هذه الفرضية، أو يستطيع تفنيدها إن اختلف، ولذلك اختار بعض المفردات وفسرها في غير سياقها، وبنى عليها اتهامات ما كنت أتوقع أن تصدر من أحد ضدي ناهيك عن صديق، خاصة إذا كان هذا الصديق أكاديمي المفترض به أن يلتزم بالموضوعية وعدم التهييج والإثارة ضد الآخر.
يقول الدكتور سيار الجميل:
إن ما دفعني حقا اليوم للرد على الأخ عبد الخالق قوله بالنص: ” نبدأ بتأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921، والتي كانت نتيجة مباشرة لثورة العشرين، حيث ولدت على يد بريطانيا المحتلة، وبمساهمة نخبة من عراقيين، مدنيين وعسكريين، معظمهم من أصول تركية وأحفاد المماليك والجيش الانكشاري، وخريجي المدارس العسكرية في الدولة العثمانية. وقد فرضت عليهم بريطانياً ملِكاً عربياً استوردته من الحجاز – هو الأمير فيصل بن الحسين- ورضي به العراقيون وخاصة قادة ثورة العشرين لثلاثة أسباب: الأول، لأنه فُرِضَ عليهم بإرادة أجنبية (الدولة المحتلة)، والثاني، لأنه من النسب العلوي وسلالة النبي محمد من جانب ابنته فاطمة الزهراء، وثالثاً، لأن كل واحد من قادة ثورة العشرين، وهم شيوخ عشائر عربية، كان يرى في نفسه هو الأولى من غيره بالمنصب، ويرفض أن يخضع لغيره من أقرانه الشيوخ ليكون ملكاً عليهم. ولما رشح السيد طالب النقيب نفسه للمُلك، تم نفيه إلى جزيرة هنغام الهندية،… ” (انتهى النص) .
يرى القارئ أن المعلومات المذكورة في هذه الفقرة المستلة من مقالي، هي حقائق تاريخية، ولو راجع المقال فلم يجد أني انتقد أو أبدي أية معارضة ضد رجال العهد الملكي، لأني مؤمن بأن في تلك الظروف “ما كان بالإمكان أفضل مما كان”، كما ولم أنتقد اختيار الأمير فيصل بن الحسين ملكاً على العراق، إذ قلت بالنص: ” لذا كان تنصيب الأمير فيصل هو الحل الصحيح والمقبول لدى غالبية العراقيين.” وكما بينت، ذكرت هذه المعلومات كحقائق،لأثبت فرضيتي (أن العراقيين لم يتفقوا على مشروع ما إلا إذا فرض عليهم من جهة قوية).
كذلك ذكرت في العديد من مقالاتي مناقب الملك فيصل الأول، وأنه أحب العراق وأراد حقاً أن يبني دولة ديمقراطية ليبرالية، ولكن لسوء حظ شعبنا أنه مات مبكراً وقبل أن ينجز مشروعه الديمقراطي، وعلى سبيل المثال، ذكرت في محاضرة قدمتها في ندوة ثورة 14 تموز في لندن عام 2009، ونشرتها فيما بعد كمقال، أجتزئ منها ما يلي:
((ولنكن منصفين… كانت بدايات تأسيس الدولة العراقية الحديثة واعدة بمستقبل زاهر، ويعود الفضل في ذلك بالدرجة الأولى إلى حكمة المرحوم الملك فيصل الأول… إذ كان يتمتع بذكاء فطري، وشخصية كارزماتية جذابة مؤثرة، فكان يحظى باحترام مختلف القيادات السياسية والدينية والعشائرية، وكان يلتقي بالمعارضة ويشرح لهم المصاعب التي تواجهها الدولة الفتية، ويعدهم بالاستجابة لمطالبهم وتحقيق طموحاتهم في الاستقلال الناجز وبمستقبل زاهر،…
((وكان الرجل متفهما مشاكل العراق، لخصها في مذكرة له وزعها على رجالات الحكم عام 1933، مبيناً فيها الصراعات بين مكونات الشعب، وعدم تجانسها، واقترح الحلول المطلوبة لتحويل هذه المكونات المتصارعة إلى شعب متجانس ومتماسك. وفعلاً سارت الأمور في عهده بسلام.. كان الصراع عنيفاً ليس بين أفراد النخبة الحاكمة والمعارضة الوطنية فحسب، بل وحتى بين رجال الحكم أنفسهم، وكان الملك فيصل الأول عبارة عن صمام أمان يجذب إليه القيادات المتنافرة، ويمنع الصدام فيما بينهم، محافظاً على تماسكهم الشكلي على الأقل. ولكن لسوء حظ الشعب العراقي أن الملك المؤسس توفي في عمر مبكر. ومنذ وفاته، لم ير العراق أي استقرار حتى هذه الساعة، إذ انفرط العقد بين قادة الكتل الحاكمة مثل ياسين الهاشمي ورشيد عالي الكيلاني، ونوري السعيد، وحكمت سليمان وغيرهم، فبدأت الصراعات الدموية فيما بينهم تظهر على السطح بعد وفاة الملك، فما أن يترأس الوزارة أحدهم حتى ويتآمر عليه الآخرون، فيحركون العشائر ضد حكومته في انتفاضات عشائرية مسلحة هنا وهناك مما تضطر الحكومة بمواجهتها بالقسوة المفرطة. وهذه المسائل مدونة في كتب تاريخ العراق الحديث ومذكرات أقطاب ذلك العهد.)) انتهى النص. (رجع: د.عبدالخالق حسين هل كانت ثورة 14 تموز حتمية؟ ).
فما الجديد مما يجري الآن حيث يتهمني الدكتور سيار الجميل بأني أكتب التاريخ بروح عدائية للعهد الملكي. فالآن، وبدلاً من تدبير انتفاضات عشائرية مسلحة ضد الحكومة، يلجأ منافسو رئيس الوزراء الحالي بإثارة الجماهير، مستغلين مشاكل نقص الخدمات والتي تقع مسؤوليتها على الجميع وليس على شخص واحد، مثل “انتفاضة الكهرباء” وغيرها. بل راح البعض منهم يهدد بتصعيد الإرهاب والحرب الطائفية إذا لم يكن هو على رأس الحكومة. لذا أقول: ما أشبه اليوم بالبارحة!!
كما وهناك تشابه بين ما حصل بعد ثورة 14 تموز 1958 من اتفاق الحكومات العربية وأعوانهم في الداخل بشكل مثير للعجب، في هذه الوحدة ضد العراق، والتي وصفها الأستاذ حسن العلوي بـ”فزعة عرب”، الفزعة التي تتكرر اليوم ضد العراق الجديد وتتركز لاغتيال المالكي، سياسياً إن لم أقل جسدياً، تماما كما عملوا ضد الزعيم الوطني الشهيد عبدالكريم قاسم. وفي هذه الأيام نسمع كثيراً من الذين يتذكرون الزعيم قاسم بخير، وكانوا في وقته من معارضيه الأشداء.
كذلك نلاحظ اليوم موجة الحنين إلى العهد الملكي، علماً بأن معظم الذين يحنون إلى ذلك العهد كانوا، هم أو آباؤهم، من أشد معارضيه، وبالأخص معارضتهم لنوري السعيد الذي اعتبروه في وقته رمزاً للشر المطلق، وهم ليسوا صادقين في هذا الحنين إذ كما قال حكيم: “نحن نحب الماضي لأنه ذهب، ولو عاد لكرهناه”
طبعاً لطاقم الملك دور إيجابي مهم في بناء الدولة، ومهما تعددت أصولهم، عراقية أو تركية، أو إنكشارية أو مماليك، ولم يكن قصدي التقليل من دورهم، وإنما لأثبت فرضيتي أن العراقيين لن يتفقوا على أمر إلا إذا فرض عليهم من جهة قوية، مثل الاحتلال البريطاني، أو قادة عسكريين يستلمون السلطة عن طريق الانقلابات، وأن الساسة العراقيين لأول مرة في التاريخ بعد سقوط النظام البعثي يتمتعون بحرية اختيار حكامهم في الوقت الحاضر، ولذلك لم يتفقوا على رأي موحد.
كما وأؤكد أني آخر من ينظر إلى العراقيين على أساس انتماءاتهم العرقية أو الدينية، إذ كما تفيد الحكمة: “كلنا من آدم وآدم من تراب”، ولأني أؤمن إيماناً مطلقاً بدولة المواطنة التي أدعو إليها، وأن العراقيين سواسية في الحقوق والواجبات وتكافؤ الفرص بغض النظر عن أحسابهم وأنسابهم إذ كما قال الشاعر:
كن ابن من شئت واكتسب أدباً……..يغنيك محموده عن النسب
إن الفتى من قال ها أنا ذا ………وليس الفتى من قال كان أبي
ولكن السؤال هو: لماذا اعتبر الأخ سيار قولي في انتساب البعض إلى التركية والانكشارية والمماليك سبة أو محط بالكرامة معاذ الله! إذ كما اعترف هو، أن حكمت سليمان مثلاً من أصل مملوكي، ولا أرى في ذلك عيباً.
كذلك ياسين الهاشمي، كان لقبه (حلمي) في العهد العثماني واسمه الكامل (ياسين حلمي) ويعتقد أنه من أصل تركي (سلجوقي)، ولكن بعد أن استقر في العراق في العهد الملكي ادعى أنه سيد، وتبنى لقب الهاشمي. (راجع كتاب بطاطو، النسخة الإنكليزية، ص 184). فليس كل من ادعى الانتساب للأشراف (السادة) صحيح، فصدام حسين أيضاً ادعى أنه ينتسب إلى الإمام جعفر الصادق. فهذه الادعاءات باتت معروفة ولغايات اجتماعية وسياسية في العراق. ونحن لا نريد أن ننبش في أصول هؤلاء الرجال، لولا تحدي الأخ سيار، وإنكاره لهذه الحقائق. فالعراق، وكما ذكر الأخ سيار، وبحكم موقعه الجغرافي اجتذب إليه مختلف الأقوام والأعراق، على شكل فاتحين، أو غزاة، أو هجرة، أو أسرى حروب، أو أطفال تم اختطافهم بطرق إجرامية في العهد العثماني من أقطار مسيحية مثل جورجيا وغيرها، وتربوا في مدارس داخلية، وكوِّنوا منهم رجال أشداء كفوئين للمناصب العسكرية والمدنية، وأطلقوا عليهم اسم المماليك…الخ، وقد حكموا العراق لثمانين سنة، آخرهم داود باشا، ثم قتلوا معظمهم في بغداد على يد الوالي علي رضا باشا، على طريقة محمد على باشا بتدبير مذبحة رهيبة ضدهم في مصر، ونفس الطريقة اتبعت في اسطنبول. والمفارقة أن الأخ سيار نفسه لا يعتبر الانتساب للانكشارية والمماليك سبة أو نقيصة، وأنا اتفق معه، إذ قال:
“سواء كان معظمهم أحفاد مماليك أو أولاد انكشارية، فالعراقيون متنوعون، وهم كلهم بشر
وحتى إن كان البعض من صلب المماليك الكوله مند أمثال حكمت سليمان، فلقد كان لأولئك الحكام المماليك دورهم الناصع في الدفاع عن العراق ضد هجومات إيران التوسعية في العراق منذ عهد حسن باشا وولده والي بغداد الشهير احمد باشا والحكام المماليك الذين أتوا من بعده!” (انتهى النص)
ألا يعني هذا أن الأخ سيار يتفق معي أن بعض حكام العهد الملكي كانوا من أحفاد المماليك، ولا ضير في ذلك؟ إذنْ، فلماذا هذه الثورة؟ وهل ذكرتُ ذلك من باب التنقيص؟ كلا، معاذ الله! ولكني في نفس الوقت أختلف معه في قوله: “فلقد كان لأولئك الحكام المماليك دورهم الناصع في الدفاع عن العراق ضد هجومات إيران التوسعية في العراق…”.
فمن يقرأ هذه الفقرة يعتقد أن المماليك كانوا يدافعون عن استقلال العراق وحرية شعبه “ضد هجومات إيران التوسعية”. بينما في الحقيقة أن المماليك كانوا يدافعون عن دولتهم الجائرة التي كانت ضمن الإمبراطورية العثمانية المحتلة التي أوصلت العراق إلى أحط درك في التخلف والإبادة، ففي منتصف القرن التاسع عشر بلغ سكان العراق إلى نحو نصف مليون نسمة أو أكثر بقليل بعد أن كان نحو 30 مليون في عهد الدولة العباسية كما تذكر كتب التاريخ. وهذا يعني أن الشعب العراقي كان على وشك الانقراض. فالاحتلال الاستعماري، وخاصة الاستيطاني منه، بغيض في جميع الأحوال، سواء كان تركياً عثمانياً، أو إيرانياً، فهاتان الدولتان اتخذتا من العراق ساحة لحروبهما الطاحنة، وعانى الشعب العراقي منهما المصائب إلى حد أن راح العراقيون يرددون القول: (بين العجم والروم بلوى ابتلينا). والمقصود بالروم الأتراك. فعن أي تاريخ ناصع تتحدث يا صديقي؟
لم يكن في مقالي ما يثير غضب الصديق لو قرأه بتركيز، وإذا كان هناك مبرر للرد، فكنت أتمنى عليه لو تناول الموضوع بروح من الموضوعية والأكاديمية، بعيداً عن الانفعالات الجياشة الغاضبة، وكيل الاتهامات الباطلة وروح التحريض.
كما وراح الأخ سيار يخلط الحابل بالنابل، وبأسلوب لا يخلو من مداهنة وتزلف للآخرين، فذكر عشرات الأسماء من الشخصيات الوطنية العراقية من كل أنحاء العراق، ومن مختلف الأعراق والأقوام والمذاهب، وبأسلوب تأليبي وتحريض كيدي، وكأنه يريد أن يقول لأبناء هؤلاء أن عبدالخالق يقول عنكم أنتم أولاد المماليك والانكشارية!!! فهبّوا ودافعوا عن أنفسكم ضد من يحمل روح العداء لكم وللعهد الملكي… وامعتصماه!!
لا يا أخي سيار، ما هكذا تساق الإبل، وما هكذا تؤكل الكتف، وما هكذا يتحاور الأصدقاء، خاصة إذا كان هؤلاء الأصدقاء محسوبين على شريحة المثقفين، فماذا نقول عن المساكين المحرومين من الثقافة؟ لقد استلمت العديد من الرسائل من الذين قرأوا مقالك فقالوا أنه كُتِبَ بروح تحريضية وكيدية، ويسألون: هل كان بينكما عداء سابق؟ فأجبتهم بالنفي طبعاً.
ولم يكتفِ الدكتور سيار بكل ذلك التحريض، بل يطالبني بإلحاح بذكر أسماء أحفاد الانكشارية والمماليك، ففي مكان آخر يقول: “وهنا أسألك: من كان من أحفاد المماليك أو كان من أولاد الانكشارية؟ حددّهم بالاسم”.
وهذا الطلب المستحيل يذكرني بنكتة تناقلت عبر الرسائل الإلكترونية، مفادها أن مدير شركة أعلن عن الحاجة لتعيين سكرتيرة له، فتقدمت سيدتان للوظيفة، إحداهما جميلة والثانية دميمة. وعند المقابلة، قال المدير لهما: نحن في هذه الشركة لا نهتم بالمظاهر وإنما بالكفاءة فقط! ثم وجه السؤل الأول إلى المرأة الجميلة: “ما اسم البلد العربي الذي يقع في شمال أفريقيا ودفع شعبه مليون شهيد في حربه ضد الاستعمار الفرنسي؟” فأجابت: الجزائر. فأثنى عليها وعلى ذكائها، ثم توجه إلى الدميمة قائلاً: اذكري لنا أسماء المليون شهيد!!! نعم، عزيز القارئ، شر البلية ما يضحك!!
على أي حال، كنت أتمنى على الدكتور سيار الذي تأثر كثيراً بمجرد إشارة عابرة وردت في مقالي عن المماليك والإنكشارية، والتي أثارت عنده كل هذا الغضب، وراح يدافع عنهم بهذا الحماس متهماً إياي بالطعن بهذه الشخصيات الوطنية، وأني أكتب التاريخ “بروح عدائية”، أقول كنت أتمنى عليه لو كان قد انبرى ولو مرة واحدة في الرد على البعثيين الذين طعنوا بوطنية وعراقية نحو 60% من الشعب العراقي ولأسباب طائفية بحتة، حيث نعتوهم بالعجمة، و”الفرس المجوس”، و”الشيعة الصفوية”، و”أحفاد العلقمي”، بل وأنكروا عليهم حتى انتسابهم إلى عشائرهم العربية، فادعوا أن سكان الجنوب ليسوا عراقيين، بل جلبهم محمد القاسم مع الجواميس من الهند!! فهل هناك محاولة للحط من كرامة العراقيين أكثر من ذلك؟؟ راجع سلسلة مقالات جريدة الثورة بعنوان (لماذا حصل ما حصل) وغيرها من المقالات العدائية التي تنفث السم الزعاف لتسميم عقول الجيل الحالي والأجيال القادمة، ولحد هذه اللحظة ينشرها بعثيون ملثمون بأسماء مستعارة. أقول كنت أتمنى على الصديق ولو مرة واحدة حاول الرد على تخرصات هؤلاء، ولكنه ثار وهاج وماج من مقال لمجرد جاء فيه ذكر المماليك والانكشارية بشكل عابر ودون أي قصد سلبي، وهو صحيح.
حول زيارتي إلى بغداد
قال الصديق سيار في بداية مقاله عني: “وقد مضى كعادته في الدفاع عن رئيس وزراء العراق الحالي.. لو اعتنى الدكتور عبد الخالق مذ ذهب الى العراق وعاد منه بالدفاع عن العراقيين شعبا وواقعا، بدل الدفاع عن اشخاص معينيين بالاسم”.
ليس الدكتور سيار وحده يغمز ويلمز أني أدافع عن رئيس الوزراء الحالي مذ ذهابي إلى العراق في نهاية العام الماضي، بل هناك العديد من الناس، مع الأسف، رددوا هذه الخرافة وبتكرار ممل وكأنها حقائق ثابتة، لم يكن عندهم أي استعداد لتصديق خلافها ومهما قدمت لهم من براهين.
لا أفشي سراً إذا قلت أن الصديق سيار كان من ضمن الذين وجهت لهم الدعوة للملتقى الفكري، والذي نظمته وزارة المصالحة الوطنية التي هي من حصة الائتلاف الوطني (الخصم اللدود لرئيس الوزراء الحالي) وليس من حزب الدعوة أو “دولة القانون”. ولحد علمي أن الصديق سيار رحب بالدعوة في أول الأمر، وتحمس للحضور والمشاركة، وقدم جملة من الاقتراحات الجيدة التي فرح لها منظمو الملتقي لتفعيله، ومنها جعله سنوياً. ولكن في اللحظات الأخيرة ولسبب غير معروف قرر عدم الحضور. ولو كان قد حضر لوفر عليَّ الكثير من هذه الأقاويل والظنون الباطلة بأني مذ ذهابي إلى العراق صرت أدافع عن رئيس الوزراء الحالي…
كما وهناك حقيقة يجب أن تذكر، أن السيد وزير المصالحة الوطنية، الأستاذ أكرم الحكيم، أدار جميع جلسات الملتقي بنفسه ولمدة يومين، وبمنتهى الكفاءة وبروح حيادية عالية. وانطباعي عنه أنه رغم تدينه ومن الائتلاف الوطني، إلا إنه، علماني ديمقراطي لا يرى أي تناقض بين التدين والعلمانية الديمقراطية. ولم يحاول أحد جرنا إلى أية جهة أو تغيير مواقفنا وقناعاتنا السياسية.
وفيما يخص موقفي مما يجري في العراق من صراع بين الكتل السياسية، و”انحيازي” إلى رئيس الوزراء الحالي، أؤكد أنه ناتج ليس بتأثير أية جهة، أو زيارتي القصيرة (ثلاثة أيام فقط) التي قمت بها إلى بغداد في العام الماضي، بل لقناعتي الشخصية، بأن في ظل الظروف الراهنة حيث انحسار التيار الديمقراطي الليبرالي، والاستقطاب الطائفي والأثني، أن وضع العراق لا يتحمل المزيد من الديماغوجية والغوغائية، والمطالبات الطوباوية، والتمنيات غير الواقعية. وهذا التأخير في تشكيل الحكومة ليس بسبب تمسك السيد المالكي بالمنصب كما يدعون، إذ ليس من الديمقراطية بشيء مطالبته بسحب ترشيحه بحجة أنه غير مرغوب به من قبل الأغلبية، فإذا كان حقاً غير مرغوب به فهذا في صالح منافسيه، فلماذا الخوف من بقائه في السباق إذنْ؟ لماذا لا تتركون الحكم للبرلمان؟ وهل انتهى البرلمان من اختيار رئيس ونائبين له، واختيار رئيس الجمهورية الجديد، كما هو مطلوب في الدستور؟ وهل بإمكان رئيس الوزراء الحالي أو أي شخص آخر منع البرلمان من عقد جلساته وتنفيذ مهماته؟ الجواب على كل هذه الأسئلة، ألف كلا. ولهذه الأسباب أرى أن من واجبي كمثقف وبدافع الضمير، وفهمي للوضع المعقد، أن أوضح الحقيقة للرأي العام، ولا أركض مع القطيع في تضليله، وأن السيد نوري المالكي هو متمسك بالدستور أكثر من غيره.
كذلك حاول، ومازال، كثيرون تضليل الرأي العام العراقي والعربي بأن الصراع الطائفي والعرقي بين مكونات الشعب العراقي لم يعرفه العراقيون من قبل، بل جلبه الأمريكان بعد إسقاطهم حكم البعث. وقد فندت ذلك مئات المرات في مقالاتي، وأخيراً والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، أجاب الكاتب والصحفي المعروف، الأستاذ إبراهيم الزبيدي على هذه التخرصات مشكوراً، وهو ليس من أحفاد العلقمي، ولا شيعي، ولا شيوعي، ولا شروكي، بل هو عراقي عربي مسلم سني، وبعثي سابق، قال بحق:
“ولا شك في أن كثيراً من مصائب العراق، منذ سقوط النظام وإلى اليوم، هي حصادُ ما كان عاكفا على زرْعه في عشرات السنين. وزيفٌ كاملٌ أن يدعيَ بعضُ زملائنا الكتاب اليوم بأن التفرقة الطائفية والعنصرية ولدت بعد سقوط نظام صدام، وأنها لم تكن موجودة قبل ذلك. بـَلا. هي كانت هناك، حتى في ولادة الدولة العراقية عام 1921. فقد كان العرب يتعالون على الكرد وعلى التركمان، والسنة يتعالون على الشيعة، والشيعة يتعالون على السنة، والمسلمون يتعالون على المسيحيين، والحقد يتمشى في عروق الجميع، لكنْ خلف أستار من الرياء والزيف والنفاق. لم تكن الشراكة في المواطنة عادلة، في يوم من الأيام، بين مكونات ما يسمى اليوم بـ (الشعب العراقي). كان دائما هناك ظالم ومظلوم، ساجن ومسجون، سارق ومسروق، قاتل ومقتول.” (إبراهيم الزبيدي، حديث الجمهوريات العراقية المتحدة الثلاث، إيلاف، 9/8/2010). والسؤال الذي أود توجيهه إلى الصديق سيار، هل السيد إبراهيم الزبيدي كتب هذا الكلام بروح عدائية حاقدة؟
وختاماً، أتمنى أن أكون قد أوضحت قصدي في مقالي السابق، وأن الغرض من مراجعة التاريخ هو أخذ الدروس والعبر، وليس بغرض التأليب والتحريض على طريقة “فزعة عرب”، فهذه الطريقة فاشلة ومردودها كارثة على شعبنا كما حصل في انقلاب 8 شباط 1963، وما تلاه من كوارث. ألا هل من مجيب؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العنوان الإلكتروني للكاتب: Abdulkhaliq.Hussein@btinternet.com
الموقع الشخصي للكاتب: http://www.abdulkhaliqhussein.com/