“إن في تعذر الفهم نوعاً من المجد”
الشاعر الفرنسي
“شارل بودلير” 1821-1867
ذكرى لرجل خشن مبتل
الشرح
لم أعد أكتب النصوص بتروٍ
أسجل اسمي بقائمة القلق
أتفقد النوافذ فجرا ، وأحصي عدد الدمعات في نصٍّ مرتبك…. مثل مضة خرقاء
تباً للأفكار نسيتُ آخر ما جاء المذياع ، لأعاود مراقبة الإذاعة الوطنية…
أستمع لكلِّ الإنكسارات ، وصوت الجوع الوطني
ألملم سبايا الكلمات وأخفي المعنى ، يشاطرني الرأي جاري بوجع الأنواء الجوية و الابتهال لسراق تحت التدريب
أصمت وأقرأ بعض الشكّ عند ” ديكارت “
منذ ثلاث ربما أربع سنوات
تلاشت فكرة عدّ الحوريات، وعدد أحرف العلّة والثياب المنشورة على الحبل الوطني، أصبحت
ساكنا
وديعا
أستمع لموسيقى جديدة
أتابع كركرة الأطفال، أراقب من بعيد وجوه النساء وأسقي نبتة عصية في دار للايجار ،
منذ ثلاثة أو أربعة أشهر ظهر ضوء في غرفتي الطينية،
أغمضت عينيّ ،
دخل رأسي بفكرةِ توسعة طينِها لكن ، سقط الجدار ،
سقطتُ من الفرح
لا أعرف لماذا
كان ذلك وقت…. المغرب
لا يهم إذ كان يوم… أربعاء
يبدو أني أصرّ على التفاصيل، وهذا يرهق النصّ ،
اعذروني لقد التقطت للضوء صورة
الضوء يحمل حقيبة بها
ثلاثة أو أربعة كتب قرأت عناوينها ، أحدهم كلّ ما مدونٌ فيه يربكني
والثاني
أحبّك حين تموت
لم أستطع قراءة العناوين الأخرى ، فقط نصف عنوان لكتاب آخر ،
الغيرة شجرة تنمو… ولا أعرف تتمته
لا أخبر أحداً ماذا أفعل غدا ،
لا أريد أن يشاركني احد بجدوي الوداعة والسفر للنجوم وشرفة بيتي الطين ،
—
الأسلوب الشعري للنص السريالي المعاصر من أكثر الأساليب الفنية التي تشكل صور الواقع المتداخلة والمثيرة للجدل، وفق تصورات غرائبية. وهذا الأسلوب عبارة عن رحلة حلم في ظل سوداوية الواقع الموغل في التشاؤم.
والنص الشعري المعاصر، يعكس الصورة الحقيقية للشاعر، لأنه يجسد ثقافة الشاعر، فيكون بمثابة همزة الوصل التي تربط ما بين ثقافة الشاعر وذائقة المتلقي. واليوم نجد هناك تفاوت كبير بين ثقافة الشاعر وذائقة المتلقي، خصوصاً ونحن نطالع يومياً كم هائل من النصوص، فيها الجيد والرديء الذي لا يرقى إلى النص الشعري المبدع.
ورب سائل يسأل، فما جدوى ان تكتب هذه الطلاسم، تحت عنوان اللافتة السريالية؟.
إن المتغير الأهم في النص الحديث هو (إملاءات اللاوعي في غياب الوعي)، فنحن أمام نصوص حديثة مختلفة عن مألوف لغة النص الشعري التقليدي، وهذا الأختلاف ناشئ عن دوافع لاشعورية، وغموض شعري مبهم، يعتمد تكثيف وتفكيك البنية اللغوية للنص، مع تداخل الصور الشعرية التي رسمتها مخيلة الشاعر، دون ان يصل بها إلى المتلقي، الذي يحاول جاهداً أن يدخل الى النص من باب التأويل، ويكفي الشاعر أن يقول: (إن في تعذر الفهم نوعاً من المجد) “فولتير”.
فلاشك أن الشعر العربي في ظل الحداثة الشعرية المعاصرة، يخوض صراع بين الغموض والمعنى، حتى أنتقل في صراعه هذا من مستوى الغموض إلى مستوى الإبهام والعبثية. فالنص الحداثي لفه الغموض الكثيف، وأوجد حاجزاً لا يمكن أن يخترق بسهولة من قبل القارئ ويصل الى ما يقصده الشاعر.
نرى عند بعض شعراء قصيدة النثر خاصة، تجاوز لظاهرة الغموض إلى حالة الإبهام والتعمية، التي أحدثت حالة من الارباك بين المعنى واللامعنى، والوعي واللاوعي.
الشاعر ”جواد الشلال” شاعر حداثي قد يحمل هوية أنتمائه للمنهج السريالي، من خلال مواكبته للواقع والنبش في أحداثه، وجودياً ونفسياً وفكرياً. نصوصه مزيج من الرمزية الغرائبية والتجريدية، والتصوير السريالي الذي (يهدف إلى البعد عن الحقيقة وإطلاق الأفكار المكبوتة والتصورات الخيالية)، فيحول نصه المليئ بالرموز والإشارات والإيماءات التي لا تنكشف مدلولاتها بسهولة، إلى نص فانتازي لا يخضع لأي منطق سوى منطق اللاوعي، في تكوين الصورة الشعرية الذهنية ذات الطابع التجريدي، الذي يتسم بنائه بنزعة سريالية تتميز بالتركيز على كل ما هو غريب ولا شعوري. فهو أقرب إلى اللاوعي منه إلى الوعي، تراه – الشاعر- يجنح الى الأسلوب السريالي المتسم بالغموض في صياغة نصوصه. فيمارس عملية هدم في مختلف جوانب النص، ومعارضاً لكل ما هو منطقي وعقلي، رافضاً للواقع الذي يستدعي اللاوعي في التعامل معه. باحثاً عن قارئ متذوق يدخل من باب التأويل في تفكيك مدلولات النص وسبر أغواره والبحث في جمالياته، وأستنطاق دلالاته من أجل فهمه. ولعل هنا نرى إن القراءة التأويلية ترتقي بوعي القارئ، فتكون الأنسب في فك غموض النص الحديث.
إن المتتبع لتجربة الشاعر “جواد الشلال”، سوف يطلع على تجربة تستند الى مرجعية شعرية تجذرت في نتاجه الشعري، فيها الكثير من التصورات الفنية والفكرية السريالية، وله القدرة على الخوض في مضمار الحداثة الشعرية. فيمكن أن نضع نص الشاعر “جواد الشلال” في خانة الشعر السريالي بالمفهوم العام للكلمة، كنموذج لهذه الظاهرة، أضافة الى نصوصه الاخرى، من خلال أستعارته للخيال السريالي في أستدعاء اللاوعي في التعامل مع الواقع، والتعبير عن هواجسه وهمومه، وأنتاج صور مغايرة للواقع دون أن يبتعد عنه.
(لم أعد أكتب النصوص بتروٍ
أسجل اسمي بقائمة القلق
أتفقد النوافذ فجرا ، وأحصي عدد الدمعات في نصٍّ مرتبك…. مثل ومضة خرقاء)
سمات النص الشعري لدى الشاعر “جواد الشلال” هو سيطرة حالة الأرباك والتأرجح بين المعنى واللامعنى، والسعي لتحرير ذاته من الأشياء المألوفة، والتمرد على الواقع المبتذل.
(تباً للأفكار نسيتُ آخر ما جاء بالمذياع ، لأعاود مراقبة الإذاعة الوطنية…
أستمع لكلِّ الإنكسارات ، وصوت الجوع الوطني
ألملم سبايا الكلمات وأخفي المعنى ، يشاطرني الرأي جاري بوجع الأنواء الجوية و الابتهال لسراق تحت التدريب)
الشاعر “جواد الشلال” جعل مجمل نصه مليئ بالجمل الشعرية التي تخلو من الرابط اللغوي والدلالي عند المتلقي، وكأنها بلا رؤية شعرية أو هي (وخزات اللاوعي)، بل هي حسب التفسير الفرويدوي الشائع (هلوسة) بمعنى ( بروز الأماني والأفكار والرغبات من العقل اللاواعي على صفحة الوعي). فهو يختزل الجملة الشعرية إلى أقصى حدودها، مما أدى به إلى المبالغة في التعقيد اللغوي.
(أصمت وأقرأ بعض الشكّ عند
” ديكارت “
منذ ثلاث ربما أربع سنوات
تلاشت فكرة عدّ الحوريات، وعدد أحرف العلّة والثياب المنشورة على الحبل الوطني، أصبحت
ساكنا
وديعا
أستمع لموسيقى جديدة
أتابع كركرة الأطفال، أراقب من بعيد وجوه النساء وأسقي نبتة عصية في دار للايجار )
لهذا نجد نصوص الشاعر “جواد الشلال” تعبر عن تجارب لا شعورية، مثقلة بالرموز التي ليس لها مدلولات ثابتة، ومفتوحة على تأويلات، فالشعر عنده صادر عن رؤية وجودية ووسيلة يستكشف بها ذاته وأعماقه اللا شعورية. لذلك قد لا نصل في بعض النصوص الى فهم محدد لما يقصده، نتيجة الضبابية المكثفة والغموض الذي يصل إلى حد الإبهام، فهو يركز على مفردات غير مألوفة في سياقها وتراكيبها، يتخطى بها الرمزية. ويلتقي فلسفياً بالأفكار ذات المنحى السريالي، الذي (لا ينطلق من فكرة واضحة محددة، بل من حالة لا يعرفها هو نفسه معرفة دقيقة)، “أدونيس، مجلة شعر ، عدد 43 ، ص 72، 73”.
أن أغلب نصوص الشاعر “جواد الشلال” تعتمد الإيحاءات النفسية والأفكار اللاشعورية، مفتوحة على اللاوعي الذي هو الإلهام الحقيقي الذي يصل به إلى مرحلة التجريد. فتراه يجنح إلى (الهلوسة) في التلاعب بالدلالات، والخروج عن المكرور المتداول في التراكيب اللغوية، كوسيلة للتوغل في أعماق ذاته.
(منذ ثلاثة أو أربعة أشهر ظهر ضوء في غرفتي الطينية،
أغمضت عينيّ ،
دخل رأسي بفكرةِ توسعة طينِها لكن ، سقط الجدار ،
سقطتُ من الفرح
لا أعرف لماذا
كان ذلك وقت…. المغرب
لا يهم إذ كان يوم… أربعاء
يبدو أني أصرّ على التفاصيل، وهذا يرهق النصّ ،
اعذروني لقد التقطت للضوء صورة)
فنراه يبدع نصوصه الشعرية بدوافع لاشعورية وكأنها مجموعة من الهلوسات والهذيان الشعري، الوارد من مخيلته، لا يعبر فيها عن أي أهتمام بقواعد المنطق أو اللغة، مما أدى به الى إغراق نصوصه بالتعقيد والضبابية. وبالرغم من ذلك، فإنها لا تمثل نصوص عبثية بقدر ما تمثل متبنيات موضوعية لأفكاره وأنفعالاته وتجاربه.
(الضوء يحمل حقيبة بها
ثلاثة أو أربعة كتب قرأت عناوينها ، أحدهم كلّ ما مدونٌ فيه يربكني
والثاني
أحبّك حين تموت
لم أستطع قراءة العناوين الأخرى ، فقط نصف عنوان لكتاب آخر ،
الغيرة شجرة تنمو… ولا أعرف تتمته)
إن الشاعر أي شاعر لا يحس بأي غموض في نصه الشعري ألا بعد الأنتهاء منه، وهو يقول (أن القصيدة أصبحت غامضة أكثر ممَّا كانت)، صبحي البياتي، البحث عن ينابيع الشعر والرؤيا، ص50. فالشاعر “جواد الشلال” يجيد أختيار المفردة، وفن صياغة الجملة، وقوة التركيب اللغوي، فله خيال واسع، ينفذ من خلاله الى القارئ، يعتمد في نصه على بنية لغوية قوامها البساطة في اللفظ، وتعقيداً في المعنى، مع الأبتعاد عن التقريرية والمباشرة والتصوير البلاغي، فنرى مكونات نصه تنزلق من دلالة إلى أخرى، بما يختزنه من صور شعرية غرائبية تبعث على الدهشة، تقفز على الواقع في حالة غياب عن الوعي.
(لا أخبر أحداً ماذا أفعل غدا ،
لا أريد أن يشاركني احد بجدوي الوداعة والسفر للنجوم وشرفة بيتي الطين)
وهذا ماهية الشعر الذي عبر عنه الشاعر الفرنسي “شارل بودلير” بأنه (تجاوزاً للواقع العيني، وهو ليس حقيقة كاملة سوى ضمن عالم مغاير وأخروي)، يرتبط بإلاثارة النفسية والدهشة، فيعبر الشاعر عن قلقه النفسي الذي هو سمت العصر الحديث.