في كل بقاع الأرض، للأثر التاريخي حرمته ومكانته في النفوس ، والمدينة الأثرية تُعتبر محطّة سياحية مهمّة جداً ، يؤمّها السيّاح من كل حدبٍ وصوب ، ليطّلعوا على معالمها وما سجّله الأولون على صفحات الزمن من أثر ، كما وإنها موردٌ اقتصادي مهم جدا إذا استثمرت بالشكل الصحيح ، وبما يعطيها مكانتها الحقيقية التي تستحقّها لما لها من أثر في خيالات الناس وذاكرتهم يصل إلى القدسية أحياناً ، من هذه المدن ، بل أقدمها وأهمّها مدينة بابل ، أو بابئيل كما يطلق عليها سابقا ، بمعنى بوّابة الآلهة ، حيث الجنائن المعلّقة إحدى عجائب الدنيا السبع وأسدها الرابض بكلّ هيبته راسماً للناس مشهد القوّة والجبروت الذي كانت تتمتع بها الدولة البابلية آنذاك مع بوّابة عشتار التي ما تزال تدهش الناس بمعماريتها وما إلى ذلك من آثار ذكرها ويذكرها المؤرّخون والكتّاب منذ خمسة آلاف سنة والى هذه اللحظة !!
هذه المدينة الآن ــ أقصد المحافظة بشكل عام ــ تعاني الإهمال والخراب حدّ الرثاء لها ، زرتها قبل أيام للإشراف على انتخابات اتحاد أدبائها فوجدتها لم تتغير عمرانياً ، بل صارت أسوأ من قبل ، لا مشاريع عمرانية حقيقية ،لا شوارع جيدة ، بل مطبّات وتكسّرات وتخسّفات وأوحال ، والتراب يغطي الجزء الأكبر منها ، إضافة إلى الزبالة والقمامة في بعضها ، وكأنني دخلت مدينة منسيّة منذ قرون ، رغم إنها معلمٌ سياحيّ كبير كما أسلفنا لكنّها غير مستغلّة في هذا الجانب تماما ، لا وجود للبنى التحتية التي تشكّل عصباً مهماً في السياحة كالفنادق الحديثة وغيرها !
سيقول قائل :ـ هناك مولات وقاعات للأعراس حديثة وكافيهات ، أجيبه :ــ نعم لكنّها غير معنية بتشجيع السياحة وجذب الزائرين !
عندها تذكّرت زيارتنا إلى المملكة السعودية عام 2009 كوفد ثقافي ،حيث أطلعونا على بناهم التحتية للثقافة من قاعات عروض سينمائية ومسرحية وقبة فلكية، منها مسرح في الرياض يسع (3000) مشاهد بني بطريقة حديثة، فخشبته تتكون آلياً من أكثر من ديكور ( للعرض المسرحي ، للشعر، للمؤتمرات الأخرى ، وللسينما) كلها تتحرك آليا، تختفي واحدة وتظهر أخرى حسب نوع النشاط الثقافي. ومثله كان في جدة وآخر في مدينة ثالثة، رغم أن السعودية لا تمتلك من المواهب الإبداعية في المجالات الفنية مثلما يمتلك مبدعونا ، وفي بابل أسماء مبدعة في جميع المجالات !
كل مدننا تحتاج إلى بنى تحتية تليق بها ، فالعمق التاريخي والحضاري والمستوى الثقافي العالي الذي يمتلكه المبدعون العراقيون يحتاج إلى التفكير الجدي والعميق والشعور الحقيقي بالمسؤولية التاريخية للقيام بتهيئة بنى تحتية وبالمستوى المطلوب.
نعم، ونحتاج الى مسارح حديثة وقاعات للمعارض التشكيلية ( غاليريات) و للموسيقى ( أوبرا) وللمهرجانات الشعرية وغيرها، و معارض للكتب بشكل دائم ، لتجذب السيّاح ومحبّي الثقافة من كلّ مكان !
ومثلما نحتاج الى مؤسسات صحية وتربوية وخدمية وغيرها ، كذلك نحتاج الى بنى تحتية للثقافة والفنون والآداب ايضاً، لأنها مدونة وذاكرة التاريخ والحضارة التي ستبقى ماثلة للعيان أبد الدهر ، لكن إذا بقيت مدننا على هذا الحال ستكون خربة لا يؤمّها غير البوم والغراب والسائبة من الدواب وسيصيبها التصحّر والجفاف والموت حتماً !!