“و رغم أن عزيز العظمة ـ و هو شريك المسيري في تأليف الكتاب ـ لا يستخدم صورة الدوائر الثلاث، إلا أنه من الواضح مدرك تماما لضيق التعريفات الجزئية، و لذا ففي تعريفه يتبع استراتيجية تعريفية لا تختلف كثيرا عن استراتيجية عبد السلام سيد أحمد و إن كانت أكثر تفصيلية و عمقا و تحددا، فيعرّف ما يسميه ((وجه العلمانية السياسي)) بأنه ((عزل الدين عن السياسة)) و أنه ((الاستقلال النسبي للمجتمع المدني عن التحكم الرسمي به و بحياته و معاملاته و مبادلاته وفقا لمباديء الأكثرية و عقائده و شرائعه، مما يعني المساواة بين المواطنين جميعا أمام القانون، بغضّ النظر عن انتماءاتهم الدينية أو المذهبية أو الطائفية أو الإثنية، كما تعني صياغة حرية الضمير و المعتقد للجميع!)) (يشير عزيز العظمة إلى ما يسميه ((وجه العلمانية المؤسسي)) و هو ((اعتبار المؤسسة الدّينية مؤسسة خاصة كالأندية و المحافل))، و يمكن أن تنضوي هذه تحت وجه العلمانية السياسي)” ـ العلمانية تحت المجهر ـ ص 72
دعوني أخرج من إطار القوالب الفكرية التي أوقع الطرفان هنا نفسيهما فيها، و هو أن تكون العلمانية غير قادرة على الاختيار و بالتالي تكون كـ”الدين” المتعارف عليه تقليديا، إما داخل السياق الكلي للأفكار أو خارج هذا السياق، بمعنى أن على العلمانية أن تجيب على الأسئلة المصيرية للإنسان، و هي “من خلقنا”؟ “لماذا خلقنا” و “إلى أين سنذهب”؟؟ و هي أسئلة بالتأكيد لا تدخل ضمن مجال العلمانية التي تنحصر قطعا في الآليات الزمنية لحياة الإنسان و إذا ما اتصلت بطريقة ما بالشأن الدّيني أو تدخّلت فيه بوسيلة أو بأخرى فإن ذلك لا يعني قطعا أنها تحاول الإجابة على تلك الأسئلة الكبرى بقدر ما تحاول فعلا أن تتيح للإنسان حرية التفكير و التعبير عن مواقفه في الحياة في الرد أو الحصول على أجوبة بشأن الأسئلة الكبرى و الصغرى على حد سواء، و إذ لا يمكن لآلة أو مهنة أو اختصاص أن يقوم بدور الآخر، فلا يمكن لعلم الطب أن يبني المنازل و يمكنه أن يبني الأبدان و العكس صحيح مع علم الهندسة، و كما لا يمكن للعلمانية أن تتدخل في الشؤون الروحية للأفراد و حتى الجماعات ـ إلا إذا تطاول الدين على الحريات ـ كذلك لا يمكن للدين و هو ذلك المطلق أن يتحكم في العناصر الزمنية المتعلقة بالحرية و حقوق الأفراد إلا من خلال الأساليب السلمية المتاحة عبر الحرية و هي الإقناع و التنافس الطبيعي للأفكار.
يضيف الدكتور عبدالوهاب المسيري:
“و لكن، كما يقول الدكتور مراد وهبة، كل هذه عبارة عن معلول لعلة، أي أنه تبدّ (أي تجلي) لمنظومة فلسفية كامنة وراء كل هذه الإجراءات و المفاهيم، و لحسن حظنا لا يتركنا العظمة مع عالم المعلولات المنحصر في نطاق الدائرة الصغيرة، الذي قد يعني انحسار الدين، و لكنه لا يعني التصدي لقضية الإيمان و المرجعية الفلسفية و المعرفية النهائية للمجتمع، بل نجده يوسع من نطاق تعريفه فيتحرك في مجال أوسع من وجه العلمانية السياسي، فيتحدث عما يسميه ((وجه العلمانية المعرفي)) و يصفه بأنه ((نفي الأسباب الخارقة عن الظواهر الطبيعية و التاريخية))، و هو ما يعني الاكتفاء بالأسباب المحسوسة المادية و قوانين الحركة، كل هذا يعني الإيمان بـ((دنيوية هذا الواقع، و حركيته و تحولاته))، أي ماديته الكاملة (مرجعيته المادّية).” ـ العلمانية تحت المجهر ـ ص 73
إن التطرف من قبل كلا الطرفين ـ خصوصا المعادين للعلمانية ـ هو الذي أدّى بالنهاية إلى إفشال المشروع العلماني في العالم الإسلامي و الذي ينطق ثقافيا بالعربية على وجه التحديد، و ليتخيل معنا أعداء العلمانية و المسيريون عالمنا الإسلامي بـ”مرجعيته الكامنة الإيمانية”!! و هو يتعامل مع كل حدث كوني من خلال هذه “العقيدة الدينية” لتتحول الأنواء الجوية و الأخبار و القرارات إلى هوس خرافي، حينها قد نسمع نشرة الأخبار تذيع “اليوم ضربت عاصفة إلهية مدينة القاهرة و أهلكت بإذن الله تعالى إثني عشرة شخصا قيل أنهم ماتوا نتيجة الغضب الإلهي” و خبرا آخر مفاده: قرر أمير المؤمنين و بتوفيق الله و بعد رؤيته للنبي في المنام ليلة أمس أن يضيف دينارا على الراتب الشهري للرعية” و خبرا آخر: “أسقط الله ليلة أمس طائرة للكفار الإنكليز و مات على متنها مائة عدو من أعداء الله..”!! و ليتخيل القاريء نوعية المتلقي الذي سينطبع بهذه العقلية، الأكيد أن حربا أهلية ستقوم في دولنا الإسلامية لأن الشعب سينقسم إلى “مؤمن و كافر” و “دار إسلام مواجهة لدار الكفر”، و لن يكون للفصل الشكلي بين السلطات و الذي أقره المسيري إلا فصلا ساذجا كالذي يقوم بين الإنتحاري و الذبّــاح و الجلاد في الحكومة الدينية “الإسلامية” التي ستهيمن على كل شيء.
يضيف المسيري:
“و انطلاقا من هذا يرى العظمة أن العلمانية تؤكد ((أولوية اللا نهائية))، أي اعتبار حركة المجتمع حركة مستمرة لا نهايات و لا غائيات لها، ((حركة منفتحة أبدا على التحول))، و لذا فهو لا يرفض الرؤى الغيبية فحسب، و إنما يرفض أيضا ((الرؤى الماهوية))، أي أنه ينكر وجود الماهيات و الثوابت و الكليات و الغائيات، و هذا يعني أنه قفز قفزة واسعة للغاية إلى عالم ما بعد الحداثة، إن المنطق الدّاخلي لأطروحته و تضميناتها الفلسفية ينطوي على رفض للتعريفات التي تمكث داخل نطاق الدائرة الصغيرة لا تتعداها، مثل تعريفات خلف الله، و حسين أمين، و فؤاد زكريا، و محمود أمين العالم.” ـ المصدر ص 73
لا أريد ها هنا أن أدافع عن كل المنظـّرين العلمانيين، فقد لا أوافقهم على بعض استنتاجاتهم و ربّما اعتبرها “نقيضا” للعلمانية ـ كالشيوعية التي اعتبرناها دينا بلا إله و لا أدري إن كان هناك من سبقنا إلى هذا الاستنتاج ـ و لكن المسيري و معسكره لا يستوعبون أو أنهم لا يريدون إستيعاب فكرة “العقل الحر”، و أن الإلحاد له الحق في التعبير عن نفسه كأي فكرة أخرى، فعلى سبيل المثال ينظر المتدينون إلى “نيتشه” ـ الفيلسوف المعروف ـ نظرة كراهية و خصوصا بسبب عبارته المشهورة عن “موت الإله”، فإعلان موت الإله تبدو لنا جميعا كأناس نحظى بثقافة سطحية، كلمة إلحادية تعلن و بصراحة “موت الإله” و هو ذلك العنصر الذي يوحد غالبية الأديان، لكن ماكس فيبر يرى أن “نيتشه” هو مؤمن لا يختلف عن غيره، و أنه أعلن “موت الإله الخرافي” و ولادة الإله الحقيقي الذي يظهر بوضوح في حركات و قوانين هذا الكون المتناسق و الفريد، إن المسيري لا يختلف مطلقا عن عزيز العظمة من ناحية تبسيطه التعريفات إلى حدّ أن تصبح التعريفات مجرد مصطلحات و تعريفات “إنتقائية” و مزاجية، و النتيجة أن الباحث ـ في كلا النمطين ـ يخلص إلى النتيجة الـّتي يريدها هو لا كما هي الحقيقة الموضوعية الواقعية، و لأن الواقعية المطلقة غير ممكنة أو مستحيلة، فإن الحرية التي تتوفر في ظل العلمانية هي القادرة على تقريب الصورة الواقعية إلى المجتمع ككل.
يضيف المسيري:
“ثم يتحدث عزيز العظمة عما يسميه ((وجه العلمانية الأخلاقي)) (أي أنه يتحرك من المجال الفلسفي المجرد إلى المجال المجتمعي المتعين) و سنجد المادية و الحركية و السيولة نفسها، فجوهر المنظومة الأخلاقية العلمانية ـ من وجهة نظره (يقصد المسيري الدكتور العظمة) ـ هو عدم ربط الأخلاق بالثوابت، و إنما ربطها بالتاريخ و الزمن (المعطى الزمني المادي المباشر ـ الأمر الواقع ـ الظروف الموضوعية)، لكن العظمة يتحدث ـ مع هذا ـ بعد ذلك عن ربط الأخلاق و الوازع بالضمير بدلا من الإلزام و الترهيب بعقاب الآخرة، و من حقنا هنا أن نسأل ـ نحن الّذين سمعناه يتحدث عن التاريخ و الزمن باعتبارهما مصدر الأخلاق ـ من حقنا أن نتساءل عن ماهية هذا الضمير، و هل هو أيضا خاضع للزمان و التاريخ، أم مستقل عنهما..” ـ المصدر السابق ص 74
إن الإنسان هو كائن متغير، و الدين نفسه ـ و هو ما ينطبق على كل الأديان ـ ظاهرة مرتبطة بالتاريخ و يشهد تحولات عضوية، و إذا كان المسيري يقوم بدور “الواعظ” الحريص على الدين كركيزة اجتماعية و أن المجتمع، بحسب ما يخوفنا به المسيري و معسكره، سيشهد انهيارا كليا في ظل العلمانية، و هو الاستنتاج المسبق و المعد للوصول إليه، هو بالتأكيد استنتاج خاطيء، فالمجتمعات المتدينة “الطقوسية” لا تقل إجراما أو لربما حتى أكثر ارتكابا للجرائم، و غالبية هذه المجتمعات لا تمتلك إحصاءات حقيقية لهذه الجرائم و غالبا ما تقيد الجرائم كأحداث عرضية ـ قضاء و قدر ـ أو يتم التعتيم عليها حكوميا و شعبيا، بالتالي فإن الضمير المبني على الأساطير و الخرافة أو التهديد بعذاب الآخرة، كانت تنفع في الماضي حينما كانت الإنسانية تعيش حالة اللا وعي أو الوعي الطفولي، فالبشرية قديما كانت أشبه بالطفل الذي كان يرى في والديه و مربيه أناسا مقدسين مثاليين، لكن في عصر العولمة Globalization لم يعد هذا مفيدا و أصبح التراث الديني بأكمله معروضا على الشعب دون أن يبقى محصورا بأيدي أناس مختصين “الكهنة و اللاهوتيون”، و طبيعي أن التراث الذي هو خالق و صانع الضمير الديني ـ الذي يبشرنا به المسيري ـ و بالتأكيد أيضا أن صياغة النص المقدس ـ إختيار النسخة الحقيقية من دون المزيفة ـ هو أمر إنساني بالكامل، ففي العهود القديمة انتقلت التوراة من طور إلى طور و من ترجمة إلى أخرى، و كذلك الأمر بالنسبة إلى الأناجيل و العهد الجديد، حيث تم اختيار أربعة أناجيل ككتب مقدسة من بين مئات، و الأمر نفسه بالنسبة للقرآن، فقد سمح النبي بقراءة النص القرآني وفق لهجات عدة، و لكن عثمان ـ الخليفة الثالث ـ أحرق كل النسخ و أبقى على النص المكتوب بلغة قريش، و بالإضافة إلى ذلك نجد النص المقدس الآخر “الأحاديث و السيرة” تختلف مصادرها من جيل إلى آخر، و بينما كان العصر الأول لا يعرف شيئا عن كتب الصحاح، أصبحت هذه الكتب مصادر ـ تحتكر ـ نسبة الأحاديث و السيرة.
إذا لا يمكن للمسيري أن يطلب منا أن نفقأ الأعين و نصم الآذان عن كل هذا التراث الضخم من الأسئلة، من أجل الإبقاء على شخص على حافة الموت اسمه “الضمير”!! فالبشرية الآن بحاجة فعلية إلى أن تخلق لنفسها ضميرا، و الدول التي يسود في التراحم = التزاحم هي دول غير مستقرة و غالبا ما تخفق في بناء حضارة، فمعلوم، أنه لو لا الغرب لبقي عالمنا الإسلامي غافلا عن التطور و نتاجاته و عن وسائل التنقل و الطاقة و التواصل و كلها من نتاج “الثورة العقلية” التي لولاها لما كان متاحا للمسيري أو غيره أن يصبح كاتبا تتحدث عنه مجتمعات بأكملها و تناقش آراءه.