وقد تجنب الرئيس أوباما أية أشارة إلى النصر، لأن ذلك يكون في صالح سلفه الرئيس جورج بوش وهو يحاول بمناسبة ودونها التقليل من شأن إدارة بوش. كما وانقسم المعلقون السياسيون حول هذه المسألة إلى ثلاثة أقسام: أعداء العراق الجديد من مرتزقة البعث الصدامي اعتبروا هذا الانسحاب هزيمة، وأنصار التغيير اعتبروه نصراً، وهناك فريق ثالث بين بين، يرونه لا نصر ولا هزيمة!!
في البدء، يجب التأكيد، أن الانسحاب هو جزئي وليس كلياً، ولا يعني أن أمريكا تركت العراق نهباً للذئاب، كمن صرح طارق عزيز مؤخراً، إذ مازال هناك نحو 50 ألف جندي أمريكي في العراق بكافة تجهيزاتهم القتالية، بما فيها الطائرات المقاتلة، ورغم أن دور هذه القوات هو استشاري، ولمواصلة تدريب القوات العراقية، إلا إنها جاهزة لمساعدة القوات العراقية لحماية العراق من أي عدوان خارجي أو داخلي، وبطلب من الحكومة العراقية، وهذه القوات ستبقى إلى نهاية العام القادم. ولذلك نقول أن القوات الأمريكية لم تنسحب بل هو عملية تخفيضها، وقد بدأت عملية الانسحاب منذ العام الماضي.
الملاحظ أن الذين يصرون على أن الانسحاب هزيمة، لم يأتوا بجديد، لأنهم بدءوا بترديد هذه الأقوال حتى وقبل أن تبدأ عملية (حرية العراق) عام 2003، إذ راحوا يدبجون المقالات، وينشرون الكتب، يؤكدون فيها أن المشروع الأمريكي في العراق فشل، وحتى قبل أن يبدأ. ولكن لو قارنا وضع العراق الحالي مع ما كان عليه قبل 9/4/2003، يوم سقوط الصنم الصدامي، لعرفنا أن دعاة الهزيمة يغالطون أنفسهم، وما تكرار أقوالهم إلا لأنهم يمنون أنفسهم، وأنهم يصورون الواقع كما يشتهون وليس كما هو.
نعم، لم تكن عملية (حرية العراق) بلا ثمن، بل وكان الثمن باهظاً، وبالأخص على الشعب العراقي وما قدمه من تضحيات جسام في الأرواح والممتلكات. ولكن السؤال هو: من كان وما يزال وراء هذه الخسائر؟؟ الجواب واضح وضوح الشمس، وهو: فلول البعث وحلفاؤهم من أتباع منظمة القاعدة الوهابية الإرهابية الممولة بالبترودولار، والتدخل الفظ لبعض دول الجوار لإجهاض التجربة الديمقراطية الوليدة في العراق لكي لا تصل عدواها إلى شعوبهم.
والسؤال الذي يطرحه البعض هو: هل الانسحاب الأمريكي من العراق جاء مبكراً أم متأخراً؟ ومن هو المنتصر بعد الانسحاب؟
في رأيي أن الانسحاب الأمريكي الجزئي جاء في وقته المناسب، لا مبكراً ولا متأخراً، وهو ليس وفق تعليمات الرئيس الأمريكي أوباما كما يتصور البعض، بل جاء تطبيقاً للاتفاقية الأمنية التي تم عقدها بين الحكومة العراقية وإدارة الرئيس السابق جورج دبليو بوش قبل عامين. فقد قامت القوات الأمريكية بعمل عظيم والذي كان حلماً يراود مخيلة العراقيين، ألا وهو تحرير الشعب العراقي من أبشع نظام همجي مستبد الذي أحال العراق إلى أكبر سجن وأكبر مقبرة جماعية في العالم.
كما وقدمت القوات الأمريكية خدمات جليلة إلى الشعب العراقي في بناء الجيش العراقي الجديد، وتنظيمه وتدريبه على أسس حديثة، متشرباً بثقافة احترام الدستور، وحماية النظام الديمقراطي والحكومة المدنية، وأن يكون وزير الدفاع مدنياً لأول مرة في تاريخ العراق، ورئيس الوزراء المدني هو القائد العام للقوات المسلحة. وبذلك فقد بنى جيشاً عصرياً على خلاف الجيش العراقي السابق الذي كان مسيَّساً ومؤدلجاً، وكان دوره القيام بالانقلابات العسكرية ضد الحكومات المدنية، حيث ساهم الجيش القديم كثيراً في عدم الاستقرار السياسي في العراق. وبذلك نعرف أن المنتصر هو الشعب العراقي بلا شك لأنه تحرر من أبشع نظام وجاء هذا الانسحاب الجزئي في وقته المناسب بعد أن تم بناء الجيش العراقي الجديد على أسس صحيحة رغم وجود مراحل أخرى نحو التكامل، إضافة إلى بناء مؤسساته المدنية.
ومن دلالات هذا النصر: أن النظام البعثي الصدامي قد صار في خبر كان وفي مزبلة التاريخ، وفي العراق نظام ديمقراطي، ودستور دائم، وقد أجريت ثلاثة انتخابات برلمانية وهناك حكومة منتخبة، وحرية الصحافة، ومئات الصحف وعشرات الفضائيات والإذاعات، معظمها تابعة للقطاع الخاص، وجميع مؤسسات الدولة فاعلة رغم الإرهاب والنواقص.
أما مصير أزلام النظام البعثي الساقط “فقد أعدت القيادة العسكرية الأمريكية خلال عملية غزو واحتلال العراق في عام 2003، قائمة، وضعتها في شكل ورق لعب مكونة من 55 ورقة تحمل كل ورقة شخصية قيادية من نظام حكم الرئيس العراقي السابق صدام حسين، واعتبرتهم المطلوبين الأكثر خطورة والاهم في الحكومة والنظام السياسي العراقي… ومع اقتراب العمليات القتالية الأمريكية من الانتهاء في العراق، لم يبق من تلك القائمة سوى عشرة ما زالوا طليقين أو مجهولي الإقامة، أما الباقون إما ماتوا أو اعدموا، أو قابعون في السجون”. (تقرير بي بي سي، الرابط في نهاية المقال). وهذا بحد ذاته انتصار للشعب العراقي.
مشاكل يتعكز عليها دعاة الهزيمة
على أي حال، لا ننكر أن هناك بعض المشاكل، ولم يكن متوقعاً أن هكذا عمل تاريخي ضخم مثل إسقاط نظام فاشي متجبر، وإقامة نظام ديمقراطي أن يمر بسهولة، والمشاكل التي يتعكز عليها دعاة الهزيمة لدعم إدعاءاتهم هي:
1- مشكلة تشكيل الحكومة الجديدة
2- مشكلة الإرهاب
3- تصريحات رئيس أركان الجيش حول عدم جاهزية الجيش العراقي لحماية الوطن من العدوان الخارجي والداخلي قبل 2020.
أولاً، مشكلة تشكيل الحكومة الجديدة: مرت ستة أشهر على الانتخابات البرلمانية، والكتل السياسية لم تتوصل بعد لتشكيل الحكومة. لا شك أنها مسألة مؤلمة، ولكن لو تمعنا بالتركة الثقيلة التي ورثها العراق من الأنظمة السابقة، والانقسامات العميقة داخل الشعب العراقي، لعرفنا حجم المعضلة، وأن العملية لست بتلك السهولة التي يتصورها البعض. فالصراع ليس نتيجة تمسك زعيم هذه الكتلة أو تلك بالمنصب، وإنما أعمق من ذلك، إذ هناك أزمة ثقة بين الكتل المتنافسة، وكل كتلة تمثل مكونة كبيرة من مكونات الشعب، وهناك خوف شديد أن بعد رحيل الأمريكان ستفقد الانتخابات القادمة نزاهتها، ويمكن لأية حكومة تتشكل اليوم أن تزيف الانتخابات القادمة وتضطهد الكتل المنافسة لها بشكل وآخر، ولذلك يسعى الآخرون لضمان النزاهة في المرحلة القادمة. ويجب أن لا ننسى أن ما يجري في العراق من صراع بين الكتل السياسية عبارة عن تمارين عملية لتعلم قواعد اللعبة الديمقراطية والتي مازالت ناشئة، ولا يمكن أن تكون ناضجة من يومها الأول.
كذلك يبدو أن العراق ليس البلد الوحيد الذي يعاني من تأخر تشكيل الحكومة، فهناك دولتان أوربيتان عريقتان في الديمقراطية، مثل بلجيكا وهولندا، تواجهان نفس المشكلة. فالأولى مر عامان على انتخاباتها التشريعية، والثانية شهران، ولحد الآن لم تتشكل الحكومة في هذين البلدين، بسبب عدم فوز أي حزب بالأغلبية المطلقة، ومشكلة التحالفات، وعدوى هذه المشكلة وصلت استراليا أيضاً!! وإذا كان هذا التأخير مقبولاً مع بلجيكا وهولندا التي عمر ديمقراطيتهما أكثر من مائة عام، فلماذا نحكم على العراقيين بفشل ديمقراطيتهم وهي مازالت ناشئة عمرها سبع سنوات؟ لذلك لا يمكن اعتبار تأخر تشكيل الحكومة دليل فشل الديمقراطية، بل دليل صمودها رغم المشاكل التي تحيط بها وتغذيها دول الجوار.
ثانياً، مشكلة الإرهاب: يجب أن نعرف أن حكم البعث الساقط نفسه كان يمارس الإرهاب ضد الشعب العراقي، ويخطأ من يقول أن الوضع كان آمناً في ذلك العهد، وإلا لماذا فر نحو خمسة ملايين من العراقيين إلى الشتات، بعضهم صار طعاماً لأسماك القرش؟ وكيف حصلت المقابر الجماعية، وقتل نحو مليونين عراقي في الحروب الداخلية والخارجية، إلى آخر قائمة الكوارث. كذلك هناك دول مبتلية بالإرهاب ودون أن تكون فيها قوات أمريكية، مثل باكستان والجزائر والصومال والسودان…الخ. وإذا كانت حجة المنظمات الإرهابية وجود قوات أجنبية في العراق، فلماذا تواصل الإرهاب وهذه القوات في حالة انسحاب؟ إن استمرار الإرهاب دليل على أن الغرض من الإرهاب البعثي- القاعدي هو إبادة الشعب العراقي، وذلك تنفيذاً لما وعد به صدام “أن الذي يحكم العراق من بعده يستلمه خرائب بلا بشر”.
ثالثاً، حول جاهزية الجيش العراقي: قال رئيس أركان الجيش العراقي بابكر زيباري: “على السياسيين إيجاد أساليب أخرى لتعويض الفراغ ما بعد 2011، لان الجيش لن يتكامل قبل عام 2020”. وأكد “لو سئلت عن الانسحاب لقلت للسياسيين يجب ان يبقى الجيش الأمريكي حتى تكامل الجيش العراقي عام 2020”.
لا شك أن رئيس أركان الجيش يعرف واجباته في هذا المجال أكثر من غيره، ولكن لا يستبعد غرض سياسي من هذا التصريح وهو بالتأكيد في صالح العراق. ومعنى هذا أن العراق بحاجة إلى عقد معاهدة إستراتيجية طويلة الأمد تتضمن الدفاع المشترك مع الولايات المتحدة. فهكذا معاهدة بالتأكيد تكون في صالح العراق، خاصة وحدوده مهددة من قبل بعض دول الجوار وأزمة المياه، ومشكلة الإرهاب، إضافة إلى ما ورثه العراق من النظام الساقط من مشاكل دولية مثل تكبيله بالبند السابع، والديون، وتعويضات الحروب، لذلك فالعراق الجديد يحتاج إلى دعم الدولة العظمى التي لعبت دوراً كبيراً في تحريره من أبشع نظام بربري مستبد.
والسؤال الذي يجب طرحه هو، ما هو مستوى جاهزية الجيش ليكون قادراً على حماية حدود الوطن وأمنه الداخلي؟ فالجيش العراقي في عهد البعث الصدامي والذي بدد صدام كل ثروات العراق واستدان عليها 120 مليار دولار، واعتبر رابع قوة عسكرية في العالم حسب تقديرات الدول الغربية قبل تحرير الكويت، لم يستطع هذا الجيش الصمود أمام القوات الدولية بقيادة أمريكا أكثر من ثلاثة أسابيع حيث انهار وتلاشى عن الأنظار، إضافة إلى انهيار الدولة.
أما قدرة هذه القوات على منع الإرهاب، فنقول أن محاربة الإرهاب تختلف عن الحرب النظامية، لأن في حالة الإرهاب أنك تحارب عدواً شبحياً غير مرئي، ولذلك فدحره لا يعتمد على ضخامة الجيش، وأفضل مثال هو أمريكا نفسها التي تمتلك أقوى جيش في العالم، أستطاع 19 إرهابياً ارتكاب أبشع عملية إرهابية في 11 سبتمبر 2001، كذلك قام الإرهابيون بعشرات العمليات الإرهابية ضد المصالح الأمريكية في أمريكا وخارجها قبل ذلك التاريخ، وأخيراً، كان الرائد الطبيب، نضال حسن الذي قتل نحو 12 عسكرياً وأصاب أكثر من عشرين في ناد عسكري داخل أمريكا نفسها. نستدل مما تقدم أن دحر الإرهاب لا يعتمد على جاهزية الجيش فقط، وإنما على قوة الأجهزة الاستخباراتية على اختراق تنظيمات الإرهابيين، وتوجيه الضربات الاستباقية لها.
خلاصة القول، العراق الجديد ينوء تحت ركام من المشاكل التي ورثها من الأنظمة السابقة، ويحتاج إلى سنوات لبناء مؤسساته العسكرية والثقافية والاقتصادية، وإنضاج العملية السياسية والديمقراطية، وإن الانسحاب الأمريكي الجزئي هو نصر للطرفين، العراق وأمريكا، والعراق بحاجة إلى اتفاقية إستراتيجية بعيدة المدى مع الدولة العظمى.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
تقرير بي بي سي ذو علاقة بالموضوع
أبرز وجوه النظام العراقي السابق: أين هم الآن؟
http://www.bbc.co.uk/arabic/middleeast/2010/09/100902_iraq_playcards_tc2.shtml
العنوان الإلكتروني للكاتب: Abdulkhaliq.Hussein@btinternet.com
الموقع الشخصي للكاتب: http://www.abdulkhaliqhussein.com/