
تتناوب في حياة الكاتب بيئات مختلفة، على الرغم من تشابه بعضها المحتمل، فهي انتقالات في جغرافية المكان، تبعا لأسباب تدخل في مجالات عدة، تتوزع في مجملها أنماط البيوتات من مكان إلى آخر، وتتنوع فيها الجدران، ومساحات المداخل والأبواب، والشبابيك، والغرف، وحتى الشوارع المحيطة بها.
يفتح الكاتب عينيه على بيئة جُبِلَ عليها، اختارها أهله، بحكم الإمكانات المادية والمعيشية وربما يتداخل القرب والبعد من العائلة الكبيرة، قد يجد فضاءَ واسعاَ يمنحه الرؤية وتتسع لديه رؤيا المخيلة، يبدأ بالتصوير المنفتح وانبعاثات الحلم وهو يؤسس لمملكة الكتابة في بدايات حياته، طبقا لتداخل الأمكنة وزواياها المتشابهة والمتعامدة والمحشورة في حيز محصور، كل هذا يدخل في مساحة الافتراضات المحتملة التي تجعل المكان مفتاحا لبدء قدحة الموهبة وصقلها تدريجيا.
تتنامى في داخله انشطارات اللغز والبحث عن صيغة ترمم الحلول المنسجمة مع تطلعاته، إذ يبدأ الكاتب دونما دراية مسبقة بمتابعة حركة الضوء، يراقب انحساره ليتشكل الظلام في وقت تغيب عنه المساحات الوارفة التي تخلّف شعاع ضوء آخر كان متواريا خلف أمكنة غائبة، وهو – الكاتب – يلمح تآكل اللحظات وقت الكتابة وهي تدخل في حيز العالم المنظور بأصوات مكتومة كما ترشح مديات الكلمات أرواح الذكريات.
تتسع المدن التي تأخذ نسيح الحياة بصخبها في النهارات وهدوئها في الليالي المخبوءة تحت خيمة الظلمة، إذ تحاول أن تجد حيزا من ابتكار اللحظة المناسبة لترسم ملامح الأنهار على خرائط الكتابة، الشوارع المتربة الطويلة، والقصيرة، المستقيمة والملتوية أحيانا، يتفنن في تخيلها وتثبيت احداثياتها بقلم الرصاص، لكي نتمكن من محو الزائد والطارئ في وقت ما.
عادة، تنضج صورة المدن المتخيلة في كراسة الكتابة لدى البصريين، يبتكرون عوالمهم من الحياة، فهم قريبون جدا من أنهر حقيقية أو محض خيال يرسمونها بكلمات على جذع نخلة مجاورة، ندرك جيداً أن مدننا، وأزقتنا تتناسخ كما الحياة بمؤشرات تدخل حيز الورق كما الشمس وهي تلتمع على محيا النهر، وتتآزر كينونات الظلال المتكسرة على الشوارع، تتكاثف أحيانا، وتتعامد في أوقات عدة، كالأشباح المتوارية في مدافن الحكايات، بعد أن نتفحص الأشياء من زوايا عدة، لتفادي خسارات اللقطة المدهشة لحياة راهنة، هذه اللقطة الخاطفة في عدسات الكون المكبرة لتكشف عزلتنا في بيوت لا يدخلها الضوء، ولا يحطها النهر، تتشكل في مخيلة ناضبة مؤطرة بمخزونات الذاكرة وهي تتلاشى كالغروب على مساحات الماء، نحن مجبورون على تفحص الحالة الساكنة والراكدة في قاع الحياة، كي تنضج في وقت يبتكره الكاتب لحظة ذهول، ربما في رعشة النهارات الأولى، التي يملؤها صمت العالم وهو ينتظر بوح الكاتب لتدب الحياة ثانية في بيت كان يحلم به الشاعر.
تتداخل في لحظة ما أمكنة الكاتب التي تركها في وقت خلف ظهره وهو يختار مكاناً أكثر ملائمة لحياته كي تستمر فيه، بعيداً عن مساحة البيت أو شكله ، قديمه أو جديده، الأهم أن يتنفس فيه أوكسجين الكتابة ويجد نفسه بين جدرانه أو مساحاته الأخرى، هنا يتحقق لنا حلم اللحظة الشاردة فيما لو انسجمت هذه الشفرة مع بعض المتطلبات الأولية لبلورة الفكرة المستمرة في ذهنه، كي يحقق طموحاته التي لاتقف عند حد