تستمد تجربة الشاعر حبيب السامر في قصائد ديوانه الأخير النثرية ” بابيون ” * على مرجعيات متداخلة ، متشابكة ، متقاطعة ، التي هي : الحلم – الواقع اليومي – الفانتازيا – الموت – المرأة ، مشحونة بدلالات مُتَشْظية في : معنى المعنى – تعددية التأويل – اختلاف الرؤية – النص المفتوح .
تتميز قصيدة النثر عند حبيب السامر بانها نصْاً يتفجر ابداعاً ، وادهاشاً ، ومغايرة ، وبالأخص عندما يستخدم اساليب تعبيرية متعددة غير مألوفة في رسم صوره الشعريّة ، ومن هذه الأساليب : الاستعارة ، المجاز ، التشبيه ، وغيرها ، ولقد اهتم بها اهتماماً كبيراً ، وعمل على أن يكون مجدداً فيها بما يتلاءم مع قصيدة النثر الحديثة من حيث الشكل والمضمون ، لذا قام بمزاوجة : المتخيل ، الفنتازيا ، الواقع ، في بوتقة سحرية واحدة تستند على مخيلته وتجربته الذاتية ، لإنتاج صور شعرية تتشكل من اللاوعي والرمز ، ومن هذه الصور الشعرية تتناسل المعاني المتميزة المختلفة بلغة تمنح حبيب السامر المقدرة على التعبير ، وتحقيق التكامل المنسجم في صوره الشعرية ليضفي بعداً جمالياً وانسانياً للقصيدة ، لأن جمالية القصيدة يتأتى من جمال الصورة ، لأن هذه الصورة الشعرية عنده ” رسم قوامه الكلمات ” 1 ، فالقصيدة عنده منسوجة ببراعة ، بحرفية عالية ، وهذا يدلل على انه نساج الصورة الشعريّة التي يؤسس بها قصيدة الصورة ، المتفردة ، المشرعة على خيال لا تحده البلاغة وابعد من الذات .
بل يذهب جان كوهين في كتابه “بنية اللغة الشعرية ” على أن اللغة الشعرية تتكون من مستويين : صوتي ودلالي ، ولذلك فالكاتب الذي يرمي إلى أهداف شعرية الحريةُ في أن يجمع بينهما ، أو أن يعتمد احدهما دون الآخر ، وعلى ضوء ذلك اعتبر جان كوهين بأنه من الممكن أن نطلق على “القصيدة النثرية ” تسمية ” القصيدة الدلالية ” : ” إذ لا يعتمد في الواقع إلا على هذا الجانب من اللغة تاركاً الجانب الصوتي غير مستغل شعرياً ، وتنتمي الى هذا الصنف أعمال ذات اعتبار جمالي ” 2 .
تتألف مجموعة ” بابيون ” من 48 قصيدة ، تتراوح بين القصيرة جداً والطويلة نسبيا ، واغلب القصائد امتازت بالتكثيف وبالذات القصيرة منها ، مثل قصيدة ” تغريد ” المتكونة من ثلاثة ابيات فقط :
لا أحد
يُجبر البُلبلَ
على التغريد .
هنا تتحقق مقولة جان كوهين ، بأن وظيفة الصورة الشعرية هي التكثيف ، فالشِعْريَة هي تكثيف اللغة ، وعليه هنا يصبح للصورة الشعرية وجهان ، وجه بنيوي شمولي ، ووجه وظيفي تكثيفي ، عندئذ اذا كانت الشِعْريَة تكثيفا للغة ، فإن الصورة الشعريّة تكثيف للشِعْريَة 3.
من حق المتلقي أن يتسأل : لماذا الشاعر حبيب السامر قد عْنّون ديوانه باسم ” بابيون ” ، وهو أي العنوان يعتبر العتبة المهمة للمتلقي ، لأنه يقوم باختزال دلالات النص ، بالإضافة الى اشتغاله على تفكيك النص ودراسته ، عليه لو علمنا أن البابيون يمتلك خلفية عسكرية بحتة ، حيث ارتداه الجنود الكرواتيون المرتزقة في القرن الـ 17 بشكله القديم ، الذي كان عبارة عن قطعة من القماش مربوطة بشكل متقاطع ، فكلمة ” بابيون ” كلمة فرنسية الاصل تعني فراشة ، او ربطة عنق الفراشة واستخدمت للتعبير على شكل زهرة البيبونة البرية وحرفت للعربي بابيون ،اي من الجائز أن ما يقصده حبيب السامر بــ كلمة عنوانه ” بابيون ” هو زهرة البيبون البرية “باللهجة العراقية ” ، التي تزهر بدون تدخل احد ، وتنمو بشكل طبيعي في البرية ، وبهذا مُنحْ العنوان دلالات كثيرة ولكنها متشظية تعمل على استنهاض هذه الدلالات المختلفة في رسم الصور الشعرية .
إن جمالية التلقي وضعت القاريء في مركز مهم للقيام بتأويل النص الأدبي ، وأسندت إليه اكتشاف المعنى المتجدد عبر التاريخ ، كما أن دور القراءة هو اكتشاف البنيات الشِعْريَة في النص وتحقيق استجابة لها في آن واحد ” 4 ، وذلك لا يتم الا باستكمال الشِعْريَة لاستراتيجيتها التي لا تتكامل الا بإضافة محور آخر مهم جداً الذي هو التأويلية ، رغم أن العمل الادبي ليس ” في حد ذاته هو موضوع الشِعْريَة ، فما تستنطقه هو خصائص هذا الخطاب النوعي ، الذي هو الخطاب الأدبي ” 5 .
شِعْريَة الحلم عند حبيب السامر ، تمتاز بالانفتاح والتوسع برمزية – فانتازية ، تعمل على الامساك باللحظة الهاربة قبل أن تختفي أو تضيع ، لكنها أي لحظة الدهشة حالما تُمسّك تصبح متشظية ، فالقنديل ” أي الصورة أو الفكرة أو اللحظة ” الواحد يصبح عشرات القناديل الموزعة في اماكن مختلفة ، وهذا ما يعمل عليه السامر ، حيث ” مع الكتابة تولد الدهشة ، النص المنساب على الورق يتوالد ، ينمو ، يتبرعم ، لا احد بإمكانه وضع نهاية لنصه ، هو – النص – من يكتب نهايته ” 6 .
ففي قصيدة ” نافذة مغلقة على حلم ” ، وهي القصيدة التي يفتتح بها الديوان ، نرى أن الشاعر يعمل على بث عنصر حلم الاستحالة ، والمفارقة ، والتناقض :
الاستحالة : تُمسِك غيمة .
المفارقة : تمسك غيمة / تعدّ خطاك .
التناقض : يتسرب / نوافذ مغلقة .
هل فكرتَ أن تُمسِك غيمة ،
تطاردُها وأنت تعدّ خطاك ؟
تنتابك أمنية لاحتوائها
حلم يتسرّب من نوافذها المغلقة .
فالشاعر هنا يتلاعب بكلمة ” نافذة ” ، عندما يحول معناها اللغوي الى استعارة – رمزية ، ليس ذلك فحسب بل يقوم بتغير وظيفة النافذة الحقيقية الى وظائف دلالية متعددة ، مع التركيز على كون النافذة مغلقة ولكن الحلم يتسرب بمعنى تكون النافذة فتحة هروب للـ الأماني والاحلام ، وفي مكان آخر تصبح النافذة المغلقة ايضاً ، عتمة وعماء ، رغم تواجد البصر ، بمعنى العين التي تعني البصر / الرؤية / التواصل :
لم أبصر شيئاً
سوى العتمة تحيط بي
وراء النافذة المغلقة
بل يذهب السامر أبعد من ذلك ، عندما يريد أن يزيل العتمة عن السارد الذي وراء النافذة المغلقة ، وعتمة المدينة ، وهي العتمة المركبة ، وذلك من خلال الملاك / الشيطان = لوسيفر ، حامل الضوء الذي سقط من السماء ، فالمدينة تكون في انتظاره ، وهي في حالة الانتظار للذي يأتي / لأيأتي ، الممكن / المستحيل ، فالملاك / الشيطان المزدوج اصبح مُخْلّص المدينة عند السامر ، فالعتمة ليس وراء النافذة فقط ، بل في ارجاء المدينة ، وفي ذلك دلالة – رمزية على فقدان الجميع للبصر والبصيرة ، ومن اجل ذلك عندهم الاستعداد الكامل لبيع ارواحهم لــ مفستوفيليس 7:
الظلام يلف المدينة ، كأنها صخرة سوداء جاثمة ،
تنتظر شيطان الضوء سراً
على ابوابها القديمة
إن حبيب السامر في هذه القصيدة وغيرها من القصائد ، يجبر المتلقي على القيام بتأويل نصوصه ، فالتأويل هو الوجه الآخر للنص كما يقول نصر حامد ابو زيد ، فالقصيدة هنا فن استدعاء تأويل المعاني ، وهذا يجعل النقد لا يكون ممكناً الا اذا كان فهم النص تأويلياً ، وهذا الفهم يقودنا عبر القراءة بين السطور لكي نكتشف الدلالة العميقة ” ماذا يريد النص أن يقول ؟ ” ، ومن الثابت أن الجواب الذي يطرحه النص عن السؤال لا يكون كافياً ابداً ، لأن النص هو ايضاً يطرح اسئلة وعلى القاريء أن يجد لها أجوبة ، أن التأويل يضع القصيدة في سياق المعنى الذي يقدمه المؤول ، ” ولهذا فان الكلمة التأويلية هي كلمة المؤول – وليست لغة النص المؤول ومعجمه ” 8 كما يقول غادامير ، وهذا ما يوكده رولان بارت ايضاً بان سياق المعنى لا يقدمه النص بل يأتي من الناقد 9 ، عليه تكون الحقيقة الشعرية تأويلية ، بمعنى أنه يجب اخضاع النص إلى تأويل مفهوم من قبلنا . فالأبيات التالية تبين لنا ذلك ، في مشهد انسيابية الحياة العادي ، رغم ترصد الموت الابدي للحياة في كل لحظة ، ولكن الصورة هذه يحولها الشاعر الى صور متعددة ، تتشبث بثنائية الحياة / الموت ، عندما يرسم بريشته اختلاط لون الدم بالوان الفراشات الزاهي ، رغم محاولته في عدم التدخل أو الوقوف جانباً :
لا علاقة لنا بما يحصل الآن
خارج هذه الغرفة ،
هنا تتقافز الفراشات ،
وهناك تتطاير الشظايا
ما حدث
أن اختلطت ألوان الفراشات بشفرات الشظايا .
يتسم الحلم عند حبيب السامر بانه مرتبط بالواقع ومرتبط بالمخيلة ، أي يكون اشتغاله في اتجاهين متعاكسين ، حلم / الواقع ، وواقع / الحلم ، ولكنه ليس حلمية الحلم ، أن في سايكولوجية الاحلام تقدم الأحلام حلولاً لمشكلات الشخص في محاولةٍ لإعادة التوازن الى تلك الشخصية ، أي أن تكون متنفس لللاوعي ، ففي قصيدة ” صخب ” يتداخل الحلم / الأنا – بالواقع / الوجود ، بالمكان / المدينة ، لتعطينا قراءة تأويلية مغايرة لكثير من القراءات الخاضعة لسرير بروكرست 10، قراءة حلمية ، حسية ، غرائبية ، مأخوذة من ميتافيزيقية الحضور للبرهنة على ” وجود فهم معين يلائم النص الأدبي بحيث يمثَل معناه لا محض رد فعل للناقد على النص ” 11 :
كأننا نصحو لأول مرة على صباحات المدينة المغسولة بالضجة / الأزقة تضيق أيضاً / لا ممر نحو باب نقصده / الأحجار عالقة في الفضاء / نتحاشاها / نحبس أنفاسنا / نزوغ عنها تلك الدمى النازلة من السماء / لا تتوهم بالنجوم ثانية / الأقرب منك الوكر برطوبة قديمة وفرش نتنة .
منذ البداية ، ومن اول قصيدة ، تثير قصائد ” بابيون ” أسئلة إشكالية : فلسفية – انسانية ، تعمل هذه الأسئلة على إثارة التساؤل وتعميقه ، أكثر من الاهتمام بالبحث عن ألاجابة ، وهما محكومان أي الأسئلة والأجوبة بجدلية خفية عبر النص باعتباره وسيطاً بين الشاعر والمتلقي :
إنه الموت
لم تتبدل أشكاله ، خطواته .
من أين يأتي ؟ ” تسلّل “
هل فكّرت أن تُمسِك غيمةً ،
تطاردُها ، وانت تعدُ خطاك ؟ ” نافذة مغلقة على حالم “
هل حاولت أن تعدُ خطاك ؟ ” فوبيا متراكمة ”
ماذا تعني لي اللحظة ؟ ” محاورات ”
لماذا انت أكثر من واحد
على مقدمات اصابعي ؟ ” الاصدقاء “
هنا النص يطرح أسئلة وعلى المتلقي أن يجد لها أجوبة ، لأن منطق السؤال والجواب يُقدم في صيغة جدلية في إطار العملية التواصلية لتلقي وفهم النص من قبل المتلقي ، ولكن يبقى السؤال المهم يطرح نفسه عن الكيفية التي يحدد بها المؤول قصدية النص الشعري .
رغم ما عبرت عنه القصائد من : نوافذ مغلقة – مدن معتمة – فاجعة الحروب – الظلام – الموت المجاني ، الا وأن يغرس فسحة للأمل ، يفتح نافذة مشرعة للضوء ، لمحاربة العتمة :
فيما الأصابع تتحرك في العتمة
لتومىء للضوء
في عتمة لن تتكرر .
الهوامش والإشارات :
• ” بابيون ” – المعقدين للنشر والتوزيع ، البصرة / العراق ، 2019 .
1-دي سيسسل لويس – الصورة الشعرية ، ترجمة : احمد نصيف الجنابي وآخرين ، مؤسسة الخليج ، 1984 ، ص 81 .
2- جان كوهين – بنية اللغة الشعرية ، ترجمة : محمد الولي و محمد العمري ، دار توبقال للنشر ، الدار البيضاء /المغرب ، 1986 ، ص 11 .
3- جان كوهين – اللغة العليا : النظرية الشعرية ، ترجمة : احمد درويش ، المجلس الأعلى للثقافة ، القاهرة ، 1995 ، ص 145 .
4 – حسن ناظم – مفاهيم الشعرية : دراسة مقارنة في الاصول والمنهج والمفاهيم ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء / المغرب ، 1994 ، ص 135 .
5- تزفيتان تودوروف – الشعرية ، ترجمة : شكري المبخوت و رجاء سلامة ، دار توبقال للنشر ، الدار البيضاء / المغرب ، ط2 1990 ، ص 21 .
6- مقابلة مع الصحفية فاطمة منصور في ” العربي اليوم ” .
7- فاوست هي خرافة قديمة يردها بعض المؤرخين إلى ما قبل غزو النورمان لإنجلترا، وتناولها العديد من الأدباء في مؤلفاتهم منهم غوته ومن قبله الشاعر الإنجليزي كريستوفر مارلو والشاعر الفرنسي روتبيف والكاتب الألماني غوتهلد إفرايم لسنج. الخرافة تحكي عن شخص (فاوست) ورث عن عمه أموالاً، وتعلم كل ما أمكنه من علوم زمانه، ولكنه بعد أن ادركه الكبر اعتقد أن كل ما أخذه من علم لا نفع له، فندم على سنوات شبابه الذي أضاعها ولم يقضيها في متعته، فظهر له الشيطان (مفستوفيليس) يقايض روحه وجسده على أن يمده بأربع وعشرين سنة وهو في شبابه، اقتنع فاوست بما عرض عليه الشيطان فمضى في سبيل الشر فقتل وفسق ووقع في كل رذيلة أمكنه فعلها. وفي هذه المسرحية عشق فاوست مارجريت (وتُعرف أيضاً باسم جريتشن)، وعندما عرض عليه الشيطان النساء رده رداً عنيفاً قائلاً بأنه لا يريد سوى مارجريت المرأة التي أحبها. في الخاتمة تبع غوته منهج ليسنج فعندما أتى الشيطان ليأخذ حقه من الاتفاق في النهاية أتاه صوتاً من السماء قائلاً «لن تفلح فيما تريد» ويُكتب الخلاص لفاوست ومارجريت
8- ديفيد كوزنز هوي – الحلقة النقدية : الأدب والتاريخ والهرمنيوطيقا الفلسفية ، ترجمة : خالدة حامد ، منشورات الجمل ، كولونيا / بغداد ، 2007 ، ص 203 .
9- م. ن ، ص 203 .
10- حسب الاسطورة فان بروكرست هو ابن بوسيدون وكان معقله الحصين في جبل كوريدالوس الموجود على الطريق بين اثينا وإلفسينا.[2] حيث كان يملك سريرأ حديدياً، يقوم بروكرست بدعوة اي مسافر مار ليحسن ضيافته ويدعوه إلى النوم في هذا السرير، وكان بروكرست مهووسا باهمية ان يناسب طول الضيف السرير، فاذا كان الضيف أطول من السرير قام بركرست بقطع ارجله ليتناسب مع السرير، واذا كان أقصر من السرير مط جسم الضحية حتى تتكسر مفاصله حتى يساوي جسمه السرير بالضبط. ولم يكن لاحد ان ينجو من هذا المصير المرعب لان بروكرست كان له سريرين.[3] أستمر بروكرست بجرائمه المروعة حتى القى القبض عليه ثيسيوس واخضعه لنفس ماأُخضع له ضحاياه، حيث انامه على سريره وقطع راسه ليتلائم مع السرير.
11- الحلقة النقدية ، ص 35 .