وأنا أقرأ رواية “دولة شين” للروائية والشاعرة العراقية وفاء عبدالرزاق، وأتوغل في تفاصيلها الشائقة والرهيبة، وأجوائها المشحونة بالرعب والعنف، انتابني إحساس شديد بالخوف من هول أحداثها التراجيدية، وشخوصها السيكوباثيين، وانبهرت جدا بقدرة الروائية الخارقة على إنشاء دولة بكامل زخمها، وتشريح نفسية ساكنتها، وتحليل مجتمعها الموبوء والغريب، وتأثيته بكل هذه الشخصيات، والتشكيلات الحكومية، والفرمانات، والدساتير والقوانين، والأحداث المريعة، وتصويرها بشكل سينمائي لعشرات المذابح وحالات الاغتصاب، والإرهاب، والتحرش الجنسي، والتنكيل، والارتشاء، والقتل، والإدمان، والجرائم الفادحة، وتوصيفها لعالم ديستوبي فظيع وآسن يقتات على طعم الجريمة والدسائس، والخيانة، وتردي الأخلاق، وانهيار العالم، تحت ظل تسلط قوى الشر على طباع الناس، وتصبو من خلال كل هذا الفسيفساء الى الدعوة للتعايش والسلم العالمي، ونبذ الخلافات
تقول الروائية وفاء عبدالرازق صمن حوار لها حول دور الأدب في دعم السلام في زمن الثورات والصراعات والحروب في عصر الحداثة وما بعد الحداثة: [فروابة “دولة شين” التي تسلط الضوء على الشيطان الذي يعتير وديعا امام شيطنة البشر، ويسجل كل تحركت شياطينهم، والتي بدورها – أي الشياطين البشرية – تؤسس دولة تحكمنا، ألسنا تحت حكم دولة واحدة، هي دولة الشر؟](1)
تتألف رواية “دولة شين” للروائية وفاء عبدالرزاق من 88 صفحة، وتتجوأ إلى ثلاثة عشر باب، وقد جاء تعريف حرف الشين في المعاجم العربية بمعنى: [العَيْبُ والقُبْحُ، والشِّيْنُ: خلاف الزَّين، والشِّينُ: هو الحرف الثالث عشر من حروف الهجاء..](2)، وهو أيضا بداية أسماء الشرور، والشنآن، والشقاء، والشعوذة، والشذوذ، والشيطنة، وقد كتب الكثير حول السر الغامض لهذا الرقم، والمعروف برهاب العدد 13، (الديكتروفوبيا)، والتوجس الذي يحدثه في نفوس بعض الناس، وما يتضمنه من تخاريف ويصاحبه من تهيؤات وهواجس، وقد تكرر ذكر كلمات (الشيطان، والشيطانة، والشياطين، والشيطنة، وشياطينهم)، حوالي 190 مرة، لكن العدد الحقيقي لهؤلاء الشياطين يفوق كثيرا أعداد ساكنة هذا الكوكب الرجيم، وكل شخص يجر وراءه شيطانه أو قرينه الذي يملي عليه أحابيله وحيله، ويزين له شيطنته
صدَّرت الروائية وفاء عبدالرازق روايتها بجملة مركزة تقول: [كن نفسك.. وأزح عن عينيك غشاوة الفراغ، كن ينبوعا ًوابعد عنّي العدم كي أرتاح… وفاء] ص1(3)، متوجهة بخطابها للإنسان لتوقظ فيه ضميره المستتر، وتستنفر أحساسيسه ونفسه اللوامة الأمارة بالسوء..
كثيرا ما امتدح النقاد والأدباء دور الجملة الاولى، أو الإستهلال وما تكتسيه من دلالات في العمل الابداعي، بوصفها عتبة للدخول الى النص، ذلك أن [الجملة الأولى لها الدور الحسم ، فهي التي تحدد في المقام الأول حجم العمل وصوته ككل](4) كما يقول الكاتب الروسي إيفان بونين،
وقد جاءت الجملة الاولى برواية دولة شين لتوضح لنا جو الطاعة والخضوع والحب الذي يكنه “شين” لسيده “كريم” [إنه العزيز عليه، والأحب إلى طاعته، والأقرب لنفسه من نفسه] ص5(5)، [لم يتجاوز يوما على طاعة أوامره، بل ينطلق إلى أية جهة ومكان يختاره سيده “كريم”، [يعد عدته دون رفض أو ملل، ويهيء ذاته للإيفاء بالأمر، مهما كان نوعه]، [يهز رأسه إيجابا ويستمع لـ”كريم” وهو يتفاخر بنفسه وقوته وعظمته أمام الأسرة العالية المقام والأصيلة، التي اختارها لتكون الأقرب إليه من كل مخلوقات الكون] ص5(6)، ليحشرنا في الجو العام للرواية، من خلال رؤية جذرية معقدة للعالم الذي نعيش فيه، محاولة رصد حكاية الخلق الأول، وإعادة صياغة قصة الوجود الازلي، على قمة الجبل، [اتخذوا الأعالي ديارا، في أقصى جبل يطل على الوديان الخضراء، وفي قمة الجبل بنوا مملكتهم الكبيرة.] ص5 (7)، حيث كانت الحياة رائقة، والكون جنة مليئة بالخيرات وكل اسباب الرخاء، صخرة الزمرد – شجرة العهد – [شجرة الحياة المثمرة التي تمنح قاطفها متعة لا نظير لها..] ص7(8)، ملكوت علوي مفعم بالسعادة، وبالناس الطيبين الذين يجمعهم السلام ويؤلف بين قلوبهم الوئام والتحاب، منصاعين صاغرين، [وفي المملكة يكرهون العصيان، والثورة على سيدهم، لقد جبلوا على الطاعة والعيش الرغيد والهناء] ص5(9)، ويدينون بالولاء للخالق “كريم”، وهو اسم من أسماء الجلالة، وخلال ترتيب الكون يعمد المتسيد “كريم” الى اصطفاء “نديم” الذي يحيل اسمه على الندم والندامة، بحسب القاموس المحيط، ويوليه منصبا سياديا الشيء الذي يملأ صدر “شين” بالحسد والغيرة، ثم ما تلبت أن تتحول المحبة الى حقد وكراهية، والطاعة الى عصيان، فأوعزت اليه نفسه أن يحرض رضوان الذي [يراوح موقف وكلام رضوان المتناقض بين الريبة والخضوع] ص8(10)، على الثورة والتمرد على كريم فيطردهم الى الوادي في أسفل الجبل، (قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقرّ ومتاع إِلى حين، قال فيها تحيوْن وفيها تموتون ومنها تخرجون) [سورة الأعراف: 24-25] (11). مشددة على عظمة هذا المتسيد على الكون، وجبروته، وفظاعة العقاب الذي أنزله على البطل شين، ومن سار في ركبه، وتبدأ سيرة العذاب الذي ينزرع في أوصال الروح، ويحقن العروق بنسغه الفاسد والآثِم، [ما هذا العالم المليء يالتناقض؟ استغرب من معاشرة القرود للحمير، تزاوج جديد وذرية مشزهة] ص14(12)، إنه عالم مزنر بالخراب، والتشظي، والجرائم مقترفوها ساديون ومنحرفون، ومصابون بعاهات أخلاقية مزمنة، حيث المرتشي، والزاني، واللائط، والسفاح، والسكير، واللص، والمومس، والقواد، والديوت، والارهابي، والشاذ جنسيا، وقد استطاعت الروائية أن تخرق بخطاياهم حدود الثالوث المقدس، وتعري المجتمع المليء بشتى ألوان التشوهات الاجتماعية ضحاياها اطفال في عمر الزهور [بمرور اسبوع من التحقيق عثروا على الطفل مخنوقا في ثلاجة جارهم امام المسجد ومدرس مادة الدين] ص61(13)، والخيانة الزوجية [ألقت كل ثيابها عنها، مشت حافية اليه ورمت بنفسها على السرير، هذه المرة كلها رغبة، دون حجاب، وعفة، ووعد، وامان، وعهد…] ص78 (14) ، والجنس [ذات ليلة تمددت قربه بثوبها الشفاف الفضفاض الفاضح لجسدها.. صار “داؤود” مستسلما لها هذه الليلة ومطيعا لمداعبتها ورغبته…] ص 128(15) والمتحرش، وزنا المحارم، [ويوما بعد يوم صارت تداعب عورتي معها وتشجعني على ممارسة الفعل معها كل ليلة وتتأوه، كانت طفولتي بعيدة جدا عن فهم هذا اللغز، لكن حين بلغت الثانية عشرة شعرت بحاجتي مثلها] ص75(16)
تنماز رواية “دولة شين”، بمعمارها الغريب، وأجوائها الغائبية، بقدر ما تعج به من شخوص أشد غرابة، وتوفقت الروائية في تسييرهم وفق خطط مضبوطة، واحداث موغلة في السوريالية واللامعقول، الشيء الذي يكعس مهارة الكاتبة في القدرة على الجمع بين هذا الكم من المتناقضات، التي ترصد تشوهات المجتمع، والصراع السرمدي بين الخير والشر، وبين الحلال والحرام، باستلهام صورة الخالق كريم العادل، المنصف المحب للخير ، لكن العاجز عن مواكبة تصرفات الناس، بتوكيله لملاكين عن كل شخص يراقبون تصرفاتهم، ويوافونه بها، مقتحمة بكل حرية وشجاعة المحظورات والتابوهات الدينية والجنسية، ملمحة لسير بعض الأنبياء (سليمان، ابراهيم الخليل، يوسف الصديق، نوح)، مستقية مادتها من مشغل سردي غني، يمتح من منابع معرفية ومصادر عدة، ومفهومات شتى، استلهمتها من المصادر الدينية، واستثمرت بموهبتها القصص الخرافية الملئية بالتهويل والمبالغة، وما كتب حولها من مصنفات تراثية، بداية من الأساطير، والكتب السماوية، وقاربت في فضائها الروائي بين عالمين جد متناقضين عن طريق التناص الحكائي أو الإسقاطي مع كتاب “بدائع الزهور في وقائع الدهور” لزين العابدين محمد بن احمد بن إياس الحنفى الناصرى القاهرى اتلقب بـ ” ابو البركات”، وكتاب قصص الأنبياء المعروف ب”العرائس” لابي اسحق أحمد بن محمد ابن ابراهيم التعلبي، وخطط الطبري، وكتب التفاسير التي تدور حول عالم الغيب والعذاب والنار، وجولات ابي العلاء المعري في رسالة الغفران، والكوميديا الالهية لدانتي أليغيري، وفاوست غوته واولاد حارتنا نجيب محفوط، وكتابات الخيال العلمي عند هربرت جورج ويلز وغيرها من الحكايات التي تحملنا الى حيث الخيال، وبداعة ومتعة الحكي
الإحالات
1- حول دور الأدب في دعم السلام في زمن الثورات والصراعات والحروب في عصر الحداثة وما بعد الحداثة.. أجرته د. رانيا الوردي
e”]https://www.alexandrie3009.com/vb/showthread.
2- معجم المعاني الجامع
3- وفاء عبدالرزاق: رواية دولة شين – ص.1
4- إيفان بونين
5- وفاء عبدالرزاق: رواية دولة شين – ص.5
6- وفاء عبدالرزاق: رواية دولة شين – ص.5
7- وفوفاء عبدالرزاق: رواية دولة شين – ص.5
8- وفاء عبدالرزاق: رواية دولة شين – ص.7
9- وفاء عبدالرزاق: رواية دولة شين – ص.5
10- وفاء عبدالرزاق – رواية دولة شين – ص8
11- سورة الأعراف: 24-25
12-وفاء عبدالرزاق: رواية دولة شين – ص.14
13- وفاء عبدالرواق – رواسة دولة شين – ص61
14- وفاء عبدالرزاق: رواية دولة شين – ص.78
15- وفاء عبدالرزاق: رواية دولة شين – ص.128
16- وفاء عبدالرزاق: رواية دولة شين – ص.75