تنظر دوما بعينين تبرقان، مزقت رغوة الصمت على الأفواه المغلقة ، لا تحب السكون ولا تهوى الكلام ، صرخت بلا حنجرة فهزت الجوارح ، ولو نطقت بلا لسان لأنصت لها الماضي والحاضر معا.
اعتصرت الأزمن لعلها تمسك بيديها نسغ الحياة وتقع على سرها العميق ، الشاعرة التي خطت فوجم كل من تلا ما خطت ، الشاعرة التي ألقت الشعر من اعماق قلبها فاهتزت لسماعه القلوب، المبدعة التي تباري ابياتها ما وضعه الاوائل الكبار، ومن ذا الذي يصل الى معنى مثل هذا :
تشظيت حرفا فحرفا
ولملمت حزن غيابك
وكنت اذا داهمتني الطيوف
عزفت بناي الهجير
عبير انسكابك
تخيلت وجهك يمحو الفراق
كفيروزة الهمتها الشواطي
دنيا اغترابك!!
الامتداد الطبيعي للكبار.
الدكتوره ليلى عطية الخفاجي ليست بحاجة الى تعريف، فهي وكما توصف دوما كوكب شعر يحلّق فوق المنصات، لم تعرف الإخفاق يوما في قصيدة لم يغب الذهول حيال ما تنسج اناملها من أبيات شعر محكمة معان وبناء.
تنتمي الدكتورة الى مدرسة الشعر العربي الأصيل، ذلك الذي لا يعرف التكلف والإطالة ويتجنب دوما المزوقات اللفظية والكلمات الرنانة، ويحفل دوما بالمعنى العميق والموسيقية الحالمة.
شعر مطلعه مثل متنه كخاتمته، صدر البيت يتلألأ مثل عجزة ، نسيج واحد من جمال ، حتى انك لا تستطيع ترك القصيدة دون إتمامها لفرط جمالها ومحاولتك فك الغازها وانت متلذذ بروعة ما تطالع.
اديبة اتخذت لها موضعا يجاور الكبار كالسياب ولميعة عباس عماره دون ان تقلد احدا او تسير على خطى احد، فكانت نسيجا قائما بذاته.
إن موهبتها الربانية في عالم الشعر ، يصنع شاعرة متمكنه، أما ما يخلق مبدعة بهذا المستوى فهو عشقها للغة العربية، مفردات ونحوا والفاظا، ذلك العشق الذي ولج قلبها طفلة، فتلميذة، وطالبة جامعة، ثم توجت تعلقها باللغة عند حصولها على شهادة الدكتوراه في اللغة العربية وبتقدير امتياز، في اسرع مناقشة أثارت اعجاب اللجنة القائمة عليها.
لم تلاحق شاعرتنا الكبيرة تكريما، بل لاحقتها الدروع والشهادات الحقيقية وتزاحمت عليها دراسات كبار النقاد الذين هالهم ان تتمكن ابنة المدرسة الشعرية الاصيلة من الشعر العمود، والومضة، وتسبر اغوار الحداثة، وتساير ما بعد الحداثة، دون ان ينقص منسوب الابداع عندها شبرا.
بعض مما قاله النقاد عنها
يؤكد الناقد علوان السلمان ان الشاعرة الخفاحي قدمت نصوصا شعرية وجدانية تقوم على التكثيف الدلالي والفني والمعنى الايحائي انسجاما وحركة العصر وهذا يعني توفيقها في تحديد ماهية نصها الومضي واستيعابها العميق لمحدداته المنحصرة في التفرد والتركيب والايحاء والترميز مع احتفاظ بالوحدة والموضوعية.
اما الناقد احمد البياتي فيؤكد ان
نصوصها الومضية تحمل الدهشة وتركز على المعاني معتمدة على الايجاز الحافل بالمضمون والرمز الذي يقبل التأويل، وهي نصوص وومضات دائمة التخلق بقابليتها على التحرك في الزمكانية بسبب طاقتها الفاعلة المكتنزة بديناميتها والمتولدة في ذاتها النصية كي تستفز العقل وتنبش المكنون الفكري للمتلقي..
في حين يؤكد الناقد محمد يونس
أن الاستهلال في النص عندها يكون لافتا عبر الصورة والايقاع وانه غالبا ما يستهل بأساليب الانشاء التسلسلي والمنطقي والوضوح ، والصورة يتمركز حولها النص الشعري ومنذ أولى القصائد يتضح المستوى الفني للبناء والقيمة الجمالية لصورة شعرية وفاعلية الاستهلال الشعري يتوضح في مستويات ثلاثة متناغمة ايقاعيا ومشتركة ايقونيا وهي ( الصيغة النحوية – الصيغة الفنية – الصيغة الشكلية ) حيث تمكنت الشاعرة الدكتورة الخفاجي من استغلال تلك الصيغ صورة فنية قد تمكنها من الابتكار وان قصيدتها هي يمكنها ان توظف الصيغ الثلاث بشكل منفرد وآخر بنيوي ، وهذا طبعا تعجز عنه قصيدة العمود اجمالا والتفعيلة نسبيا..
دواوين.. وكلمات ليست كالكلمات.
ما بين ديوانها (رقص على شفاه متمردة) و(مسارب العطش)، ومنجزاتها : حلم ليلة غامضة، طقوس في أخاديد المنفى وديوان انا النساء ، ستدرك ان الشعر العربي لم يزل بخير، وأن الطارئين على الادب ليس لهم من موضع حقيقي في عالم الشعر ، ذاك أن القصيدة المترفعة بجمالها، الباسقة بمعانيها، المتكاملة بنسجها وحبكتها وحكمتها ودلالات رمزها، سوف تجدها في هذه الدواوين فحسب .
سيأخذك (حزن البيادر) نحو(حلم سوسنة)، وستجد (أخوة يوسف) يمتطون (خيول الفجر) نحو(غد بلا ملامح)، وستجد (مكامن الدفء) عند (جدائل عشتار)..
قصائد تحير بأيها تبتديء، وايها احلى وأيها اجمل، تماما مثل حديقة فيها الف زهرة من نور، تهب الأنفاس ما تشابه من عطور.
لأنك كلي وكلك أني سأسلو جراحي بقربك مني
لقد أرهقتني دروب الرجاء
ونثر شفاهي وضحكة سني
وان بعثرتني هموم الحياة
ستبقى بروحي عطر التمني.
هاهي الشاعرة تنفث الأرض أمامها زفير حوادثها، فتتأمل نبض الحياة فيها ، تتفرس في وجوه الحوادث لتعلم الصادقة والكاذبة والمفتراة، تطلع الى الوجوه لتعلم المحزون والفرح ومن يتبسم وفي فؤاده ألأف سهم ، تتطلع نحو قصتها المرصوصة عند جدار القلب فيكاد أن يذوب ذلك الجدار ويتلاشى الحد بين الكتمان والبوح ، تجسد الوفاء ونكران الذات حين تصنع للأمل كوخا من الأضلع، يستمد فيها الدفء من سعير قلب يذوب !
وتقول في رائعتها بقايا ليل:
ليل تهدهده النجوم جهارا
وله يهز بلوحه الأوتارا
ويعانق الأقمار في صلواتها
لحن السماء ليسكر الأقمارا
وتداعب النسمات زهر مواسمي
ومواسمي فيّ تداعب الأزهارا.
تتداخل الأزمنة والاماكن ها هنا بشكل مدهش غريب ، ومتى كان للحب من موسم وزمان ، كائن وان لم يولد لكنه لن يموت ، شمس حتى وان لم تتقد لكنها لن تنطفيء، سرّ تداخل فيه الماضي والحاضر ، والقادم والبارح ، واليوم والأمس ، لا لشيء الا لأنه صادق ، شعور لا ينبغي عليك أن تفهمه بل أن تتعلق به فحسب ، وشعر يتحدى اللحظات الشاهقة وتلويحات الغربة والفراق، تريد عبره أن تحتفظ باللحظات الكبيرة قبل أن تستحيل الى أكذوبة، محض ضجيج وقهقهة ثوان عابرة ، مجرد سطور في كتاب