يبحر قلمي في دنيا وآخرة طفل… طفل في الثانية عشرة من العمر…رأيت وجهه رؤية العين في صفائها…رأيت جسده… نحيفاً…أسمر اللون…كتراب بلدي… حزين الملامح…جسده مسجى أمامي لا حياة فيه…على فراش أقل ما يقال عنه أنه للنوم فقط…فراش مجرد أن يضع جسده المتعب عليه يشرد بعيداً ويسبح في أحلام الطفولة…تلك الأحلام البسيطة…أحلام لم تتجاوز اللهو واللعب للعثور على لعبة يمنّي بها النفس…وإن بالغت كثيراً في القول لم تتجاوز دخول المدرسة لنهل العلم ومصادقة أقرانه والشعور بأنه يحيا بينهم حياة عادية تخلو من الإسراف والبذخ…كل ما أراده استنشاق هواء نظيف غير ملوث خالٍ من الغبار والسموم وهذا حق طبيعي لكل طفل بعمره…ولكن هيهات هيهات هيهات…فقد حكمت عليه الأقدار والناس، أن يكون غير الجميع… فهو طفل لم يتعلم كيف يلهو ويلعب …. لم يتذوق راحة البال ولم يحس بطمأنينة النفس…لا ولم ينعم حتى بالنوم في كنف أبيه والاسترخاء في حضن أمه… كيف يكون له مثل هذا أو ذاك أو كليهما وقد كان وليد الفقر المتقع!!؟…وكيف يكون له مثل هذا أو ذاك أو كليهما ووالداه كانا على الدوام مشغولين بالسعي في دروب الدنيا الصعبة والوعرة لتأمين لقمة العيش لنفسيهما له ولأخوته وأخواته مع قليل من الكساء وما يسد رمقهم وحاجاتهم الضرورية ً!!؟يالله يالله يالله…يا لهذا الفقر اللعين الذي قال عنه الإمام علي }عليه السلام{:”لو كان الفقر رجلاً لقتلته …” يا له من عدو لعين للإنسان والإنسانية!…نعم إن الفقر هو الذي سلب منه السعادة وترك له الأحزان…وهو الذي نحاه بعيداً عن حياته وعن أحاسيسه ومشاعره إلى درجة حرمانه من الشعور بدفء الفراش الذي كانت غرفته التعيسة بالأصل خالية منه كخواء معدته من الطعام وخواء قلبه من الحب والطمأنينة…فنادراً ما قُرت عينه من نوم وسُد رمقه من جوع واطمأن قلبه من شعور بالحب…كان يودع ليله ليستقبل نهاره كما ودعّه هو الآخر بدون جديد يفرح به أو يتفاءل به، في حين كان يرى بعض من أقرانه حوله يتذمرون ويشكون من التخمة…تخمةٌ من كثرة الطعام وتخمةٌ من كثرة الملابس وتخمةٌ من كثرة الدلال من ذويهم…تساءل على الدوام عن الفرق بينه وبينهم ليشقى و هم ينعموا، فلم يجد الجواب الشافي سوى القبول بالقدر…مسكين هذا البائس لم ينعم بلمسة حنان…أو حضنٍ دافئ…وكم اشتاق لرحمةٍ لم يجدها…أين يجدها..؟ أين يجدها..؟ كانت أحلامه أن يكون كأقرانه يلهو ويلعب ويتعلم ويأكل… يشعر براحة جسده أثناء النوم … يستيقظ من نومه ليجد نفسه هو كما هو…ذلك الطفل ابن الثانية عشر الذي سرق…نعم سرق… يا للهول ماذا سرق..؟ سرق “باكويين” من الشاي فقامت الدنيا ولم تقعد وزلزلت الأرض زلزالها…حوكم وسُجن وعُذِّب وقُتِل…نعم قُتل تحت التعذيب ورجت الأرض…نعم نعم قتلوه…..أراه الآن بين الملائكة يحقق كل أحلامه…كل ما حلم به وما لم يحلم به في الحياة الدنيا…أراه فرحاً في جنة الخلد…يضحك ويشعر بالحب ويلهو ويلعب…ويا للعجب فإني أرى جسده وقد أمتلأ نوراً وبياضاً وملامحه قد تبدلت واكتست سعادة وفرحاً وسروراً…ويا لإبتسامته الملائكية الطاهرة التي غابت عن وجهه في الحياة الدنيا مرةً قط!!…فرحتُ لك أيها الطفل…يا من كنت في الحياة الدنيا مظلوماً ومسلوب البراءة ويا من أصبحت الآن عند ربك ملاكاً في ملكوته…فطوبى لك يا من اغتيلت براءتك وأراها الآن تعود إليك…طوبى لك ويا فرحة قلبي.
ميمي أحمد قدري