سعيت إلى الابتعاد قليلا عن مجموعة “سفر تحت الجلد” للبشير الأزمي لسببين: أولهما شعوري بالاختناق بفعل صورة الغلاف، إذ جعلني الوجه الذي لا تظهر سوى بعض ملامحه، الأنف والفم، أشعر بصعوب التنفس، فذلك الوجه العائم تحت الجلد الفاقد لمسامه جعل الهواء لا يتسرب إليه مما يفيد، بالنسبة لي، عملية اختناق تسير باتجاه الموت. ثانيهما، أن العنوان كتب باللون الأحمر، مما زاد من استفحال الاختناق، والشعور بالخوف مما يحمل ذلك اللون من معاني ترتبط جميعها بالدم. لكنني، رغم ذلك، فتحت المجموعة، وشرعت في قراءة نصوصها، وقررت أن أقاربها لا بالطريقة التي اعتدتها، بل بالتلميح إلى ما يميز كل قصة عن أخرى إما شكلا وإما موضوعا. مشيرا إلى تفنن المبدع في بناء نصوصه وجعلها قادرة على شد انتباه القارئ، وإدهاشه وإمتاعه. تلك البراعة هي ما سأحاول بسطها بتركيز في هذه القراءة المتواضعة. وقبل ذلك تنبغي الإشارة إلى أن تيمات المجموعة هي نفسها تيمات مجموعة “بقايا رماد”، التي يقول رشيد عاشق عنها: إنها لا تكاد تنزاح عن السمات والملامح العامة التي تميّزت بها بقية المجموعات القصصية السابقة التي أصدرها البشير الأزمي لحدّ الآن: تسريد أوجاع الذات، اعتصار الذاكرة المشروخة، الكتابة كمقاومة ضدّ المحو والنسيان، شفافية اللغة .. وغيرها من الملامح الفنية والجمالية التي وسمت المنجز القصصي للبشير الأزمي، والتي تلقي بظلالها الوارفة على نصوص مجموعة (بقايا رماد). وردا على من يرى في المجموعة الجديدة نوعا من «إعادة تدوير» لنفس المادة الحكائية والتركيبة السردية والغِلالة الأسلوبية التي سخّرها الكاتب في أغلب نصوص مجموعاته السابقة تتحدث عن: تشظي الذات الساردة .. وهيمنة تيمات الليل والحلم والظل والموت والنافذة .. الحضور اللافت لصورة الأب والأم والجدّة .. العناية الفائقة بـتصوير الهواجس والكوابيس والأوهام بدل السرد التعاقبي القائم على الحبكة الحدثية المتنامية، الاستعانة بالإحالات الثقافية والتناصية، ترويض وتطويع اللغة القصصية .. فإنه لا أرى في هذا الإصرار أيّة نقيصة أو مثلبة، بل هي «محمدة» لا ينالُها سوى كبار الأدباء ممّن خبروا كهنوت الكتابة القصصية بجميع طقوسها ومدارجها ومراقيها .. ليخلصوا في النهاية إلى امتلاك «بصمة» فنية وأسلوبية متفرّدة لا تخطئها ذائقة القارئ بين بقية البصمات !! قلت أعلاه، إنني سأتناول المجموعة لا نقدا ولا بالطريقة التي اعتدتها، بل سأشير إلى ما أثار انتباهي في كل نص على حدة. وهكذا: أجد أن:
قصة “طائرة ورقية”:
يتلاعب السارد فيها بالقارئ في ما يشبه القص الوجيز الذي يطلب القارئ ويراوغه ببراعة قبل أن يكشف له أوراقه. وهي بذلك تشبه قفلة القصة القصيرة جدا التي تميل إلى تخييب أفق انتظار القارئ، وتحثه على إعادة القراءة بإعادة بناء النص؛ فالقصة في بدايتها توهم بأنها تتحدث عن المرأة، لنكتشف، في النهاية، أنها ليست سوى قنينة الخمر.
قصة “أنا والمرآة”:
تخاطب العين، وتمارس لعبتها البصرية ببراعة تقربها من الشعر؛ فقراءتها تستوجب الانتباه إلي طريقة عرضها على الصفحات. فقد تعمد المبدع على جعل بياض الصفحة عنصرا من عناصر بناء النص، وطرفا محوريا في تشييد الدلالة. وطريقة تشكيل القصة قربها من بناء القصيدة التفعيلية والحرة معا، حيث أتت فقرات النص لا بالشكل المعتاد؛ فقرة تتبعه أختها في تنظيم سطري لا يحيد، بل انزاحت عن هذا الرسم لفائدة رسم مخالف يمتع العين ويخاطب رؤيتها، فكان أن جاءت الفقرات متباينة التشكيل على صفحة الورق، مرة تأخذ بعنق البداية، وتارة تأتي في القلب، وأخرى في الطرف الأخير حتى لتبدو أنها ستفيض على الطرف الموالي للصفحة. مع تكرار شبه الجملة من حرف الجر من والمجرور المتنوع..
قصة “ظل الألم:”
تم اعتماد النافذة كفاعل في تحريك الأحداث وصياغة النص. فلو لم ينظر السارد منها إلى ما يجري خارجها لما تحقق النص. فرؤية السارد إلى الخارج مكنه من مشاهدة منظر مؤلم لامرأة تضرب صدرها وتشعث شعرها، الأمر الذي جعله يستعيد قصة أمه وأبيه وما اعتراها من توتر بسبب رغبة الأب في التعدد.
قصة “ملاح في لجة البحر”:
تم اعتماد المقابلة بين المواقف، بين فرح الأطفال رغم فقرهم، وبين الرجال العابسين بداخل المقهى. بين إقبال الأطفال على السارد وبين قسوة الكبار معه. وسنعثر على تقابل مماثل في قصة “تمثال بيجماليون”، مع بعض الاختلاف الذي يكمن في التضاد بين الكلمات لا المواقف رغم أنه يتضمنه. فالتقابل قام بين عنصري الجمال والقبح مع تكرار للفظتين بشكل كبير مما يؤكد بؤرتهما النصية.
قصة “الرجل ذو الأسنان الذهبية” :
نلاحظ تشكيلا شعريا للجملة الفعلية “أسيح”. فقد تم الاعتماد علي تكرار عليها، حيث نجدها تأتي في آخر فقرة، لتستقل بنفسها وحيدة في سطر ثم تظهر في بداية فقرة أخرى، فوقوفها بمفردها بينهما يمتع العين بهذا التشكيل الفني القريب من فن الرسم، وكتابة القصيدة، ويؤكد على محوريتها في الدلالة الكلية للقصة؛ وقد تحقق ذلك مرتان. وهذه التقنيات الشعرية ذات البعد البصري استغرقت العديد من القصص فضلا عن توظيفها النص الشعري المدمج في القصة، لأنه من صلبها.
قصة “حلم أزرق”:
في استهلالها يوضح السارد ما سبق ذكره من خلال قولة للشاعر اليمني عبد العزيز لمقالح مفادها: أن دفء اللون كدفء الإيقاع، كدفء المعنى كلها في العمل الفني طاقة خاصة. ولذا، نجد المبدع يستغل هذه الطاقة متنوعة المصادر في قصصه ببراعة تخرجها من النمطية والتكرار، ويمنحها بعدا جماليا وفنيا يمتع القارئ ويجعله يقبل عليها بشوق. يلعب اللون الأزرق في هذه القصة دورا محوريا، فعبر الحلم يتم استرجاع نقاش في المدرسة حوله، ويكون موضوع تفكير لدرجة سيغرق واقع الطفل الحالم حيث لن يرى سوى وجوه زرقاء للناس الذين يمرون قبالته
. قصة “أنامل الغيظ:”
نجد حضور تباين وجهات النظر في الموضوع الواحد، فقد كان الاختلاف بينا بين الحبيبين وهما يناقشان الأشكال الهندسية بكثير من الجد لدرجة وقوع خلاف بينهما ينتهي بالصد والتمنع. النص يعتمد البعد الحجاجي في المناقشة، وكل طرف يبغي إقناع الآخر بوجهة نظره لكنه يفشل، ليظل الخلاف قائما إلى حين.
قصة “أسرار النوافذ”:
تحضر النافذة بشكل كبير في قصص المبدع البشير، وتكاد تستغرق مجاميعه كلها، لدرجة أنها، هنا، صارت عنوانا، وستكون عنوانا شاملا لكل قصص المجموعة التي تحمل اسمها “نوافذ”. ولعل كلام الأم عن النوافذ في علاقتها بتسريب الأسرار هو بيت قصيدة هذه القصة، ومدارها. كما تلعب النافذة دور محرر المرأة من اعتقالها الرمزي في البيت، إذ تجعلها بأجنحة، وتجعل المكان رحبا يمكن النفس من الحرية عبر بعبورها وإن مجازا. القصة تقيم تعارضا بين المكان الضيق والمكان الفسيح، وبينهما عتبة النافذة التي تمكن الأم من التخلص من حبسها الطوعي ورهبتها من ضجيج العالم. وتستحضر اسمين إبداعيين مهمين في المشهد الثقافي تناولا النافذة بالحديث، وهما، الماغوط وبوزفور.
قصة “قوس قزح”:
ترتبط بالقسوة تجاه السارد جراء تدهور حالة بصره وسيره إلى معانقة العمى؛ قسوة من طرف الطبيب والأستاذ والإخوة مقابل ذلك نجد حب وعطف الأم الذي بلطف المشاعر. وتنتهي القصة بفقرة تتضمن حرف الجر “إلى” مرات عدة؛ يعبر عن الأعلي إلي الأسفل؛ وعن الأسفل إلي الأعلي؛ ثم عن الخط المستقيم، وفيها حركة تنطلق من السارد إلي الجهة المقابلة وهي السرير؛ وتحمل مقابلة بين العمودي والمنبسط؛ كما أتى يحمل معنى الغاية.
قصة “نسيج وأسياخ”:
نجد استدعاء شخصية الرسام غريب الأطوار؛ فان كوخ؛ وعقد مقارنة بينه وبين الذات الساردة تخلص إلي الاختلاف بينهما؛ وإذا كان النص يبدأ باستدعاء النوم المتأبي؛ فإنه ينتهي بنوم يحمل معه فزعا؛ حيث يشعر السارد بتصرف يشبه تصرف الفنان القاطع لأذنه.
قصة “صليل الأقراط”:
تحضر السخرية في صورتين:
1_المطابقة بين العنوان المرتبط بالصوت المرتفع، وبين الصمم الذي أصاب الأخ الأصغر للسارد.
2_ ذلك الصمم أدى إلي خلق مشاهد مؤلمة مرة، ومضحكة ثانية؛ من ذلك تخيل الأم بست آذان تمكنها من سماع دبيب النمل؛ وتنتهي بقيام الأخ بتقليد صوت الجراء معبرا عن حربته بعد أن فقد نعمة السمع؛ وهو ما أثر في الأم وترك في نفسها جرحا صامتا، لتغادر غرفة النوم المظلمة دون تأنيب؛ بل بألم في القلب. وتنتهي القصة بسؤال الما بعد.؟ ليأتي النص الأخير في المجموعة حاملا في عنوانه ذلك السؤال الذي صار جنائزيا.
قصة “ليل لا تجري كواكبه”:
تستحضر قولة الشاعر امرئ القيس الذي يتحدث عن ثقل وطول الليل، وما الليل في القصة إلا تعبير مجازي عن فشل قصة حب السارد الذي رأى قلبه يخدعه، فحط الظلام على نفسه وخيم عليها، وما وجد من وسيلة للتخفيف من ضغطه سوى بالبوح المقترن بالصباح والعصافير المرحة. والقصة لا تقتبس من امرئ القيس لوحده، بل من جرير وبشار. هذا الشعر الذي يطغى على كل القصص ويمدها بطاقة تعبيرية كبيرة، وخلق صور مدهشة ولذيذة. الشعر يحضر بقوة بذاته ومن خلال الأسلوب، وهذا يعلمنا بمدى تأثر المبدع بالشعر العربي قديمه وحديثه فضلا عن الشعر الغربي. ولعل طريقة تناول المبدع للموضوع الواحد هو ما يخرج قصصه من النمطية والتكرار؛ فالموضوع الواحد يمكن تناوله مرات كثيرة من خلال زواياه المختلفة، ويظل غير مستنفد، يحث على العودة إليه مرارا.