في سطحِ منزلها العتيق تجلس فاطم على كرسي صنعته من خشب وأقمشة بالية، رثة لم تعد صالحة للارتداء لكنها استعملها بطريقة أخرى لتصنع بذلك كرسيا جميلا جدا، وتبين أن الابتكار يكمن في كيف تبدع في الأشياء البسيطة التي تتوفر عليها، وفي يدها تحمل عُكازها فهي لم تعد تقوى على الحراك، أخذت تتأمل أطفال بلدتها يلعبون كرة القدم في الساحة المتسعة قرب منزلها بروح رياضية وحب كبير قلّما تراه لكنهم يلعبون بعفوية وهمهم الوحيد هو تحقيق الفوز، تجدهم تارة يلعبون بمنافسة وتارة أخرى يمررون المرة لبعضهم وكأنهم فريق وحيد، اغرورَقت عيني العجوز فآطم دمعاً حتى أتت حفيدتها رزن، مررت يدها الصغيرة على وجه جدتها هي التي تبلغ من العمر تسع سنوات قائلة : ما خطبك جدتي؟ أجابتها فآطم : آه يا بنيتي ذكرني هؤلاء الأطفال بشبابي سنة ٢٠٢٢ وبالضبط حينَ مرر المنتخب المغربي رسائل القوة والإصرار للكل، بل استطاعو توحيد قلوب العرب بل الناس من كل بقاع العالم في تسعين دقيقة ونشرو الحب والفرحَ فيها، ترد فآطم وهي متفاجئة : أ حقا جدتي؟ أعرف أن توحيد الناس كلهم قد يكون لضرورة صحية مثلا كجائحة تفرض عليهم قيودها وحفظا لصحتهم حينها قد يلتزمون بالإجراءات، لم أتخيل قط أن تتوحد قلوب الناس فرحاً بمنتخب ما وتشجيعا له فهل يمكنك أن تحكي لي قصتهم جدتي، تضم الجدة حفيدتها لصدرها، رتبت لها شعرها الطويل المنسدل الحريري وجعلته ضفرة جميلة، ثم بدأت في الحديث وهي تلعب بخصلاتِ شعرِ حفيدتها رزن،..
كان يا مكان قبل سنين من الآن وبالضبط سنة ٢٠٢٢ مُنتخب مغربي مقاتل تحتَ تدريب المدرب وليد الركراكي الذي أرسل رسائل نبيلة للكل في وقتٍ كان فيه شعبُ المغرب معذبا تحت ضغوط اجتماعية واقتصادية، جعلت الكل ينزف حرقة، يكفي أن تذهب لمحل لبيع اللوازم الأساسية للأكل فترى وجوه الشعب شاحبة، كئيبة كأنهم يقولون كفى للظلم فما عاد لنا قوة ولا حيلة لِمَ السيد والرئيس في قصرهم ينامون في راحة ونحن نتألم ما ذنبنا! ، وجه كل واحد منهم يظهر أنينا كبيرا غير مسموع يصدره القلب لكن بالإمكان رؤيته والإحساس به، وهنا كان تأثير وليد الركراكي و أبناءه كما أسماهم الشعب المغربي حينها شباب و أطفال وعجائز ، عرب وأمازيغ الكل باختلاف تلويناتهم ومعتقداتهم وقناعاتهم اتفقوا على أن المونديال ليس بالأمر الطبيعي البتة، فإحساس كل منهم بالانتماء إلى هذا الوطن الجريح جعلهم يتوحدون في التسعين دقيقة تلك بنفسِ الشغف ونفس الحب..
زياش ليس لاعبا وسط الملعب فقط بل هو درسٌ يسير ويعلم الجمهور المشجع أن صرخاته تلك تنم عن شحنة غضب لكل من أقصاه فحياته لم تكن سهلة البتة، حكيمي ذات مباراة عنق ابنه في المدرج بدموع فخر فابتسم له ابنه كما أنه يخبرنا أن بمجرد أن يحسسك الآخر بثقته بك، قد تغير اللعبة كليا لصالحك بشكل جنوني وروح قتالية، بونو علم الآخرين أن الثقة بالنفس والابتسامة في وجه الصعاب فوز، نصيري، بوفال، المرابط، كل هذه الأسماء وغيرها يا ابنتي لمعت في سماء الإبداع بالمغرب ذات يوم وعلمتنا أن الأمور لا تخضع دوما للمنطق بل أن “النية” أساسية للنجاح في أي شيء.
تبكي الحفيدة قائلة :أتممي جدتي، أتممي فالفؤاد خشع لما سمعته الأذن الظمأى في زماننا اليوم.
يا ابنتي في إحدى مبارايات المنتخب المغربي أذكر رُفعت الراية الفلسطينية عاليا، فأُرسلت رسائل كثيرة بذلك من بينها أن تطبيع الدول لا يعني أبدا تطبع الشعوب… المغرب يا عزيزتي كدولة صغيرة فرضت على الكل احترام دينها حين قرأ اللاعبون سورة الفاتحة دون أن يتطاول عليهم أحد،ارتدى الكل باختلافهم قميصا واحدا تحتَ شعار “حب الوطن يجمعنا ويجمع ما فرقته الاختلافات فينا”.
ما زلت أذكر ارتفاع الأسعار وقتها في بلاد ظُلاّم حكامها، في بلاد قطاعات كثيرة فيها متأخرة ومتدهورة التعليم، الصحة، الطب وغيرهم وفي وقت كان تعاني فيه الأراضي من الجفاف، استطاع هذا المنتخب الشامخ تحطيم كل ذلك البؤس ونشروا الحب والفرح وبعدها هطلت الأمطار بغزارة في المغرب بأكمله.
رأينا حب الأمهات وتضحياتهم يا بنيتي أما التعاون بين اللاعبين فهو خيالي، طموحهم والتضحية في سبيل الآخرين إنجاز وعظمة.
أ تعلمين يا جدتي أني أفتخر بكوني مغربية وأحب هؤلاء الذين ذكرتِ اسمهم واحدا واحدا، تعملتُ منكِ اليوم أن عبارة “دير النية” ورضات الوالدين، الوحدة والتضامن، السعي إلى إسعاد الآخر الاطمئنان النفسي والروحي بالتمسك بديننا الحنيف تعلمت أن هذه الأمور لا تقدر بثمن وهي كنز لن يفنى خلده المنتخب المغربي بل وأحيوه في نفوس الجميع كأنهم يا جدتي أتوا في وقتٍ مناسب حينها ليذكروكم بالأصل الخيِّر فيكم ويتركوا لنا معكم رسائل قيمة.
أمسكت الحفيدة يد جدتها وخرجتا إلى الأطفال الذين يلعبون الكرة، أعطتهم فآطم الحلوى وقالت لهم رزن “ديرو النية” وستنجحون ثم ذهبت الجدة ودموع الشوق والحنين تعانقها…