البصرة المدينة العصية على الاندثار,روح حية متجددة ,عبرت النكبات وقاومت الغزاة وانطلقت منها شرارة الثورات ..تراها الان في ساعة عرس تأريخي وقد نفضت عنها غبار الحروب وازاحت من عنقها القبضات الوحوشية ..وعادت لوحة فنية على ضفاف شط العرب ..حاولوا ان يبقوها بثوب الحداد لكنها استعانت بروحها المشعة وتدفقت لتعكس كمية من الافراح كانت كامنة فيها ..عملوا بجهد بليغ لابعادها عن اشقائها فخابوا ..ان الخامس والعشرين من ديسمبر ليس موعدا لمباريات كأس الخليج التي تقام خليجيا كل سنتين ,انها ثغرة وجدت فيها حركة التأريخ فرصة لتعلن الانقلاب الحقيقي على طباع مدينة الصقت بها … فالبصرة هي موطن الريادة للشعر وفيها انطلقت اهم المدارس النحوية واول المعاجم اللغوية (العين ), واستكمل فيها الفراهيدي بحوره الشعرية ..لا يمكنك ان تتخيل افاق البصرة وانت بعيد عنها وعن تراثها وامثالها وبساتينها وغنى الثروة النهرية والبترولية فيها وتنوع تضاريسها والطيور المهاجرة التي تقصدها كل عام ووفرة مناسباتها الشعبية والحقول اللامتناهية الخضرة والثمار .. وطيبة وبساطة اهلها وقوة الكرم والتعايش والتسامح .. فهي مدينة ساحلية اتصلت وتفتحت على العالم ..فلا يبعد المعبد اليهودي اكثر من مئتي متر عن المراقد والجوامع فيها قبل ان يتحول لمخزن للاثاث محتفظا بالكتابات العبرية على اعلى جدرانه .. وتتجاور الكنائس مع بيوت العبادة وتزخر شوارعها بالارمن والمسيحيين واليهود والبلوش والاكراد ومن مختلف الاجناس .. وهي زاخرة باقامة المعارض الفنية والادبية ..والمقاهي التي تحولت لملتقى الادباء والمثقفين ..فاذا جن الليل انطلقت فرق الخشابة ونقرت الطبول وتدفقت الالحان ( يا بو بلم عشاري .) ..وقد تلتقي بقالا اوتتحاور مع سائق فاذا هو شاعر يبهرك بما يحفظ او يسطر باللهجة الدارجة ..وسكانها يلتقون بالمقاهي هذا يتلو وذاك يثمل واخر يعزف الفيفرة بانفه فاذا حل غروب مضى كل الى غايته ليلتقوا في عصر اليوم التالي ولا احد ممتعض من احد .وقريبا من الملاهي ودكاكين الخمور التي تغلق مؤقتا تسوّد الجدران وتتدفق مواكب الزنجيل في عاشوراء .التي تستدل عليها في تلك المناسبة حين يستقطبك كل عام من مكبرات الصوت في ساحة ام البروم :(جابر يا جابر ما دريت بكربلا شصار ). لهذا كله لا يتفاجأ سكان البصرة خاصة من عاصروا السبعينيات وما قبلها من هذه الروح البصرية التي انهمرت مع خليجي 25 من فرح وكرم غامر شمل كل مناطقها وشوارعها وان تركز على ضفاف شط العرب حيث اقيم نصب للسندباد يلامس كرة القدم ونصبت سرادق للحفلات شارك فيها بصريون وخليجيون واختنقت الضفاف بالمحتفلين من كلا الجنسين ونحرت المئات من الابل احتفاء بالضيوف ..ليس ما حدث صدفة انها روح حية حبست طويلا ومع اول ثغرة ولحظة تأريخية سالت تمطر بهجة وتآزرا ومحبة ..دون ان يتواجد من اوصى اهل البصرة بهذا او خطط له ..وصادف مع خليجي 25 انهمار للمطر :
(كَأَنَّ أَقْوَاسَ السَّحَابِ تَشْرَبُ الغُيُومْ
وَقَطْرَةً فَقَطْرَةً تَذُوبُ في المَطَر …
وَكَرْكَرَ الأَطْفَالُ في عَرَائِشِ الكُرُوم ،
وَدَغْدَغَتْ صَمْتَ العَصَافِيرِ عَلَى الشَّجَر
أُنْشُودَةُ المَطَر …
مَطَر …
مَطَر…
مَطَر…
ومقلتاكِ بي تطيفان مع المطرْ
وعبر أمواج الخليج تمسح البروقْ
سواحلَ العراق بالنجوم والمحارْ،
كأنها تهمّ بالشروقْ
فيسحب الليل عليها من دمٍ دثارْ.
أصيح بالخليج: (يا خليجْ
يا واهب اللؤلؤ، والمحار، والرّدى!)
فيرجعٍ الصّدى
كأنه النشيجْ:
(يا خليج
يا واهب المحار والردى .. ).
وبمثل هذا الكرنفال نتجاهل ابيات الرائد البريكان :
(فهل غادر الناس احلامهم )
وانطوى مهرجان الحياة ).