
بعض الأصدقاء اقتسمنا معهم قليلا أو كثيرا من التوجس والحب والشغب والتمرد. عندما تقارن بينهم وبين ما يحدث اليوم، تُجزم بأنهم رغم بساطتهم عاشوا أبطالا، وماتوا أبطالا. وقفوا أمام المحن بكبرياء وشموخ. واجهوا قساوة الحياة بشجاعة وعزة نفس. رغم قلة ذات اليد، لم يفكر أحد منهم في الهرب من الجحيم الذي عاشه. تعلمنا منهم الكثير، وبقي المشترك بمِلحه وطعامه، مثل وشم لا يُمحى من الذاكرة.
خميس اسم مستعار لأحد هؤلاء الأبطال الذين ضغطت عليهم الحياة بقوة، لكنه لم يحنِ الرأس، ظل شامخا وكبيرا. أحب الحياة، وواجه حماقاتها بحماقاته، رغم أنها أخذت منه أكثر مما أعطته.
لترقد روحه الطيبة بسلام.
اللوحة الأولى
ألف خميس أن يدخل الحمام بشكل غريب، شكل لم يجرأ أحد على فعله من قبلُ ولا من بعدُ. يقف بعض أبناء الحي في المساء، يتبادلون الحديث بالقرب من دكان الحلاق. يمر خميس أمام أعينهم، وهو يجري عاريا، وحافي القدمين. يحرص على أن بروه، فيموتون من الضحك. ينادي عليه البعض، فيلوح بيده دون أن يلتفت، ويمضي في طريقه، ثم يختفي داخل الحمام.
يبعد المنزل بحوالي مائة متر، نصفها في الدرب، ونصفها في الزقاق. ينزع ثيابه داخل البيت، فيُبقي فقط على سروال قصير. ولا يحمل سوى آنية صغيرة من بلاستيك، يضع فيها المِحكّ والصابون و(الشامبوان) وثمن الدخول إلى الحمام. من شدة نحافته تظهر عظام جسمه بشكل بارز، ويبدو رأسه أكبر مما لو ارتدى ثيابه. يقطع المسافة جريا، ويفضل أن يكون الوقت مساء، والزقاق مكتظا بالمارة. لا يهم أن يكون الفصل صيفا أو شتاء. وعندما ينتهي من الاستحمام، يستريح قليلا في الجلسة حتى يبرد جسمه، ويعود جريا إلى البيت، وعاريا كما خرج منه.
إذا وجد بعض أبناء الجيران في الحمام، لا يتردد في مساعدتهم. يملأ لهم الدلاء الخشبية بالماء الساخن، وينظف أجسامهم من الأوساخ دون أن يشعر بتعب أو إرهاق بسبب حرارة الحمام كما يحدث مع أبناء المدارس.
اللوحة الثانية
اختفى خميس أكثر من شهرين في الجنوب. قال بأنه اشتغل في بيع السلع المهربة من الشمال. مع اقتراب العيد قرّر العودة إلى مسقط الرأس. لا بد أنه جمع مبلغا مهما من المال
وهو قادم في الحافلة، أخذته وحشة حارة لأهله وأصدقائه. تخيل قهوة المساء المُعطّرة بالتوابل، واستلذ تذوّق رغيف (المسمّن)، وصوت أمه وهي تردد اسمه بحنان:
ـ أين أنت يا خميس، القهوة والرغيف سيبردان؟
وعندما يكون في الخارج بمتجره الخشبي الصغير تنادي فاطمة:
ـ تعالي يا فاطمة، خذي الصينية بالقهوة والرغيف لأخيك، وانتبهي جيدا حتى لا تقع من يديك.
تستجيب الطفلة بسرعة لطلب أمها، وهي تتشوق لقطعة الحلوى التي ستحظى بها كمكافأة من خميس.
قرر أن يمنح أمه خمسمائة درهم، ومثلها لوالده، ويشتري لأخواته وإخوته ثيابا جديدة، وينفحهم بنقود العيد، لاقتناء كل ما يشتهون من حلوى، وأخذ صور للذكرى. لا يخصص إلا جزءا يسيرا لنفسه، ويحفظ الباقي كرأسمال يتاجر به في الأيام المقبلة عندما تنتهي العطلة، ويعود إلى العمل.
لحسن الحظ أنه نفّذ ما وعد به نفسه يومين قبل أن تجذبه لعنة القمار إلى خسارة كل ما بقي معه من نقود.
اللوحة الثالثة
في المساء تناول خميس لترا من الكحول الأحمر الذي يُعبّأ في قنّينة من بلاستيك. شَبّه ظرفاء مراكش شكلها ومفعولها فيما بعد بصواريخ (سكود) الروسية الصنع التي أطلقها صدام حسين على إيران ثم إسرائيل. لم تُهدّئ الخمر من غضبه. صعد إلى سطح المنزل، وانتقل بصعوبة بين سطوح الجيران، ليصل إلى الجهة المقابلة للزنقة التي يمر منها الناس إلى السوق، أو الأحياء المجاورة. بدأ يفضح ويشتم بعض أبناء الحي الذين سرقوا عرق جبينه، ويصرخ ويهدد بأنه سيُلقي بنفسه من أعلى، فتوقف حشد كبير من الناس، يتفرج ويترقب ما سيحصل بعد قليل.
قالت امرأة لا تعرفه لصديقتها:
ـ (ناري)* يا أختي، سيرمي المسخوط بنفسه من أعلى ، كان الله في عون والديه.
صفق أطفال الحي، وانتشى لسماعهم يُردّدون اسمه بشكل جماعي على طريقة تشجيعهم لأحد نجوم كرة القدم.
سأل رجل غريب عن الحي بعض الواقفين بجواره:
ـ ما لهذا الشاب؟ هل ركبه الجنون ؟ قد يفعلها، ويسقط من السطح. من يعرف منزله ليذهب ويخبر والديه، قبل أن تحل مصيبة ؟
اقترب خميس من الحافة، وعاد إلى الوراء في حركة بهلوانية توحي بأنه سكران. بعد لحظات خرج والده حافيا من البيت، نظر إليه بغضب، ثم رفع يده، وطلب منه إما أن ينزل، أو يرمي بنفسه من أعلى، ويضع حدا لهذه المسخرة، ويترك الناس يذهبون إلى شغلهم.
أرتبك خميس، لم يترك له الوالد خيارا للمناورة. ثم توجه إلى أبناء الحي الذين سرقوا عرق جبينه بالقمار. قال بسخرية ممزوجة بمرارة، وقد بح صوته:
ـ لن أرحل بهذه السهولة، سأبقى مثل خطاف صيد السمك في حلوقكم!
ابتسم ثم ضحك، وأخذ يجمع بعض الأحجار من فوق السطح، وبدأ يرمي بها الجمهور الغفير الذي وقف يتفرج. وأنهى بذلك حالة الترقب، واختفى عن الأنظار.
اللوحة الرابعة
اشترى خميس كل ما اشتهته نفسه. اقتنى دراجة نارية صفراء أيام كانت موضة المدينة، وحمل فوقها دكانه الخشبي الصغير، وسافر إلى مدينة الجديدة قاطعا مسافة حوالي مائتي كيلومتر، وخيم هناك شهرا كاملا.
ابتاع دراجة هوائية مثل التي تستعمل في السباقات، وارتدى اللباس الرياضي الذي يناسب ذلك، ووضع الخوذة فوق رأسه، وظل يقطع عشرات الكيلمترات في اليوم.
ابتلي بصيد الطيور، وتربيتها، وخصص نصف يوم أو أكثر للخروج إلى ضواحي المدينة. صنع لها الأقفاص بنفسه، وغنى لها، وغنت له.
جاءت موجة افلام (بروسلي). اقتنى بذلة بيضاء، وانخرط في ناد للتدريب. وعندما يعود في المساء، ويجد أبناء الحي جالسين بالقرب من باب المقهى، يستعرض أمامهم كل حركات (الكينغ ـ فو) التي تعلمها ، ويذكر حتى أسماءها.
وفي كل مرة يترك المتجر الخشبي الصغير أمانة في عنق أحد أبناء الحي نصف يوم أو أكثر. يعرف بأنه سيأخذ ثمن السينما، أو المسبح، ووجبة سريعة، وسيدخن بضعة سجائر بالمجان. لكن إذا حدث وحلّ بمتجره، وأخذ سيجارة أمامه، يأخذ المذكرة، ويُسجلها كدين عليه.
اللوحة الخامسة
احترف خميس عشرات المهن. حمل صخرة سيزيف إلى أعلى. تدحرج معها إلى أسفل، لكنه ظل عنيدا لا يستسلم، ولا يرضى أن يمد يده لأحد. يُقدّس أن يعيش من عرق جبينه إلى درجة العبادة. أخذ زوجته وأولاده، ورحل بعيدا عن مسقط رأسه. يسقط وينهض، ولا ينكسر. عمل بوابا لفترة، ثم فتح الله عليه باب الرزق مرة أخرى، فاجتاز امتحان السياقة، وحصل على الرخصة. اختلف الناس من معارفه. البعض قال اشترى شاحنة لنقل البضائع. والبعض قال اكتراها، لكنهم اتفقوا على أن دخله ارتفع، وحالته تحسنت.
يُروى والعهدة على الرواة، أنه أوقف في آخر أيامه الشاحنة في عقبة، ونسي أن يضغط على كابح الأمان، ثم ابتعد بحوالي بضعة أمتار. التفت فرأى الحافلة تتحرك إلى الخلف. إذا لم يتدخل بسرعة ستنقلب، أو تتسبب في حوادث لسيارات تعبر نفس الطريق.
عزّ عليه أن يقف مكتوف الأيدي، يتفرج على مصدر رزقه يضيع بهذه السهولة. آخر ما يفكر فيه خميس هو الخوف. ضربت رأسه الكثير من الجدران والأرصفة، لكنها لم تزده إلا قوة وصلابة. يعرف بأن بعض فتوات الحي أقوى منه، لكنه يقف معهم وقفة الند للند. قد يحترمهم نعم ، قد يخسر معركة نعم، لكنه لا يستسلم ولا يخاف أحدا.
حدث مرة أن حجزت السلطات متجره الخشبي الصغير، فأخذ زوجته وطفلته الرضيعة، واعتصم رفقتهما داخل مقر المقاطعة، أيام كان الاعتصام يؤدي بأصحابه إلى المقصلة. وضع القائد والخليفة وأعوان السلطة أمام خيارين، إما أن يعيدوا له متجره بكامل سلعته، أو يأخذوا روحه، وروحي طفلته وزوجته.
لم يسمح له إقدامه بالتفكير في العواقب. أراد أن يوقف حركة الشاحنة من الخلف، ويدفعها بيديه، لكنها كانت محملة ببضائع ثقيلة، ونظرا لضعف بنيته الجسمية، كانت المواجهة غير متكافئة. سقط خميس، ومزقت العجلات قفص الصدر. لم يقو هذه المرة على النهوض. تدخلت إرادة خفية أقوى من كل البشر، فأخذ ت الروح من الجسد.
المعجم
ـ ناري : لفظة تعبر في اللهجة المحلية عن الدهشة والاستغراب
مراكش 23 مايو 2021
رحمه الله. كانت شخصيته استثنائية، وكان كل ما يقوم به استثنائيا يثير فضول المتابعة . اكيد انه كان ” نبارا ” وكانت النقود تضيع منه بشكل واضح كما تضيع منه في ظروف غامضة( تضيع منه دون ان يشعر بسبب ” اتفوليجة ).
بعض الحلقات الأخرى ( للمثال لا للحصر) :
* حينما تعاطى للعب ” التيرسي ” خصوصا تاويله لمعطيات خيول السباق المدونة على ورقة المعلومات حيث كان يقول: ” هذه المعطيات كلها تدور حول خفة رجل البغلة لما تضغط على مسمار ”
* مغامراته في كرة القدم ، خصوصا أحد مباريات أبناء الحي بملعب باب دكالة حينما تكلف بحراسة المرمى. فأصبحت المقابلة عبارة عن فرجة كوميدية بالنسبة لابناء الحي، وكمصدر ” نرفزة ” للفريق الخصم حيث توقفت المقابلة بتراجيدية.
قصة من صميم الواقع، قصة ” مناضل ” ضد الفقر وضد الخمول، رغم أن بداية حياته كانت حياة ” حمق ولا مبالاة”.
سرد سلس يشد القارئ إلى معرفة المزيد عن هذا
” البطل” الحقيقي وفي القصة أكبر عبرة.
لاجف قلمك أيها الكاتب المبدع