قَيّد كورونا خروجك من المنزل بشروط قاسية. لا بد أن تتوفر على ترخيص من السلطة المحلية موقع من طرف (المقدم)*، وأن يكون لفترة جد محدودة، ومرة أو مرتين في الأسبوع، وداخل الحي الذي تسكنه، أو بالقرب منه. وألا تخرج إلا لضرورة مهمة، حددت نوعها في الترخيص. ولا بد من موافقة الزوجة أيضا لأنها هي التي تحدد ما سيحتاج إليه البيت من ضروريات. رتبت كل شيء، وأخذت لزوجتك أيضا ترخيصا. رغم أنها لا تستعمله. فمن يدري قد يحدث طارئ، كأن تمرض لا قدر الله ، وتحتاج لمن يخرج بدلا عنك.
فترة الخروج قد لا تتجاوز ساعة من الزمن. تتفقد التصريح، وتستعمل الكمامة، ولا تنسى القنينة الصغيرة للتعقيم، وورق (الكلينيكس)، وكأنك خارج إلى حرب ، وهذا كل ما تملك من أسلحة لمواجهة كورونا. أول مكان تقصده لرمي القمامة هو حاوية الأزبال ، وتتجه بعد ذلك إلى سوق صغير قريب من الحي لاقتناء بعض الخضر. ثم تنتقل بالدراجة العادية طبعا إلى المخبزة، وتعود أدراجك إلى البيت، وقد تُعرِّج على متجر المواد الغذائية القريب من المسكن.
تترك طريق المقهى المليء بالحكايات في الجهة الأخرى، وتكتفي بالالتفات ناحيته. تتخيله مقفرا، بعد أن سرق كورونا منه الحياة، ومنك لذة عبوره.
في البيت يتوزع الوقت بشكل روتيني بين النوم، وتناول الوجبات، والجلوس في المكتب، والقيام ببعض الحركات الرياضية.
تقضي وقتا طويلا في المكتب، ربما لأنك تجد راحتك في الجلوس فوق الكرسي، منذ إجرائك لعملية جراحية في الظهر. بين الفينة والأخرى تقوم وتتمشى في الممر، أو تذهب إلى الصالون، أو المطبخ لتبادل الحديث مع زوجتك، أو تدخل إلى غرفة ابنك.
البيت هادئ إلى حد ما. لحسن الحظ كبر العيال كما يقول المصريون.
وفي أحيان أخرى تشعر بالضجر، وتفتح النافذة، وتطل على الخارج. الزنقة خالية إلا من كلب ظهر مع الحجر الصحي. لا يضع كمامة مثلنا، ولا يخاف من كورونا. كلما رأى شخصا مارا يتبعه لعشرات الأمتار، ثم يعود إلى نقطة الانطلاق، لكنه في الليل لا يكف عن النباح، فيستقطب عددا كبيرا من الكلاب.
صوت بائع السردين الذي كان يدخل الحي باكرا، ويخرج مزهوا بعد استنفاذ آخر ما تبقى في الصندوق، اختفى منذ أكثر من أسبوع. الفتاة التي كانت تخرج خلسة من المنزل المجاور، لتقابل صديقها قرب عمود الكهرباء، لم تعد تفعل ذلك. صمت قاتل أزهق أرواح الأزقة وأخرسها.
بائع السردين الذي اختفى من الحي لا يفكر مثلك، ربما له انشغالات أخرى. لا يهمه أن يخرج أو يدخل. ما يهمه هو توفير الطعام لأبنائه. الآن زوجته ربما تبكي، وتكيل له الشتائم، وتلعن اليوم الذي تعرفت فيه عليه. وهو قد يضع رأسه بين يديه، ويدعو الله أن تصمت قبل أن ينفجر من شدة الضيق. عندما يختفي الطعام من البيوت، يحل محله الغضب والكفر بكل أشكاله، وقد تتطور بعض الخصومات إلى جرائم. لطفك يا رب !
بعد قليل تسأل زوجتك إذا كانت في حاجة إلى مساعدة في المطبخ ، فتجيبك بالنفي. آه من هؤلاء النساء، يعرفن بأن الحجر الصحي فرض على أزواجهن المكوث في البيوت، ولأنهم لم يتعودوا على ذلك، فهم مستعدون للقيام بأي شيء لتمضية الوقت. يلقنونهم درسا لإدراك معاناة النساء اللواتي يقضين فترات طويلة داخل المنزل.
تقضي بقية الوقت بين قراءة الرواية والقصة القصيرة والنصوص الشعرية وبعض المقالات، وتزور المواقع الإخبارية لتطلع على المستجدات. بعد ذلك تحاول الاتصال بأحد الأصدقاء، وتتبادل معه الحديث عن أحواله، وعن كورونا والحجر الصحي، وبعض القضايا المشتركة.
ورغم ذلك يمر الوقت بطيئا، وكأن عقارب الساعة قد توقفت. كم هو مخيف وقاتل توقف الزمن. ولدفع الملل والشعور بقلة ما يُعمل، تعود لمراجعة رسائل وسائل التواصل الاجتماعي. عشرات النصوص مكتوبة ومرئية ومسموعة، أغلبها يدور حول كورونا. منها ما هو جاد مثل عروض ومقالات الخبراء والاختصاصيين والأطباء والباحثين، وبعضها حول خرق الحجر الصحي، وبعضها عبارة عن أدعية وجمعة طيبة، ومنها ما هو هزلي يُرسل للترفيه، وقد يعبر عن مآسي، ومشاكل جديدة تسبب فيها فيروس كورونا. نصوص وصور قد تشكل مادة خصبة للإبداع في المجالين الأدبي والفني :
1 ـ مواطنة تبعث برسالة عبر (الواتساب) إلى معلم، يغلب عليها صوت قروي رخيم، تخبره من خلالها بأنها تظل مشغولة طيلة النهار بأعمال المنزل التي لا تنتهي، وهي غير متعلمة، ولا تستطيع مساعدة طفلها الذي تحب أن يقرأ ويتعلم. وتحكي له ما حدث من خصام بينها وبين زوجها بالأمس، وأنه شك بأن وراء الدروس شيئا ما، ولولا تدخل الجيران لارتكب حماقة، وتضيف بأنها منذ بداية الدراسة عبر الهاتف وهي تعاني، ثم تبكي، وتخبر المعلم بأن زوجها هددها بالطلاق، وتتوسل إليه أن يتوقف عن إرسال الدروس لابنها عبر الهاتف، وتوافق متحسرة على إمكانية تكرار ابنها للفصل هذا الموسم، وتتمنى أن تعود الدراسة إلى حالها السابق.
2 ـ مكالمة مسجلة ضمن شريط صوتي، تجعلك تموت من الضحك، وهي لمواطن يتحدث بلهجة بدوية، يتحسر على أنه لم يعد يشرب في زمن كورونا بعد إغلاق متاجر الخمور، وفقد شهية الأكل، ومُنع من الخروج، وزوجته تنام بعيدا عنه في غرفة مجاورة كما أمرت بذلك وزارة الداخلية، ثم يضيف بأنه قُهر. وينفجر في نهاية الشريط بالبكاء.
3 ـ رسالة خطية تحكي عن حاج اشترى كمامة، وعقّمها بالكحول، وعندما لبسها سكر، والآن تراه (معربط)* في الدرب.
4 ـ تسجيل آخر لمكالمة صوتية بين مواطنين من إحدى قرى المغرب المنسي، يجيب فيه أحدهما عن سؤال الثاني، ويوضح له بأن زوجة فلان هي التي نقلوها إلى المستشفى يوم الأحد، وقد وجدوها مليئة بمرض كوفي 2014. وبعد ذلك جاء الرجال الذين ذهبوا إلى إيران للبحث عن النووي يرتدون الأقنعة، ولباسا بلاستيكيا أبيض، وأخذوا الجميع.
5 ـ فيديو هذه المرة من وراء البحار لرجل أجنبي يجلس في المطبخ عاري الصدر، أمامه على المائدة علبة حليب مبستر، وكأس مملوء إلى النصف. وبين لحظة وأخرى يرفع العلبة فتظهر زجاجة البيرة، يحتسي منها جرعة أو جرعتين، ثم يخفيها أسفل العلبة. ويضع يده على الكأس متظاهرا بشرب الحليب.
6 ـ أم تَعِدُ طفلها إذا هدأ بأنها ستسمح له بإخراج النفايات.
7 ـ امرأة تسخر من المناصفة، وتقول بقينا نطالب بالمساواة مع الرجال حتى استجاب الله، وأصبحنا كلنا ربات بيوت.
8 ـ شبان ينصحون البنات اللواتي لم يخرجن هذه الأيام. بأن هكذا شأن الزواج، لكي يتم التفاهم من الآن.
9 ـ امرأة تضجر من تواجد زوجها طيلة النهار في البيت، وتطلب منه أن يخرج قليلا إلى الزنقة، فيرد عليها بأن البوليس سيسجل عليه مخالفة. فتقول له : أخرج أنا أؤديها عنك.
10 ـ صديق من معارف الفايس بوك يدعوك لأداء الصلاة جماعة خلف إمام عبر تقنية (اللايف)، في غياب أي فتوى من ذوي الاختصاص، فتذكره بنكتة قديمة غابت عن ذهنه، مفادها أن مواطنا سأل في برنامج ركن المفتي : هل يجوز له أداء صلاة الجمعة بالبيت خلف الإمام في التلفزيون ؟ فسأله المفتي باستهزاء إن كان يتوفر على ثلاجة فليغطيها بقطعة قماش أسود، ويطوف حولها لأداء فريضة الحج.
11 ـ صورة لمواطن نحيف اتكأ لوضع القفل لدراجته النارية، ووضع الكمامة على مؤخرته مصحوبة بتعليق يحيل على أنه سأل المقدم أين يضع الكمامة ؟ وكان المقدم في حالة غضب (طالع ليه الدم).
12 ـ امرأة قامت تصلي الفجر، وأيقظت زوجها ، غير أنه طلب منها أن تطفئ الضوء، وتتركه ينام، لأن مكة نفسها مغلقة هذه الأيام.
13 ـ شاب يحكي عن والديه أنهما لمواجهة الملل والفراغ، جلسا يتحدثان، والكلام يجر إلى كلام حتى اكتشفت أنه لم يتمم لها الصداق، فشنقت عليه.
14 ـ جار يتخاصم مع زوجته ، فتطلب منه الخروج من البيت، فيرد عليها بأنه موجود في المنزل بمرسوم من وزير الداخلية.
15 ـ ميكانيكي من كثرة جلوسه في البيت، يكتشف بعد تركيزه على مشية زوجته بأنها تعرج، وتميل شيئا ما إلى اليمين.
16 ـ تلميذ حصل على نقطة يتيمة في مادة التربية الإسلامية، لشدة صدمة والده، بدأ يسأله بين الفينة والأخرى: من هو ربك ؟
17 ـ ممثل كوميدي يتأسف لحال السعوديين الذين بمجرد ما فتحوا الحانات، جاءت كورونا وأغلقتها. لم يمرحوا، ولم يبقوا على علاقة حسنة مع الله. وقع لهم مثل ما حدث للمرأة التي جاءت إلى العرس، فنامت في السلالم. فلا هي تعشت، ولا هي تفرجت.
18 ـ أم ترى عيني ابنها حمراوتين، فتسأل متوجسة هل أصيب بكورونا. يجب الابن بالنفي، ويعلل احمرار عينيه بأنه فقط سكران، فتحمد الله وتشكره، وتطلب أن يرضي عنه.
فجأة تتذكر بأن كورونا الذي تسخر منه رفقة أصدقائك في رسائل (الواتساب) يخطف أرواح العشرات من الناس في الخارج. ومن قال بأنه لا يتجسس عليك ويراقب ما تفعل، وقد ينتقم منك عندما تخرج لقضاء حاجة ما. شعرت بنوع من الخوف. بدا لك أن السخرية من كورونا مثل أكل ثمار الصبار، كلما أكثرت من تناولها، وجدت صعوبة في هضمها.
المعجم:
ـ المقدم : عون يمثل السلطة في حي من الأحياء.
مراكش 21 أبريل 2020