1
عدت إلى البيت في منتصف النهار. فاجأني أخي الأصغر برسالة من الوزارة كان قد رماها ساعي البريد من شق الباب.
فتحت الظرف، ويداي ترتعدان. قرأت بارتباك صامت أسطر قليلة مرقونة بلغة جافة. توقفت عند عبارة (تقرر تعيينك في إطار الخدمة المدنية بإعدادية بومالن دادس لشغل منصب أستاذ س2 لمادة اللغة العربية). امتزج الفرح بالخوف. فرحت بإفراج الوزارة عن قرار تعييني الذي تأخر كثيرا، ولم يصل إلا في بداية شهر دجنبر رغم توقيعه في فاتح شتنبر من سنة 1982. خفت من جهلي المطلق بهذه البلدة وطبيعتها ! أين تقع في الوسط أم الشمال أم الجنوب ؟ قريبة أم بعيدة ؟
لا أحد في البيت يستطيع أن يخفف عنك التشويش الذي غطى به اسم هذه البلدة على ما غمرك من سرور.
تذكرت حكاية الأم التي ذهبت مع ابنتها المعلمة تسال في نيابة مراكش عن مدينة (طاطا) فأجابها احد المساعدين التقنيين آنذاك بعد أن ناولته نسخة من التعيين، نظر إليها مليا ثم قال بأن (طاطا) تقع بالقرب من المطار. غمرتها فرحة كبيرة، وهي تعتقد بأنه يشير إلى حي المحاميد المجاور لمطار المنارة بمراكش. رفعت المسكينة اكفها إلى السماء وقالت : الله كم هي قريبة وعانقت ابنتها من شدة سررها! ثم أضاف بان بين الطاء والطاء ألف كيلومتر.
اللعين كان يقصد بقربها من المطار أن السفر إلى (طاطا) يحتاج إلى ركوب الطائرة. انهارت المرأة، وشعرت بركبتيها لا تقويان على الوقوف.
خرجت من البيت. سالت العديد من الأصدقاء في الحي عن (بومالن دادس). اختلط على بعضهم الأمر، فلم يميز بين بومالن وإقليم بولمان. عدت خائبا. لم أتمكن من معرفة المنطقة. انتظرت حتى المساء. صديق ينحدر من منطقة (تلوات) هو من سيرشدني إلى البلدة، ويوضح بأنها تنتمي إلى إقليم ورزازات، وتقع بين قلعة مكونة وتنغير، وأنها تبعد عن مراكش بحوالي 320 كيلومترا.
جفا النوم عيني في الليل. بت أفكر فيما سأحتاجه إذا أردت السفر إلى بومالن، وهي منطقة بعيدة، وليس لدي بها معارف. سأحتاج إلى سكن وفراش وغطاء، وتجهيزات منزلية. أستيقظ بين الفينة والأخرى، فأتذكر تجهيزات المطبخ، وأرى بأني محظوظ لأني تعلمت فن الطبخ قبل الذهاب إلى الجامعة بسنوات. قدرت قيمة هذه الحاجيات بعشرة آلاف درهم في الحد الأدنى. مبلغ كبير لم يسبق لي رؤيته حتى في الأحلام. مساء اليوم الموالي ذهبت إلى متجر عمي، جلست أكثر من ساعة، انتظر انصراف بعض أصدقائه، لأحدثه في موضوع خاص على انفراد. طلبت منه أن يقرضني مبلغا من المال بعد أن أخبرته بتعييني في منطقة نائية. دفعني التردد والخجل والخوف أيضا من افتراض أن أعود خائبا إلى تحديد هذا القدر في ألف درهم. عندما تسلمت المبلغ كدت أطير من الفرح. ندمت على عدم طلب قدر أكثر من المال. أقنعت نفسي في النهاية على أن هذا المبلغ سيساعدني في التغلب على بعض المشاكل التي قد تعترض بداية مشواري العملي لمدة شهر على أكثر تقدير، وهي مدة كافية لتدبير أموري فيما بعد. ولأخفف من ندمي أكد لنفسي أن البدايات دائما تكون صعبة.
بعد يومين سافرت مع صديقي رفقة والده إلى قرية (تلوات) حيث بتنا هناك حتى الصباح.
(تلوات) قرية صغيرة هادئة يلفها صمت عميق، تقع بين أحضان جبال الأطلس قرب نهر صغير. تؤدي إليها طريق معبدة بين (تيشكا) و(اكلموس) تنحدر يسارا حوالي عشرين كيلومترا. ضيوف كبار وكُثر من أوروبا، ومن المغرب، مروا من هنا بالأمس. في (تلوات) خرجت مع صديقي في المساء. أشار بيده ناحية اليمين لأرى أطلال قصر الباشا (الكلاوي)* بجانب ضفة الوادي. خلفه جبل يخفي الغابة التي كان يتخذها مجالا للصيد. في الليل بعد العشاء سيطوف بي على العديد من المنازل، وسأسمع ولن أفهم إلا ما ترجمه لي من القصص والأخبار حول الباشا وأسرته، وزيارة المغفور له محمد الخامس للبلدة، والنهب الذي تعرض له القصر في فترة الاستقلال من طرف رجال المقاومة. أما الساحة الموجودة أمام القصر، وتمتد على طول حوالي 600 متر وعرض 200 مترا. فقد كان جزؤها القريب من باب القصر مخصصا لجلوس الباشا رفقة أصدقائه وضيوفه ولرقصة أحواش. أما الجزء الثاني فقد كان مخصصا (للتبوريدة)*. وبين الفينة والأخرى كان الباشا وأصدقاؤه يتنافسون على من يسدد بندقيته أحسن، ويصيب اكبر عدد من البيض الموضوع بشكل متفرق فوق أسوار القصر الذي أصبح اليوم عبارة عن أطلال يعشش داخل جدرانه المهترئة الحمام. والبعض يبالغ، ويستبدل البيض بالإبر.
الابن الأصغر للباشا كان يزور البلدة رفقة بعض أصدقائه الفرنسيين بين الفينة والأخرى، ويطلب من السكان أن يحتضنوه بنفس الحفاوة التي كان يتلقاها والده. لم يدرك المسكين بان القرية بعد انهيار مجد الباشا، أصبح وضع سكانها على قد الحال.
صباح اليوم الموالي أهداني صديقي جلبابا صوفيا، وحذرني والده من شدة البرد بمنطقة بومالن. وصلنا مدينة ورزازات حوالي الحادية عشرة صباحا. تناولنا طعام الغذاء في بيت احد أفراد أسرة الصديق الذي سافرت رفقته. في النصف الثاني من اليوم سأركب سيارة طاكسي كبير إلى بومالن دادس.
في الطريق أثار انتباهي أسماء بعض البلدات (ها سكورة) لاحظت بان الهاء في بداية الكلمة تشبه أداة التعريف في اللغة العبرية التي درستها سنتين بالجامعة ، لكني أهملتها فيما بعد. في (تلوات) استحضرت الطريق التجارية القديمة التي تربط تافيلالت بمراكش. خمنت بأن العديد من المراكز التي كانت تمر عبرها القوافل ربما تواجد بها بعض اليهود الذين كانوا يغذون هذه القوافل بمنتوجاتهم من الصناعة التقليدية.
بين (سكورة) والقلعة منطقة سأشبهها فيما بعد مع نفسي بصحراء القمر. حجر أسود من حجم متوسط متشابه وسط نبات شوكي قصير رمادي، استوردته وزارة الفلاحة، وزرعته في المنطقة.
كنت كلما وصل الطاكسي أو الحافلة إلى هذه المنطقة أغمض عيني، وأتظاهر بالنوم، وأحلم وأنا مستيقظ، لأهرب من الاكتئاب الذي يولده في نفسي منظر هذا المكان الذي يتحول بين الفينة والأخرى إلى سراب على امتداد البصر.
دخل الطاكسي قرية (قلعة امكونة). وهي واحة خضراء وهواؤها رطب ومعتدل .شكلها يسرّ الناظرين.
بعد عشرين كيلومترا أخرى وجدت نفسي في (بومالن) أمام السوق الأسبوعي. سألت السائق عن الثانوية، فأشار إلى عقبة، وطلب مني تخطيها وبعد ذلك ستظهر الثانوية. العقبة عالية وطويلة، شُيدت فوقها منازل متفرقة من الاسمنت أغلبها في طور البناء. لم أكد أصل إلى نهايتها حتى كاد قلبي يخرج من مكانه. جلست فوق صخرة لأستريح قليلا. أشعلت سيجارة. نظرت إلى الأسفل. بيوت من طين بعضها على شكل قصبات تحمل عبئ تاريخ قديم. ساحة كبيرة تحيط بها أقواس تخفي دكاكين حديثة البناء، ووسطها ساحة كبيرة فارغة سأفهم فيما بعد بأنها ساحة السوق الأسبوعي. هناك في الخلف يتسلل الوادي مثل ثعبان بين أشجار التين واللوز وعيدان القصب الشديدة الخضرة.
كانت الساعة قد تجاوزت الرابعة بعد الزوال بقليل. عندما دخلت الثانوية لم أجد رئيس المؤسسة. استقبلني أحد الحراس العامين. وسأل إن كنت أعرف احد الأساتذة في المؤسسة فأجبت بالنفي. طلبت جرعة ماء. كان حلقي قد جف نتيجة الجهد الذي بذلته لتسلق العقبة. ذكر لي بعض الأسماء عرفت من بينها واحدا. نادى على مساعد تقني، وأمره بأن يدلني على بيت الأستاذ الذي تعرفت على اسمه.
الهامش :
ـ الباشا الكلاوي أحد كبار القياد الذين أحكموا القبضة على جنوب المغرب بدعم من الاستعمار الفرنسي.
ـ التبوريدة : حفل تقيمه القبائل بعد موسم الحصاد . يتشكل من فريق من الفرسان ما بين 15 و30 ييرتدون زيا خاصا، ويحملون البنادق التي تعمل بالبارود في ساحة سباق بطول حوالي 500 متر . والحفل تتخلله طقوس خاصة قبل أن يُختم بإطلاق البارود من البنادق دفعة واحدة بعد توجيهها إما إلى السماء، أو إلى الأرض.
مراكش في 17 نونبر 2017