نسيت أنفاسي بين عواصف من الخوف وانا اهوي فجأة من شاهق مشرف على عالم لم ارصده يوما في مساحة الذاكرة البعيدة والقريبة, كنت في تلك اللحظة أعظم مذعور في الكون،اتتبع لحظاتي القادمة وهي تمحو أبعادي في الفراغ محوا تحيله الى عدم ضبابي كل فكرة فيه تغدو ثرثرة في أذن الريح الصماء, لم أعد ادرك علو الشاهق الذي وقعت منه لكنه كان مثل شفا الهاوية
اين كنت؟ لا أدري..!كدت انسى كل شيء، بيد أني تساءلت
أ كنت في طائرة وزلت قدماي فجأةعندما انفتح بابها السميك المعوج ؟
أتحولَ جسدي الى قشة وبصقتني عاصفة لتنتشلني فضاءات النجوم البعيدة ؟
أم أن جسدي صار فقاعة آيلة الى السقوط و الانفجار؟لكني كنت أدرك أني وجدت نفسي حرا في الفضاء,الذي لا أستطيع الوقوف فيه اوالحركة ,بل لا استطيع ان اسبح فيه شبرا واحدا, تساءلت ربما أنني انتشلت فجأة من علو عائم في زرقة السماء السحيقة , ورُميت هكذا الى الأرض.لكن الذي تيقنت منه هو انني في الفضاء .
كانت هذه الشهية العابرة للتساؤلات لا يتجاوز عمرها أعشارالثانية,لكنني كنت أشعرها أطول من القرون السحيقة .
كانت امواج الهواء تضغط كل بدنيوتلفني مثل شبكة عناكب أحكمت نسجها عناكب الجن و الإنس . وكل الذي أدركه الان أني بقيت واقفا كهيئة المصلين او كوقفه كاهن سومري ينظر الى آلهته بخشوع,تبتلعني مطبات هوائيةأشبه بدوامات العواصف الرملية الهوجاء, اذ احتوشتني من الاعلى الى الاسفل وذات اليمين وذات الشمال تغمرني بالوان صفراء تارة وتارة حمراء باهتة , شعرت حينها بالقيء من اللحظة الاولى ,لم اعد اتكلم, كأن لساني قد تسمر في سقف فمي, ولمأعد اقوى على ايةصيحة, ولكن تذكرت ..الصياح لمن؟ و الاستغاثة بمن؟ فانا الان سادن مملكة الاموات,كان كل شيء أمامي مكفن بالموت لذلك استسلمت لقدر يقودني بسرعة أعظم من سرعة صاروخ عابر للقارات , لم اعد اشعر بحجم بدني او مكان يدي او رجلي اوعيني او انفي وكل شيء وكأني شبح يشبه صورتي , لكن مازلت أتأمل الفضاء بوعي ورهبة,وكنت أبصرما تحتي من المدينة، وصرت أرى صورتهامثل تلك الصورة التي رأيتها وأنا مسافر في الطائرة يوما ما, كانت تضاريس المدينة وبيوتهاتبدومن تحتي صغيرةكأنها تشبه خريطة في كتاب الجغرافية الذي درسته في سنوات الدراسة الابتدائية,نظرت الى ماتحتي مرة اخرى,شعرت كأن كل اوتاد الارض تسحبني اليها, الى الارض الى ممحاة اسمي وخفايا اسراري اذن هذهاول صور الموت وخارطة عذاباتهأسحبها وتسحبني بجنون يبعثر اسمي كما بعثرت اسماء ابائي واجدادي قلت:انا لست طائرا غريقا يبحث عن الشمس لتطهر جنحيه, انا سقطت من شاهق لا أعرف ارتفاعه لكنه أعلى من تحليق طائرة ركاب مدنية .
اذن هكذا سيجف نسغ الحياة …. الريح والألوان الباهتة اخذت تحيط بدني وتطمرني تارة بالضباب وتارة بشعور أني سوف اكون بعد برهة من الاموات, قلت مرة اخرى:الان ستنتهي حياتي , سأموت…
كانت هذه أعمق عبارة فلسفية تعبر عن فجيعتي أسعفتني بها معاجم الخوف والرهبة,كانت مثل اخر عبارات نبي لأخر تابع له وقف ليودعه, أما أنافلم أطلقهالأحد بل هي حروف الحشرجات المبعثرة تشابكت وتشكلت بغتةفكانت نعيا لنفسي لذلك صرت مستعدا للموت ,و لم يعد امامي سرابا ,بل حقيقة تظهر في صوتي وبصريو تطبق على كل بدني وصرت أراها بوضوح شفرات تفككت اسرارها لتفتح باب القبر امامي بعد فجوة زمنية اصغر من نهاية القدر وهو يتلاشى في ظلام الازل.
اذن اقتربت من (الوقت الضائع) نحو القبر وهاجس الموت يلتصق بعيني, يحيط بعنقي ينفد الى صدري , وبدأ يكمم انفاسي المضطربة اليائسة و مضى يربطني بإحكام ثم يجرني بعدها بحبال سميكة الى الارض .
كنت لا أزال أبصر الأشياء تحتي.
لكن منظر الحدائق العامة بدأ يظهر بوضوح , ومنظر الخضرة بدأت تدركه عيني ومعالم الشوارع العامة بدأت تتضح,من دوائر ومنعطفات, كلها اخذت تتوضح بصورة اكثر والغريب أني كنت متيقناأني صرت من الأمواتأومثل طريدة أصيبت بمقتل تنتظر ان يأتيها رسول الموت .
قلت: لا مناص من لحظة قادمة تفتح باب القدر لأطل على ما كتب في كتاب الايام,لكني كنت أدركأني مازلت حيا من جفاف فمي, وحرقة في عيني اليسرى, لكني لاادري لما ذا تسمرت عيني بمنظر المدينة ألأنها ستمثل تراب قبري القادم؟ ان لم يدركني أهلي ويبعثوا بجسدي الى( مقبرة وادي السلام ) ؟
ام انها لحظة حب جارف لأم انبثقت منها , وأني منقلب اليها بعد لحظة.
تأملت المدينة التي سوف أفارقها,بيد أني مازلت يقظا , لست في غيبوبة ,نعم إنني سأموت بعد لحظات, لكني بوعي تام إذ لم يعد يخيفني حسيس الهواء الذي يلفني مثل كفن لدرجة أني لم استطع ان انتشل انفاسي ,لكني استسلمت لقدري وأني سوف اموت, كنت قد وصلت الى مسافة قريبة جدا بدأت بها أشجار المدينة تتضح أكثرفأكثر,وبدأت اسمع دوي كدوي الرعد , كان ثمة خدار بدأ يسري بسرعة في جبيني,
اذن هذه النهاية استعد يا طالب للموت ….أغمضت عيني وتمتمت…يافاطمة الزهراء …..
كانت اللحظة القادمة هي عشر من الثانية تفصلني عن الموت, في فجوة زمنية لاتقاس بميزان للزمن ,إنها لحظة إزهاق الروح كيما اتحول بعدها الى جثة هامدة ,انتظرت برهة ولم يفارقني الفضول لاستشعارها و مضيت هاويا ’لازلت في سقوطي,ولكن ضغطات الهواء والفضاء لم تعد تلفني كما كنت منذ لحظة ,ولم أعد مغمورا بشي , تحسست وجهي فإذا به حرارة الحياة نظرت إلى الأسفل, صرت على بعد بضعة أمتار من الارض …..
ها أنا اذا فوق ساحة المدينة……ياويلتي
وجدت نفسي ..أهبط,أهبط باتزان متوان وبكل سكينة , (لاندنك سيفلي ) كما يقول الانكليز هبوط بسلام, تجرأت و مشيت على الأرض، لم أعثر في أثناء هبوطي وكأنني استأنفت مسيري مرة اخرى , غير انني عندما تحسست وجهي مرة أخرى , كان العرق البارد يتفصد من جبيني , شعرت بسعادة غامرة … اذ أيقنت إنني في … حلم.