توصيف عام
“ذكريات عصفورة” مجموعة قصصية قصيرة جدا، صدرت عن دار الوطن للصحافة والطباعة والنشر ، وجاءت قصصها في 128 صفحة من الحجم المتوسط، وبغلاف جميل من تصميم نجية الحبشي، تتوزع صفحات المجموعة علاوة على القصص،إهداء، و قراءة نقدية للدكتور جاسم خلف الياس، وتقديم للناقد الأدبي محمد رمصيص، تليه كلمة مختصرة لمؤلف المجموعة حميد ركاطة، وبعدها قصص المجموعة ويبلغ عددها 99 قصة قصيرة جدا، تنتهي بسيرة إبداعية مختصرة للكاتب.
عنوان المجموعة
“ذكريات عصفورة…” العنوان بهذه الصيغة مركب إضافي مؤلف من كلمتين، ذكريات ، وعصفورة، ليفيد بذلك الإضافة المعنوية التي تفيد التخصيص.
والذكريات جمع للذكرى، والذكرى تعني من بين ما تعنيه استحضار أحداث وقعت في الماضي، وعلقت بالنفس، لما لها من وقع وأثر عليها، وقد يتعلق الأمر بما هو محمود أو بعكسه.
أما العصفورة فهي مؤنث العصفور، والعصفور جنسُ طيرٍ من الجواثم المخروطيات المناقير، لها صوت جميل.
وهنا يطرح قارئ العنوان سؤالا عن مدى معرفة ذكريات عصفورة، وهي من جنس الحيوانات التي لا نعرف لغتها، فكيف نتحدث عنذ ذكرياتها، والذي يبدد السحابة الغاشية للمقصود هو القصة القصيرة جدا الواردة في الصفحة الثانية والأربعين والتي تحمل نفس العنوان وقد جاءت كالتالي:
“وهي جالسة على عتبة باب متداع، كتبت على أحد جدرانه”ممنوع الدقان” كانت تلاحق بعينيها، كل عابر للزقاق، لحظة مر رجل أعمى …توقف قليلا، ثم استأنف سيره مبتسما… ضحكت العجوز كثيرا، ….. تنهدت طويلا….، ثم بكت بمرارة، أيامها الخوالي معه.ص42.
قصة تحيل على كون العصفورة هي المرأة، شبهت بالعصفورة يوم كانت فتية تعيش في زمن الصبا والشباب لتصير على ما صارت إليه هي ومن معها في هذه اللحظة.
وقد شفع الكاتب العنوان بثلاث نقط للحذف، ليعني بذلك ـ من بين ما يعنيه ـ إن في المجموعة ذكريات لشخصيات أخرى، وهو ما سنجده في بعض القصص، كما في قصة “…لا زلنا على الطريق”، وقصة” من يوميات شيخ قريتنا” وقصة “فوضى” وقصة “حكاية قطار”…قصص تتعالق والذكريات باستحضارها جزءا من الماضي.
لوحة الغلاف
لوحة جميلة مركبة بفسيفساء من الألوان الساخنة والباردة بخلفية يطغى عليها الأخضر مخترقا بمساحات هندسية فاتحة. ويبدو أن فتاة تحمل مظلة هي المفردة التي تشكل موضوع اللوحة، وكأنها تحتمي من ذكريات مختلفة تنهال عليها كالمطر.
لوحة جميلة تشكلها تراكبات واحتشادات لونية هرمونية ماتعة للعين.
والغلاف بهذه اللوحة يشكل مفتاحا لمعرفة المقصود بالعصفورة باعتبارها فتاة أو امرأة لها ذكريات تستحضرها وهي تعيش زمنا وعصرا مختلفا عن الذي عاشته في ما ضيها.
قراءة عابرة في متن المجموعة
التكثيف
الإيجاز والتكثيف من أبرز سمات الشعر والقصة القصيرة جدا باعتبارها أقرب إلى الشعر من حيث نسيجها، فهو يعمق التعبير عن القضايا بشكل بلوري كثير الإيحاءات والتأويلات التي تختلف من قارئ إلى آخر، فالتكثيف مولد الدلالات وهو الضامن لانفتاحية النص وتواصليته مع القارئ…إنه يجنبنا الإطناب، ويعمل على تهييج الإحساس وإثارة الخلجات، ويستدعي التأمل في المراد السردي…وبذلك يخلق القارئ الإيجابي المساهم في التأليف عبر القراءة.
والمجموعة القصصية محبوكة عبر تكثيف مقصود لتحقيق ما أشرنا إليه وغيره، فلا تجد قصة من قصصها خالية من هذا التكثيف الذي يحول أجواء القصة حدائق ومتاهات تحتاج التريث للتعرف على منعرجاتها ومسالكها.
يقول الكاتب في قصة “بائع الأوهام”
(في أكياسه دواء لكل داء، وقضاء لكل حاجة، ودرء لكل مكروه، من وراء المتحلقين حوله، كانت زوجته تنظره بفارغ الصبر لمرافقتها لزيارة طبيب مختص.) ص 77.
الكاتب أوجز الكثير من المتناقضات والمفارقات الصارخة التي تعم جل المجتمعات عبر شخصيتين، شخصية تصطاد فرائسها عبر الإدعاء والزعم والرياء، وبين شخصية تعرف عن قرب حقيقة ما يجري.
وهنا تبدو أهمية التكثيف الذي تتميز به القصة القصيرة جدا والومضة وغيرها من الأجناس الميتاسردية التي فرضها عصر تطغى عليه وثيرة السرعة واستثقال النصوص الطويلة التي تفضي في الأخير إلى ما تفضي إليه القصة القصيرة جدا عبر آالياتها وأدواتها الفنية المائزة.
وفي قصة ” نذر” يقول الكاتب
(طلقت زوجها الخائن…أقامت حفلا باذخا على شرف زميلاتها، ونذرت جسدها قربانا لمواساة عزاب المدينة)110.
تكثيف يختزل سوء التبديل، وسوء التصرف في الانتقاد والمواقف، والمبادئ، عبر اتهام الغير بما لا نستطيع تجنبها لنصير معا في خندق واحد وفي نفس الدائرة.
التخييل ورسم الفضاء والحدث
“إن التخييل في النص الأدبي عموماً، وفي النص السردي خصوصاً، لا يمكن وصفه بكونه خطاباً زائفاً أو كاذباً أو محرفاً، بل إنه خطاب يلجأ إلى الواقع لكنه لا يقدمه كما هو بصوره وحقائقه، ولكنه يحاول إفراغه من دلالاته المرجعية الحقيقية وملئه بدلالات أخرى مختلفة توافق السياق الخطابي التخييلي. وتكون هذه الدلالة الجديدة متجاوزة بالضرورة للأحداث الواقعية فتستدعي أحداثا متخيلة تتخلل الأولى تدعيماً لها، أو توضيحاً أو حتى تفسيراً لبعض منها، ولا يمكن استحضار هذه الأحداث المتخيلة إلا لغاية التأثير في المتلقي وتوجيه فكره وتأويله وفهمه نحو فهم آخر مقصود، ونحو اتجاهات معرفية أخرى1.
والحال أن الكاتب تمكن من رسم عوالم أحداث قصصه رسما شاعريا عبر خياله الواسع الذي مكنه من أن يجعل الحدث العادي يتم بطرائق تكسر المتوقع والمركون العادي في ذاكرة القارئ، فالخيال في قصصه وسيلة مكنته من تحقيق ما تتطلبها في علاقة بنوعيتها الجديدة التي ترسو قواعدها وشروط إنجازها شيئا فشيئا رغم المسافة الزمنية القصيرة نسبيا و التي قطعتها كتابتها إلى الآن.
ولْنلاحظ ذلك في قصة “قناصة”
يقول الكاتب(كانت تدرك أن السدر لا يعطي الزنابق، وأن الهم إذا كثر يضحك.
فكانت عبثا تلوك سدر أوهامها، وهم ضحكها، لتهيم في هوامشها أحلامها يوميا، للبحث عن طريدة جديدة.) ص111
قصة مركبة عبر جنح الخيال الذي استدعى استعمال كثيرا من المحسنات المعنوية التي تضفي على مجريات أحداث القصة مسحة من الجمالية المولدة لدرجات من التبصر والإمعان قصد القبض على المقصدية من النص.
وقصص المجموعة بدون استثناء مبنية على تخييلات تتأرجح بين المعاينة واستحضار الماضي والحاضر مع الاشتغال على معطيات الفضاءات التي يختارها وعاء لمتخيله.
وطبيعي أن نجد التكثيف والتخييل أهم الوسائل التي تشكل نسيج النصوص الإبداعية عامة وفي مقدمتها القصة القصيرة جدا. إنه الخيال، الأداة المسعفة للمبدع بأن يبني الأجواء والأحداث التي تترجم رؤاه وأحلامه وانتقاداته…
“إننا لا نكتب الماضي إلا بقدر كبير من الخيال، يملأ فجواته، يشخص ما وقع فيه ، يبحث عن الدوافع والرغبات التي كانت كامنة فيه وحركت تجاربه. يسعفنا التخييل دائما في بناء ما يتعذر بلوغه، وما لا يمكن استعادته إلا داخل اللغة ومتخيلاتها، فالماضي برمته ينحل في اللغة ، بما أنها “مسكن للكينونة” كما قال هايدغر”2.
التوتر السردي في قصص المجموعة
في جل قصصه إن لم نقل كلها نجد هذا التوتر الذي تستشعره ونحن نقرأها، ووراء ذلك كثير من العوامل الفنية فعلاوة على التكثيف وعدم خطية السرد نجد التناقض الذي يفاجؤك وأنت في حالة تتوجس فيها ما سيؤول إليه الحدث، تناقضات لها جذورها الفنية وجذورها في الواقع المعيش المليء بالسلوكات المغلفة بالأنانية البغيضة.
هذا التوتر مرتبط بالذات وبالجسد، وما يحمله من فسيفساء التجارب التي يفرضها عليه الواقع المرير. و( فهم الذات وتجربة “الآخر”تتأسس على على القاعدة الفينومينولجية القائلة بأن كل إدراك للآخر لا بد أن يمر بتجربة الجسد. ومن ثم يمر فهم تجربة الآخر أو التجارب الاخرى عبر فهم الذات، من خلال الجسد الذي يظل يشكل المبدا والمنطلق باعتباره الظاهرة التي تشكل صلة الوصل بالظواهر الاخرى.إن الإحساسات والانطباعات والعواطف والهيجانات والآلام واللذات كلها تجارب تخترق الجسد وتتموقع على هامشه في نقطة اتصال بالأشياء وانفتاحه على العالم ).3
قصص المجموعة انصبت أحداثها على استكناه ما يحمله الجسد من تموقفات تجعله يبدي التناقض والتضاد المفضي إلى الضيق والألم.
نظرة عامة
إن المجموعة القصصية تجعل القارئ ينخرط في أحداثها بما تحمله من ثيمات تلامس جل المعضلات التي تجري في المجتمعات، فهي علاوة على فنيتها ترسم الفرحة ، وترسم الفرحة والخدعة، وترسم الشخصية البريئة والشريرة ضمن فضاءات تذكرنا بمجتمع ننتمي إليه بأفراحه وأتراحه.
قصص قصيرة جدا، وهي بمثابة كبسولات تستبطن الكثير من القضايا التي يعج بها المجتمع في قالب عماده الإثارة والاختزال الموحي والمفضي إلى درامية المشاهد بصيغة تخلق التشويق للقراءة والافتراض.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهامش:
1 ـ الموروث السردي العربي: التخييل وآليات اشتغاله، عزيز العرباوي، الثقافة الشعبية، العدد 44 .
2 ـ 2عندما ينتصر الإنسان على نفسه بالخيال ، عبد الرحيم العلام، العربي العدد709 ،ص 210.
3 ـ 3 في القراءة الهرمينيوطيقية ، د.محمد علي الموساوي، عالم الفكر، العدد 181، يناير ـ مارس، 2020ص 226 ، 227.