لم أتناول هذا الصباح وجبة الفطور في البيت. اشتهيت وجبة تقليدية. خرجت متأخرا، ومتلهفا لتناولها.
تذكرت وأنا في الطريق، بداية السبعينيات من القرن الماضي. عندما تدب الحركة في أحياء المدينة القديمة بعد صلاة الصبح، يتوجه العمال إلى موقف الحافلات لتقلهم إلى الحي الصناعي. و يركب بائعو الخضر دراجاتهم أو يمشون راجلين حسب قربهم من السوق، والصناع التقليديون يذهبون إلى دكاكينهم.
أشعة الشمس لم تتسرب بعد بين الأسوار المثقلة بعبق التاريخ. أطفال المدارس لازالوا يغطون في نومهم العميق. فقط بعض المقاهي العتيقة بالأحياء الشعبية تفتح باكرا لتستقبل زبائنها الذين لا زالت آثار النعاس في أعينهم. تهيئ لهم فطورا من نوع خاص. الحريرة ب(سميدة) الشعير أو ب (إيلاّن) أو (البيصارة) والشاي، أو الإسفنج والقهوة بالحليب. وجبة لذيذة ب (كرعين) الغنم . أغلب هذه المقاهي تنتهي بها وجبات الفطور بعد ساعتين أو ثلاث.
التجار والصناع في السوق لهم علاقة خاصة مع وجبة الفطور. بمجرد ما يفتحون دكاكينهم يتبادلون تحية الصباح. ينظفون المكان الذي سيجلسون فيه. ثم يشطبون أبواب حوانيتهم، ويرشون الغبار بالماء حتى لا يصعد إلى أنوفهم، ويخرجون السلع، ويعلقون بعضها أمام الباب، وعندما يأتي (المتعلمون) يطلبون من أحدهم الذهاب إلى حي قريب أو بعيد لاقتناء وجبة الفطور. أشهر هذه الوجبات التي أغرم بها الصناع والتجار الصغار هي (البيصارة). والباعة المشهورون بإتقان هذا النوع من الفطور معدودون على رؤوس الأصابع. كل سنة يسطع نجم أحدهم. قد يقطع (المتعلم) أربع كيلومترات أو خمسة أو أكثر على الدراجة من أجل اقتناء (البيصارة). يأخذ معه النقود وطنجرة صغيرة يضعها في قفة، وعليه أن يُعرّج أثناء عودته على بائعة الخبز. وإذا وقع حادث، وسقط من فوق الدراجة، وقلب الفطور عليه ألا يعود إلى الدكان فلن يكون يومه سعيدا.
التاجر أو الصانع الذي ينتظر في الدكان، يُشعل فرن الغاز، ويضع فوقه (مقراج) الماء. (متعلم) آخر يغسل الكؤوس والإبريق والصينية، ويفرش ويرتب المكان الذي سيتم فيه تناول الفطور الذي أصبح جاهزا بعد قدوم المتعلم الثاني. الشاي (يتقعّد) في الإبريق. الطنجرة الصغيرة توضع فوق الفورنو لتعيد لها النار شيئا من الدفء في هذه الأجواء الباردة. (المتعلم) يُناول الصانع قنينة من زيت الزيتون تكون موضوعة في الداخل. يُفرغ (البيصارة) في الصحن، ويسكب فوقها الزيت ويضيف إليها بعض التوابل مثل الفلفل الأحمر الحار و (الكامون.
وصلت إلى باب الحي. توقفت عند عربة متنقلة. جلست إلى جانب بعض الزبائن على كرسي خشبي طويل غير مُسنَد. انتظر أن يمدني صاحب العربة بالوجبة المحبوبة في صقيع مراكش القادم من جبال الأطلس التي تقع في أحضانها المدينة.
لم يعجبني مذاق (البيصارة). كثرة الماء، وقلة الفول جعلت مذاقها أزرق. الشاي كذلك بغير طعم. الخبز مليء باللباب. تناولت ما قسم الله لي، وكتمت غيظي حتى لا يتهمني الجالسون بجانبي بالتعجرف ما داموا يتذوقون بشكل لذيذ ما يأكلون. ملامح وجوهم تعبر على أنهم معجبون بما قُدّم لهم.
أكلت (البيصارة) وشربت الشاي حتى تعبت لكن لم أتناول فطورا على بساطته مثل الذي يعمله الصناع داخل دكاكينهم.
المعجم :
ـ البيصارة: وجبة تطبخ من الفول الصلب وقليل من البزلاء(جلبانة) اليابسة ويضاف إليها الثوم والكامون. تبقى فوق النار حتى تتحول إلى حساء خاتر. توضع في آنية صغيرة ويضاف إليها زيت الزيتون وبعض التوابل مثل الكامون والفلفل الأحمر الحار. وتؤكل مع قطع صغيرة من الخبز بعد أن تغمس فيها، وتناول الشاي بين المضغات.
مراكش 30 نونبر 2019