متى نكتب الشعر ومتى نقرأه؟ ربما جمهور الشعراء غير معنيين بهذا الأمر، فالشعر موهبة ابداعية وبنية جمالية قد لا تتوفر في بقية الابداعات الأدبية والفنية الأخرى، لذلك قراءة متفحصة لنصوص الديوان الذي بين أيدينا وتواريخ كتابتها تحيلنا إلى أزمنة مختلفة وأمكنة متعددة بضمنها فترات الهجرة والدراسة والبحث الأكاديمي، فشاعرنا الاستاذ الدكتور غانم محمد الحفو لم يتخلف يوماً ما عن كتابة الشعر ولم يجف قلمه من تدوينه في يوم من الأيام، وفي أصعب الظروف التي مرت به، كما أن تخصصه في مجال التاريخ والبحث الأكاديمي لم يكن عائقاً في يوم ما عن كتابة القصيدة، أو رسمها بطريقته الخاصة، يضاف إلى ذلك لغة رصينة واسلوب شفاف وشاعرية في العبارة.
لعل ثقافة الحفو الموسوعية ورصانة تعليمه وسعة اطلاعه، ساعدته كثيراً في مطاوعة المفردة وانتقاء البليغ منها في عنونة القصائد دون معاناة، وهذا شأن معظم رواد الشعر في العراق ممن زامنهم الحفو؛ السياب ونازك الملائكة وعبدالوهاب البياتي وبلند الحيدري وشاذل طاقة وذنون الاطرقجي وبشرى البستاني وعبدالوهاب اسماعيل، لذلك نجده يختار عناوينه بمفردات مألوفة ذات بنية عميقة أحياناً، ومفردات رومانسية بتوظيف تداولي في أحيان اخرى، ولكن في كلتي الحالتين، نجد أن هناك أداء بشعرية طاغية ومقدرة في تركيب العبارة لتأتي على قد كبير من الجمالية، لذلك نجده قد اختار عنوانا لديوانه الذي بين أيدينا “البحر والكلمات” الصادر عن دار نون للطباعة والنشر والتوزيع في الموصل نهاية عام 2022، والعنوان “البحر والكلمات” عبارة تحمل مفردتين تجتمعان بكثير من الدلالات؛ فالبحر يحمل سراً دفيناً بين أمواجه، فهو يرمز للوعي اللا جمعي، على حد تعبير عالم النفس كارل يونغ، لأن تحت سطحه المرئي تكمن أعماق لا يمكن ادراكها كما لا يمكن سبر غورها، فيما الكلمات هي الأخرى تملك ذات السر، ولكن سرها يكمن في اللغة التي تنتمي اليها، وهنا نجد أن العبارة منزاحة ظاهراً متصلة داخليا، يقول الشاعر في قصيدته:
هدأ البحرُ،
رُويداً ..
وغفا .
والافقُ صحا،
شفّافاً …
وكنتً بعيداً …
وقريباً …
لَعَلّي ألمحُ صدقَ الموجِ،
ولكنّي ..
عدتُ كما كنتُ بعيداً ..
وقريباً ..
أَرقب كيلَ الآمالِ،
بفَكِّ الأعصارْ ..
فما عدت أرى الحوريات السبعة،
يَمْرحْنَ بطيفِ الموج الغاضبِ،
أو .. يَغْزلنَ عذابات الإِبحارْ.
فالذات الشاعرة هنا تنتظر صدق الموج وكيل الآمال في ظهور الحوريات السبعة، وهنا نجد الشاعر قد وظف أسطورة الحوريات (Mermaids) وهي كائنات نصفها بشري تحمل في رأسها سر الكلمات، والنصف الآخر سمكة تحمل في جوفها سر البحر، لكن البحر هنا لم يصدق، إذ لم يمنح الذات الشاعرة ما كانت تصبوا إليه وهي بانتظار الحوريات كي يغنين له أو يعطينه الذهب، ولكنه حلمه قد تبدد بعد جفاف نبضاتُ البحر وهدوء امواجه المعلن عنها بصراخ أحدهم وهو ينادي جهرا:
أَصغيتُ لصوتِ مُنادٍ،
مِن تيهِ الزّحمةِ،
يصرخُ جهراً ..
جفّتْ نبضاتُ البحرِ
وفي الحديث عن البحر، من المفيد أن نذكر بأنه قد وجد صداً كبيراً في خيال الأدباء وفي كل الأجناس الأدبية، ولكنه في الشعر ورد عبر آلية الاستدعاء الأسطوري لغرض يعتمل في نفس الذات الشاعرة، إلا أنا نجد الجميع قد أتفقوا على أن البحر يحمل سراً بداخله لا يبوح به لأحد، ومن أبرز الشعراء الذين تناولوا البحر في قصائدهم: صاموئيل كولرج، وروديارد كبلينغ، وجون ماسفيلد، وجبران خليل جبران، وبدر شاكر السياب، ونزار قباني، وعبدالوهاب البياتي، ويكرر الحفو ثنائية المفردة في العنوان في كثير من قصائد الديوان مثل: “المدى والصدى”، و”الشبح والقناع”، و”الساحل والمنفى”.
كذلك فإن المدة التي قضاها الشاعر في الغربة واطلاعه على الثقافة الفرنسية ـ لغة الدراسة ـ نجده يختار عناويناً معربة وبتوظيف جمالي بحيث تحمل معناها الرمزي والدلالي في اللغة الأصل لتعطي معناها في لغة الهدف، وهي ذات مبنى ظرفي تشير لحادثة متكررة زمنياً، ومن هذه العناوين، “الفاندانج” وهو في اللغة الفرنسية (Vendange) وتلفظ الكلمة “فَدانج” وتشير إلى موسم قطاف العنب في الريف الفرنسي، وقد اوجد الشاعر تعالقاً نصياً بين اشجار الغابات وحفيفها ودواوين الشعر، وبين الغربة الممزوجة برتابة وعنقود العنب المرصوص، يقول فيها:
الغاباتُ هنا ..
دواوينٌ ..
مِنْ شِعْرٍ ..
حُرٍّ ..
مسجوعٍ ..
ومُقَفَّى ..
وجْهُكَ ..
مغسولٌ في نَفَسِ الفجرِ .
الصُبحُ ..
ضبابٌ ..
مغزولٌ ..
بعناقيد العنبِ المرسومةِ ,
كالبنيانِ المرصوصِ ..
وفي قصيدة أخرى نجده قد إختار لها عنوانا معربا من الفرنسية أيضاً “ساپانْ” والمفردة في اللغة الفرنسية “Sapan” تشير إلى شجرة الصنوبر والتي لها حضور لافت في أعياد الميلاد، يقول الشاعر:
أَمشي ..
تتوهَّمُ .. أَنَّكَ تمشي…
كي تُمسِكَ أَفلاكَ الأَسفارِ،
وتُجْلي بلّور الأفقِ،
وتختارَ طقوساً تلبَسُ نفس الأَثوابْ.
ها…
هِيَ… “ساپانُ”…
تُودِّعُ عاماً آخر…
تَعْزِفُ في منتصفِ الليلِ،
أَناشيدَ الفَرَحِ…
صامِتَةً كاللَّيلْ…
تَتَدَثّرُ في جلبابِ الحبِّ الغابيِّ،
وداعاً…
مِنْ دونِ رَحيلْ.
وهنا نجد أن الشاعر يقرأ ذاته في هذه القصيدة التي تؤرخ لمناسبة سنوية تمر عليه برتابة، تعكس الحالة الشعورية للذات الشاعرة واغترابها، وأساها الممتد عبر سنوات الغربة، بعيداً عن الوطن والأهل والأصحاب، لذلك فالشاعر عبر عن مفردات المناسبة الظرفية بتفاصيلها عبر أفعال حركية ذات بنية زمانية: “تختار، تودع، تعزف، تتدثر،…”.
أما العناوين الأخرى للشاعر فهي أيضاً تحمل في بنيتها مساحة ظرفية زمكانية عبر جمل وعبارات توصف على أنها عناوين طويلة نسبياً، مثل: “تداعيات رؤية غابيَّة”، و”من ذاكرة القمر السومري”، و”الطرق على أبواب الطوفان”، و”من رائحة الليل والغربة”، و”لا يكفي أن أنزف آخر حرف”.
وعودة على بدء، نجد ان القصائد جميعها تحمل في بنيتها معانٍ فكرية بمجملها، لذلك جاءت الصورة الشعرية لدى الحفو صورة مركبة تقع ضمن فضائين، الفكري والكتابي، فالصورة الذهنية تعتمل في ذاكرته نتيجة حدث معين أو مشهد مؤثر أو موقف سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي، ثم يبدأ بتدوين القصيدة ليحيلها إلى صورة شعرية بليغة، وبالتالي فالشاعر يسعى إلى ايجاد منظومة تواصلية بين المفهومين التجريدي والمادي، وهذا ما يؤشر على أن كتابة القصيدة لدى الشاعر هي ضرورة ملحة يهرب اليها وقد الشد كي يجد فيها متنفسه الروحي، بعد أن شعر بصدمة الواقع المتمرد على كل أشكال الحياة ما فيها حياة الشاعر نفسه.
وختاماً لا يسعنا إلّا أن نقول ما قاله السياب:
يقول بدر شاكر السَّيَّاب:
أطِلي فشبَّاككِ الأزرَقْ… سَماءٌ تَجوعْ
تبيَّنتُهُ مِن خِلال الدُّموعْ
كأنيّ بي ارتجفَ الزَّورقْ
إذا انشقَّ عَن وجهِك الأسمرْ، كما انشقَّ عَن عَشتروتَ المحارْ
وسارت مِن الرَّغو في مِئزرْ، ففي الشَّاطئين اخضِرارْ
وفي المرفأ المُغلقْ، تُصلِّي البِحارْ
كأنيَ طائرُ بحرٍ غَريبْ، طَوىَ البَحرَ عِندَ المَغيبْ
وطافَ بشبَّاككِ الأزرقْ
يريد التجاء إليه، مِن اللَّيل يربدُّ عَن جَانبيهْ
فلَمْ تفتَحي…. ولَو كَانَ مَا بينَنا مَحضُ بابْ
لألقيتُ نَفسي لَديكِ، وحَدقتُ في نَاظريكِ
الشاعر غانم محمد محمود الحفو، مواليد الموصل محلة باب العراق 1946، عمل مدرساً في المدارس الثانوية محافظة نينوى، ثم انتقل للعمل في جامعة الموصل بعد حصوله على الماستر والدكتوراه في تاريخ العراق الحديث والمعاصر من جامعة بواتييه الفرنسية عام 1981، وتدرج في المناصب العلمية حتى وصل إلى مرتبة استاذ عام 1996، واحيل إلى التقاعد عام 2012، توفي يرحمه الله بعجز القلب سنة 2016. صدر له: “اشارة عادية إلى مملكة الألوان”، ديوان شعر عام 1976؛ “البحر والكلمات”، ديوان شعر عام 2022؛ “بصمات النهر الصامت”، ديوان شعر عام 2022. ولديه العشرات من الكتب والبحوث في حقلي السياسة والتاريخ والاعلام، كما لديه كتاب خواطر مخطوط وكذلك ديوان شعر رابع.