السماء صافية. أيامٌ ماطرة مضت، لم تمنح فرصة لبوعزة ورفقته أن يستأنفوا مباراتهم في لعب “الداما”. غابوا عن مكانهم المعتاد جوار دكان “عزوز الصمك”*… خِلت أنهم أصيبوا بمكروه ما. أمُرُّ عند “عزوز”، يؤكد لي كل مرة أنه لم ير الشلة. أشار إلى أن لبوعزة بنت بالرباط، لعله سافر لزيارتها.
الشلة لن تحضر من غير العجوز.
مررت بداره، حيث يعاشر الوحدة كزوج، لم أجده، فوجدت النوافذ المغلقة كعيون الدار النائمة تلمح إلى سبات الغياب.
الجو الصحو يغري بالتجول. حاصرنا المطر وحرمنا من متعة المشي. شمس افتقدناها من سماء المدينة، منحتنا هذا الصباح دفئا وضياء. نحن بحاجة إلى ضياء ينير سوادنا… توغلنا في ظلمات كما توغلنا في صمت مميت وتواطأنا عليه. لا طعم للحياة يبقى إن ضاع المعنى.
المعنى..!! وأين هو هذا المعنى؟
تمشيت بإيقاع بطيء يوحي إلى كسل قد انتشر سرطانه في الجسم… طفت الأزقة والحارات. أبحث عني في تفاصيل المدينة وأركانها. أطيل النظر في الأماكن، استحضر وجوها وصورا، صداقات الغائبين… أحلام تبخرت لما اشتد الصهد… لمَ تحتاج هذه المدينة دفء الشمس؟ قد تخلت عنه لما غادرها كل أصدقائي مغادرة المستائين والساخطين. يوم رحلوا، كأنهم بصقوا في وجهها بغيظ شديد. تذكرت عبارة لابن عربي علقت بذاكرتي أيام كنت أعدّ بحثا جامعيا، «الناس نفوس الديار».
الناس؟ وأين هم؟
أما الديار !!فما عاد يطيب لها الخاطر، صارت قبورا تشقى منها نفوسنا. المدينة من غير الصِحاب، قبر بارد. منفى بعيد يعاقبنا على الحياة. صرت حريصا أن أقابل “عزوز الصمك”، كل يوم، لعلني أجد فيه عزاءً عن الراحلين، وإن كان التواصل معه يحتاج مني مجهودا مضاعفا بسبب ثقل سمعه. بت أخشى رحيله. الموت، يأخذ منا الأعزاء وما يترك لنا إلا أشخاصا قبيحين نستاء – بسببهم – من الحياة، والمدينة، والديار.
خلت زقاقا لم تمر به خطواتي منذ زمن. لا أذكر متى. ولمحت جمعا من النساء أمام باب بيت من بيوت مصطفة كأنها حواجز عالية تمنع رؤية العالم المحيط بنا. منهن الواقفات ومنهن الجالسات والمستندات على حيطان البيوت، يُسمع لهن لغط مزعج، يثير قرون استشعاري. حرك المشهد فضولي، وغريزة حب الاستطلاع… ترى هل يوزع صاحب البيت المساعدات؟!
تذكرت واقعة التدافع بإقليم الصويرة… الموت وُزّع كذلك مع أكياس الدقيق بالتساوي. هل ستتكرر المأساة؟.
اقتربت قليلا. أستفسر…
من حسن الحظ -أو من سوئه، لا فرق- لم أكلف نفسي عناء اختيار من أسأل ولا كيف أسأل. الجواب، جاءني راغبا، مطيعا ككلب أليف حرك ذيله بسعادة ملحوظة، كأنه تنبه إلى استغرابي. أشياء كثيرة مُصرة على اقحامي في كل حوادث هذه الحواري والأزقة المنكوبة. سمعت امرأة شابة يُرى عليها أثر سفر وحيرة تسأل أخرى عن بيت سيدة تدعى “الشريفة”، فأجابتها:
– هي ذي دارها يا ابنتي، شدي نوبتك… اشنو عندك؟*
لم تبخل الشابة بالجواب. استفاضت، ثرثرت… قالت لمخاطبتها: أنا من مدينة أخرى… تزوجت منذ عامين… وما أنجبت. أخشى الطلاق… تعبت من أدوية الأطباء وأعشاب العطارين بلا نتيجة… صديقة لجارتي نصحتني بزيارة الشريفة، يقال أن يديها تحملان السعد…
قالت أشياء كثيرة… أفرغت شحنتها الكلامية. كادت تستمر لولا أن قاطعتها المرأة العارفة:
– وسيري اشري قرعة د الما ودخليها معك*.. إن شاء الله ببركة الشريفة، تحملين.
اتجهت الشابة إلى أقرب بقال. تابعتُ خطواتها المتعرجة نحو مصير منتظر.
عدت أفحص بعيني الواقفات والجالسات والمتكئات. كل واحدة تمسك أو تعانق قنينة ماء معدني، مع اختلاف الأحجام والشركات. يعانقن الأمل الحقير.
أهي قنينات يعاد بيعها؟. ربحٌ لا بأس به..!
بعد مراقبة قصيرة رأيت أن اللوات غادرن بعد الزيارة، بأيديهن نفس القنّينات. أيقنت أن سر الشريفة في الماء، ولعله يُجانس دواء، أو داء، أو وَهمًا. من يدري؟ حين يضيع المعنى يصير الوهم قشة غريق. كلنا غرقى… لكن امرأة أمية اختصرت طريقا طويلا أما الدارسين والباحثين… ما جدوى الطب؟ والناس تستهويهم الأسرار… يسلِّمون عقولهم لمن يعقِلها. لا حق للسؤال كي لا تطير البركة…. أبواب العرفات والعرافين مَلأى. أضرحة ملأى… حلقات بائعي الأعشاب بالأسواق وأمام أبواب المساجد مزدحمة، تصيح بالوهم الحناجر.. امتلاء حتى الغرق…غياب المعنى. الطبيعة لا تحتمل الفراغ.
أبعدت عقلي عن الانشغال بهذه الأفكار. منطق المغربي يقول لا تفكر كثيرا.. التفكير نهايته الجنون. قلت أو السجن…
بعد شحنة شعور ملأت نفسي أحسست بوخز أشواكها، أرغمتني على مغادرة المكان، وتبديل الساعة بأخرى. نستبدل الساعات ونستبدل الأيام بأخر، كحمار الرحى ندور. هو ذا دور المشحونين المحملين بعبئِها. «تعب كلها الحياة فما أعجب إلا من راغب في ازدياد». أشغلت نفسي بالبحث في ذاكرتي عن قائل هذا البيت، فجأة قلت وقد تفتق ثغري عن بسمة حمقاء كأني اكتشفت لأول مرة شيئا جديدا: “وحتى اسم قائله يحمل صفة العري”.
ترى هل الشريفة راغبة في ازدياد؟
لعل الأمر كما يقول الحكيم بوعزة كلما رأى أو سمع ما يغيظه:
– “تشوف وتشوف حتى تعيا وتشرب الشراب”…
تبسمت رغم كل شيء، قلت: “أو تشرب الماء القاطع” فتكون النهاية… “من أظلمت بدايته أظلمت نهايته”.
هكذا مضيت وفي النفس شيء من “حتى” أو من “لعل”… استحضرتُ اللحظة التي يُدافع فيها العجوز بوعزة عن بيادقه القليلة فوق قطعة الداما الكرتونية، مربعة الشكل، بانكسار المغلوبين يدندن أغنيته المفضلة:
«انتما الدنيا إلى عواجت. . .
تْجِي بْـ زُوجْ رْجْلِينْ عْرْجِينْ وُسَايْڭـْهَا جْرْبُوعْ».
قفزت إلى ذهني تتمة الأغنية، تريد أن تتحرر من سجن الذات… ارتفع بها صوتي من الأعماق مع صيحة، كمولود امتلأت للتو رئتيه بالهواء:
«واللي ڭال ذا العصيدة باردة . . . يدير يده فيها»*.
الصّْمَكْ : الأصم أو الذي ثقل سمعه*
* انتظري دورك، ماذا عندك؟
اذهبي اشتري قنينة ماء وأدخليها معك… *
بعنوان: “الرغاية” مقطع من أغنية ناس الغيوان*