* تأصيل :
كثيرا ما تتماهى الابداعات مع كنه المخاض العسير الذي يكتنف وجدان وأفكار الكاتب، و تنبثق منها روائع قلما نتأثر بكينونتها فتترك بذاكرتنا انطباعات غير قابلة للتناسي أو النسيان. وهذا النص ( بدون مجاملة ) يستحق الاشادة والتنويه.
* العتبات :
– العنوان : العازف وهي صيغة اسم فاعل لفعل عزف. وترتبط بحروف جر ( على/ عن ) لاستكمال المعنى. فلو قلنا عازف على ( فبالضرورة يستقيم معناها بأنه لاعب على آلة طربية ) بعكس اذا استكملناو: عازف عن ( فهو غير راغب عن الشيء و منصرف عنه).
والمصدر من الفعل هو عزف : صوت الجن ؛ صوت الدف ؛ صوت الرمال تحركها الريح ؛ صوت العود المتنوّع والمتكرر ؛ صوت المطر والغيث.
وقد جاء العنوان معرفا بال / وهو استحضار لشخصية وجودية معروفة وغير مبهمة. ترى هل وفق الكاتب في اختيار العنوان ؟
** الشخصيات والأحداث :
استهل الكاتب النص بجملة هي مفتاح النص : ( كادت أن تدهسه.. )
لماذا قلنا أنها المفتاح، فالتسارع اللحظي للحدث، أذكى لدى القارىء الدهشة و الاستعجال للتوغل بحيثياث النص.. لنتساءل جميعا لماذا ؟ وما ؟ ومن ؟
– لماذا كادت أن تدهسه؟ أكيد أنها نتيجة حتمية للامبالاة و استهثار أو يأس للشخصية البطل الغير الآبهة بالحياة، وعدم اكثراثه لها ( فعبور الطريق يقتضي الحيطة والحذر !) أو فقط مجرد حالة لحظية ستختفي بمجرد زوال مسبابتها…
ما ؟ سيارة.. هل كانت مسرعة وصاحبها هو الاخر متهور ؟
من ؟ شخص واحد هو بطل القصة الذي راوغ القدر الذي حدد له ميعادا للموت..
– الاحداث :
تتصاعد الأحداث تدريجيا، بعد أن يخلف موعده مع القدر المحتوم بمرواغة “شبابية”، أعادت له ذكريات عنفوان الفتوة والشباب الجانح، وهو ما لمح له الكاتب ب( ذكرى فتوة أبلاها العمر وانتهكتها لحظات الخسران المتوالية …) لذلك فهو لم يعد ذلك الشاب ” الفتوة” الذي يهابه الجميع، ويستعدون له، نتيجة توالي النكسات أو ربما الأمراض.. ففعل الزمن به فعلته ( وهنا تماهي ذكي للكاتب مع شخصية مفيد برواية نهاية رجل شجاع للروائي السوري حنا مينة ) وكيف انتهت حياته بأواخر حياته عجوزا مقعدا كسيحا..).
حيث وظف أسلوبا استعاريا دقيقا ( وعلى هذا الرصيف الواطئ، صعد كمن يصعد تلا منحدرا)
فمن تراه يتمشى فوق رصيف، كأنه صاعد تلا منحدرا؟؟ هنا صورة بلاغية جميلة تصف بدقة معاناة نتيجة شيخوخة او مرض عضال ( ربما مرض السكري او الضغط الشرياني..). وتستمر الحبكة في التصاعد لنرى البطل في مشواره السيزيفي، يقصد بائعا للسجائر بالتقسيط فقط. اذن أن كل هذا المجهود والمكابرة من أجل اقتناع خمس سجائر من النوع الرخيص.. هو لايريد لا طعام ولاشراب ولا كسوة ولا يبحث عن عمل!! يمني نفسه بإشباع رغبة جامحة، هو في أمس الحاجة إليها، يتثاقل و يتباطىء، ممانعا ومجبرا نفسه الى حين تأثيث المشهد الأنطلوجي لتحقيق تلك اللذة المفقودة ( الفضاء المثالي لوحده بالبيت جالسا و بيده فنجان القهوة) ينأى عن إشعالها الا أن يتم تجميل المكان والانتصار لنفسه التي خانته، وأضحت صريعة التعب و الفاقة والوحدة…
لقد اعتاد الخيبات والنكسات على مدار نصف قرن، كل اللحظات التى ابتغاها جميلة و مغبطة، تنتهي بالحسرة والندم، ولأن النحس يطارده كل مرة وكل حين.. قرر التأكد من عدم وجود عيوب أو أخطاء بالمشهد الختامي، كأنه مخرج سينمائي يضع الرتوشات الأخيرة على اللقطة الفنية الأخيرة، في تراجيديا محكمة البناء (لوحة العشاء الأخير للسيد المسيح) ها قد حان وقت هزيمة القدر و الانتشاء بتدخين السيجارة الرخيصة واختساء فنجان القهوة متربعا على عرش الجحيم، الذي ابتغاه لنفسه كصيرورة حتمية للانتصار على الحياة ( تأثير فيرتر نسبة لرواية أحزان الشاب فيرتر للكاتب الألماني يوهان فون غوته : حيث شكلت طريقة انتحاره عدوى للآخرين وحاولوا تقليدها..)
يقتح وقود الغاز، ويقفز ليجلس مزهوا محاولا اشعال السيجارة واحتساء القهوة..)
* الخاتمة :
يحسب للكاتب الطريقة الفجائية المدهشة التي نحت اليها القفلة، وقد أسررت له بذلك عندما توقعت أنه وبعد عدة محاولات للتبطيء وعدم تسرعه باشعال السيجارة، قلت أنه ربما ستمرد على الوضع و يقلع عن التدخين ويسحق السجائر !!! لكن بالعكس تمادى الكاتب في ابراز الشجن و تصعيد النكهة السوداوية المؤلمة وجعل البطل ينحاز لفكرة الانتحار ليطمأن أنه قضى تماما على القدر الذي كان يلاحقه، ولم يترك لك تلك الفرصة للاستلذاذ بهزيمته…
وكأنه يصور مشهدا من مشاهد جحيم دانتي ( الدائرة الثانية : دائرة الشهوة) التي بموجبها سيعايش مشاهير هذه الحلقة عازفا سمفونيات التحدي والإكتفاء ..)
وبالعودة للعنوان العازف يبدو أن العزف الذي حرك دومينو المواجهة بالنسبة لي هو صوت الجن ( ذلك الصوت المتواري خلف شخصية البطل المنهزمة).
** ختاما :
نص مرجعي، بحبكة عجائبية سلسة، رغم تواجد بعض الهنات الناتجة عن عملية الرقن.. فهو حقق ذلك النبتغى المنشود للقصة القصيرة الحداثية.
—-
النص
العازف بقلم: سيف بدوي
——–
كادت أن تدهسه ..
… … لقد قفز من أمامها كبرغوث .. تلك القفزة التي أعادت له الفرصة في استكمال الحياة مثلما أعادت إليه ذكرى فتوة ابلاها العمر وانتهكتها لحظات الخسران المتوالية ..
كانت السيارة قد ابتعدت نحو نهاية الطريق حين نظر إليها بالتفاتة الناجي .. وعلى هذا الرصيف الواطئ صعد كمن يصعد تلا منحدرا .. غير أنه صعد ، اخرج من جيبه جنيهات من المعدن بحرص .. احصاها : جنيه .. اثنين .. ثلاااث .. ونصف .. وربع فضى لامع ، وقف مترددا .. فهي لم تكمل الخمسة جنيهات .. ولكنه اغمض عينيه كطفل وخطي خطوتين ليقف أمام الرجل ويضع في يده كامل ثروته قائلا : ( خمس سجاير ) !
رفع الرجل كفه وأماله قليلا فتراصت العملات في يده في خط مستقيم منتظم .. ثم رفع عينيه نحوه .. وما لبث أن اسقطها جميعا في علبه الحلوى الشامية فاختلطت بما بها من عملات مستديرة منطفئة كالحة ..ثم مد أصابعه نحوه ممسكة بخمس سجائر .
خطوات قليلة ويصل مدخل البيت .. كان خلالها يطرد فكرة أن يشعل إحداهن ،كمن يطرد ذبابة لحوحة متثاقلة .. لقد نجح في أن يصل دون أن يشعلها .. هاهو وعاء البن .. لا بأس .. فيه أثر من البن ولكنه يكفى لصنع ثلث هذا الفنجان .. لا بأس .. هاهي السجائر .. وبعد قليل سترافقها القهوة المرة ..
أوقف يده قبل أن يلقى بما تبقى في الفنجان من بقايا البن المتيبسة في القعر .. إذ راودته فكرة أن يضع هذا على ذاك ليمتلئ الفنجان .. وساعتها يستطيع أن يشرب سيجارتين معا . وهو ما كان .. أطفأ الموقد ثم حمل الفنجان بكل ما تعلمه من حرص على مدى نصف قرن قضاه على ظهر هذه الحياة .
اذن .. ها هو فنجان القهوة .. وها هي السيجارة .. وها هو عود الثقاب الخشبي .. كادت الحفلة أن تكتمل .. لم يبق سوي أمر اخير ليضمن الا تفسد حفله أي مفسدة مما اعتادها وحفظها .. ولم يفلت منها ولو لمرة واحدة .. لكنه الليلة كان قد قرر أن يوقف هذا الهراء اللزج ..
.. وقف ونظر نظرة عامة على المشهد .. اطمأن إن كل شئ في موضعه تماما .. ثم أدار وجهه نحو موقد الغاز وفتحه .. ثم قفز مسرعا نحو مقعده .. التقط السيجارة .. أشعلها .. وأخذ نفسا هادئا عميقا من تبغها الرخيص .. وأتبعه برشفه من قهوته المرة .