القصة القصيرة جدا، جنس سردي مكثف، تمتاز بالتلميح والإحالة وتقنية المراوغة، وتطرح تساؤلات فكرية وقضايا إنسانية في مساحة من الإيجاز اللغوي سعيا إلى إبراز وظيفتها الجمالية والفنية. وأمام هذا الاجتياح للسرد الوجيز خلال السنوات الأخيرة، صار لزاما على المتلقي أن يُجهِّز معارفه الأدبية والفكرية ليتفاعل مع مضامين هذه النصوص ليفجر الطاقة الكامنة في ثناياها ولكي يتمثل له الخطاب ويستوعب الرسالة المضمرة. وسعيا إلى ذلك نقدم قراءة في المنجز القصصي «الوجه والأثر» للقاص المغربي المصطفى سكم، وهو عمل يضم نصوصا قصيرة جدا، في مساحة تبلغ 98 صفحة، صدرت عام 2020 عن سليكي أخوين بطنجة. ومن خلال هذه الورقة نقوم بمقاربة العنوان باعتباره عتبة نصية تمكننا من فهم مضمرات خطاب نصوص «الوجه والأثر» ذات البعد الإنساني.
قراءة في العنوان: الوجه الإنساني وتجليات الأثر
بداية لا بد أن نشير إلى أن للعنوان سلطة على القارئ حين يثيره أو يقلقه ويحرضه على طرح السؤال. وإذا كان الأمر كذلك، فإننا أمام عنوان «الوجه والأثر» لا يمكن أن ننكر سلطته، وما أثاره عندي من تساؤلات قبل وبعد قراءة النصوص، لماذا؟
هل لأنه مكون من كلمتين سيقتا بصيغة التعريف (ألف ولام)؟ أم لأن دلالته مفتوحة؟
أم لأننا لا نجد نصا في المجموعة يحمل عبارتي العنوان، بما يعني أن انتسابه للمجموعة أو انتساب المجموعة إليه، انتساب سمته الإضمار، وهو ما يعطينا الحق في تتبع أثره في النصوص وما يرخيه من ظلال المعنى، لعلنا نُرضي ملَكة السؤال. وقبل ذلك يلزمنا أن نقرَّ أن الأسئلة التي طرحناها في هذا السياق كلها مشروعة، لأنها تدعم عملية المحاورة بيننا وبين المنجز القصصي «الوجه والأثر» بداية من عنوانه.
حين نتحدث عن الوجه، فإننا نقصد ما يظهر من الكائن كقولنا: وجه الأرض/وجه الشخص.. وهو ما يواجهك منه. أي ما يقدم معرفة عن الشيء، أو يخبر عن حالة، نقرأ في نص “فوات”: «والابتسامة لا تفارقها. نظراتها إليه باطن يم يحكي بوجوده. يحاول الغطس»(1)، نرى أن الابتسامة والنظرات تنبع من الوجه على اعتبار أنها جزء من الكل (الوجه)، ثم إذا ركزنا على قول السارد: «باطن يم يحكي بوجوده»؛ نلاحظ أن التعبيرات البارزة في الوجه توجِّه الناظر نحو المعنى المذكور، وهو ما يُحدث الأثر في وجدان الطرف الآخر الحاضر في السياق من خلال الضمير (الهاء) الذي يعود عليه. وعلى إثره يتابع السارد فيقول: «يحاول الغطس»؛ وهذه المحاولة هي نتيجة تسببت عن الأثر الذي تفاعلت معه الشخصية المتأثِّرة. وبهذا فإننا لا نرى من الأثر إلا النتيجة، لأنها هي العلامة والسمة الدالة على حدوث الأثر المعنوي، أما فيما يخص الأثر المادي فإن البقايا هي السمة الدالة عليه، أو حصول ما يدل على وجوده. لكن بماذا نقدر النتيجة؟ نقدرها بالغياب أو بالرحيل، كقوله تعالى: «أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض»(2).
ويمكن أن نقدر نتيجة الأثر أيضا بحصول مطلوب ما، كما نرى العشب والنبات والزروع من أثر المطر، كما في قوله تعالى: «فانظر إلى أثر رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها»(3)، ونلاحظ أن التعبير القرآني استخدم لفظ الرحمة بدل لفظ الغيث لمزيد من التأكيد على أن كل خير من الله على العباد هو رحمة منه.
هنا نتوقف لنتساءل؛ ما علاقة هذا التعريف الذي قدمنا بعنوان المجموعة، أو بالأحرى بنصوص المجموعة؟ لتوضيح ذلك؛ يمكن أن ننطلق من القصة التي عنوانها: «وجها لوجه» يقول السارد: «قالت: ما لك تحدق في بنظرة الواقف على عتبة الموت، ما أنا بجنة الخلد ولا موقد نار أهل الشعراء؟
قلت: ما أنا إلا أعمى أحدق في دواخلي بنظرة طفل يبحث عن وجه أمه في زمن الحرب»(4).
نتوقف هنا مع العبارة التالية: «يبحث عن وجه أمه في زمن الحرب»، حيث يحيلنا معناها على أن البحث عن قيمة ضائعة (وجه الأم)، في زمن متغير ومضطرب، هو ما يشغل الشخصية؛ أي، بحث عن أثر الرحمة والحنان والأمان، إذ يدل وجه الأم على ذلك مبدئيا. وفي قصة «جنون» نستنطق مضمرات النص من خلال أسطورة من الميثولوجيا الإغريقية التي وظفها القاص، وهي أسطورة “غايا” التي ترمز إلى الأرض، حيث قال السارد: «كعود ثقاب تحمل الأرض على رأسها/يرتجف أبناء رحمها خوفا من أبسط احتكاك»(5). وإذا كانت الأرض كالأم (باعتبار أصل الخلق)، فإن ما يهددها من أخطار، يهدد الإنسان كذلك. ويدل السياق على انعدام الأمان، وترقب الخطر المتربص: «يشحذ كرونوس سكاكينه إلكترونيا»(6). ثم يكون الأثر؛ باعتباره نتيجة، حيث يقول السارد في النهاية: «يعم جنون البشر»(7). وإن الجنون كنتيجة هو ما ورد في نص آخر عنوانه: «اتصالات»، نقرأ: «تعطل الهاتف الخلوي وأصيبت خلايا المجتمع بجنون التهافت»(8)، ومن خلال ربط نهاية القصة السابقة مع اللاحقة، نستخلص خطاب النص الذي مفاده: التكنولوجيا لها وجه من الشر يتحكم في الإنسان، ويدمر جانبا من إنسانيته. وعلى هذا الأساس فإن النصوص كثيرا ما تثير أسئلة وجودية وفكرية وفلسفية، خاصة في استحضار شخصيات فلسفية وتاريخية وأسطورية وأدبية وسنيمائية (ابن عباد وابن عمار/ الملك لير وابنته كورديليا/غايا وكرونوس/ فرعون/سيزيف/منيرفا/ جيسون فور هيز/الإخوة لوميير/النبي يونس/سونيا في الجريمة والعقاب/مي زيادة والعقاد وخليل مطران وجبران).
وفي سياق البحث عن قيمة ضائعة، تصور ذلك أيضا قصة «سيدة الفجر» حيث يقول السارد: «وامرأة تبحث عن حبة هواء من النافذة/ضباب كثيف يغطي المجال/الهدير يوحي كعادته بجثث ملقى بها»(9). وإنه بحث مستمر، عن خلاص ما، في عالم ينتج أحياؤه الموت، ليس باعتبار الموت شرا، لكن باعتباره نتيجة فعل الكائن البشري من خلال ما يستخدمه من أسلحته الحربية؛ النارية والبيولوجية والتكنولوجية… ولهذا نجد القاص ابتدأ مجموعته باقتباس منسوب لـ«ليفيناس» يتحدث فيه عن الموت، من منطلق إنساني، حيث يحمِّل الأنا مسؤولية موت الآخر، حين تتركه يموت وحيدا. ثم يفتتح القاص نصوص المجموعة بنص بعنوان «لذة الموت»، هذا العنوان الذي يضعنا أمام التساؤل؛ ما علاقة اللذة بالموت، إلا إذا كان المقصود بالموت هنا الحب، كقيمة إنسانية يمتلكها الطرف الأول وتنعدم عند الطرف الآخر، لهذا انتهت القصة بقول السارد: «كانت تجيد الرقص مع الثعابين في أكواريوم الطاحونة الحمراء»(10)، كإشارة إلى الوجه القبيح للعالم والذي لا يقدر قيمةً إنسانية، مما يحيلنا على استنتاج مفاده، أن الوجه (في هذه المجموعة) وجهان، وجه (غائب) مبحوث عنه يمثل الوجه الإنساني القيمي الذي يتوق الإنسان أن يحتمي به اتقاءَ المكاره، وما يتمثل له من مظاهر الجمال (وهو ما أشرنا إليه سابقا)؛ ووجه قبيح منفر يتجلى أثره المتعدد في القتل والحروب والدمار، وأعطاب اجتماعية وسياسية وقيمية. هذا التقابل بين الوجهين يصادفه القارئ ضمن نصوص المجموعة تارة بازرا وأخرى مضمرا.. وفي سياق ذلك نستشهد بهذا الشاهد كمثال: «متخفية تخرج ليلا تبحث عنه، علها تفهم كسوفا يمنعها من رؤية كون اقتنعت أنه على هيئة رحم، وفزاعة بقميص متعدد الألوان في حقل بقرات نافقة»(11):
– «كون اقتنعت أنه على هيئة رحم»؛ والرحم هنا يحيل على الرحمة، وعلى الارتباط بالأصل؛( يعبر عن الوجه الإنساني القيمي).
– «وفزاعة بقميص متعدد الألوان في حقل بقرات نافقة»؛ حقل بقرات نافقة يحيل على الموت (ما يعبر عن الوجه القبيح).
أما قول السارد: «تخرج ليلا تبحث عنه..» فهو ما يعادل البحث عن المعنى، وعن رؤيةٍ أو رؤيا أوسع للعالم، وقد لا يجدها الإنسان إلا بعد أن يهوي في قاع سحيق، كما جاء في تتمة النص: «هوت في قاع الجب ومن فوهته تراءى لها القمر والصدى يردد: “أوريكا.. أوريكا”»(12). القمر يرمز لتلك الرؤيا التي يظل الإنسان يطاردها كخيط سراب، باعتبارها وجها مضيئا في عالمه.
على سبيل الختم
ختاما، نزعم أن مجموعة «الوجه والأثر» تعرض نصوصها عوالم يتقاطع فيها الواقع والخيال، وتقدم رؤية أو منظورا يمكن وصفه بالوجه الإنساني، في شكليه الجميل والقبيح، وما ينتجانه من أثر متعدد.
وما دمنا نركب سفينة القراءة، وحتى نترك باب التأويل مفتوحا بسبب مراوغة هذه النصوص (لأن القراءة دائما لا تنتهي فهي فعل متجدد ومستمر)، فإننا نفترض من وجهة أخرى أن النصوص موجهة نحو المعنى، والقارئ يبحث عن تفسير يحقق له المطلوب، كي يقترب من جوهر العملية الجمالية التي «تتولد في القارئ إثر انغماسه الشعوري والفكري فيما يبدو أنه مشكلة؛ فالحس الجمالي في النهاية هو محاولة لأسر ما له خصائص تلح على النظر فيها، وغير كاشفة عن نفسها»(13)، وهذا ما يمكن أن نسمه بعنصر الأثر، إذ يتجلى فيما يعكسه تفاعل القارئ إثر علاقته الدينامية بالنص، الناتجة عن منظورات القارئ المختلفة إلى النص، وهو ما يحقق الحياة له من خلال حركة القراءة بحسب نظرية “فولفغانغ إيزر”.
وبهذا فوَجه النصوص في «الوجه والأثر» (أي تركيبها اللغوي، وبناؤها، وفراغاتها.. وتناصها، وتوظيفاتها الأسطورية وطرحها الفكري والفلسفي..) يُوجِّه القارئ نحو تفسير معين بحثا عن المعنى، وبذلك يجد الأثر الجمالي في نفسه بما يؤسسه من نصه الافتراضي. وإذا كان كذلك فيحق لنا أن نقول إننا أمام مجموعة قصصية ذات وجه وأثر.
الهوامش والإحالات:
1. المصطفى سكم: الوجه والأثر، نصوص قصيرة جدا، سليكي أخوين، طنجة 2020، ص: 15.
2. سورة الروم، الآية: 9.
3. سورة الروم، الآية: 50.
4. الوجه والأثر، ص: 67.
5. الوجه والأثر ص: 83.
6. الوجه والأثر، ص: 83.
7. الوجه والأثر، ص: 83.
8. الوجه والأثر، ص: 69.
9. الوجه والأثر، ص: 27.
10. الوجه والأثر، ص: 5.
11. الوجه والأثر، ص: 7
12. الوجه والأثر، ص: 7.
13. نبيلة إبراهيم: القارئ في النص نظرية التأثير والاتصال، مجلة فصول، المجلد الخامس، العدد الأول، أكتوبر/نوفمبر ديسمبر 1984، ص: 102.