وسط ظلام دامس مرعب،في غرفة منفردة لا رائحة لها ، لم يكن هناك أدنى بصيص من النور ولا بصيص أمل ، سوى نافذة صغيرة استطاع من خلالها التسلل ، أسفل ذلك الضوء الخافت يظهر كشبح على هيأة رجل ، جالس على كرسي وسط تلك الغرفة الغريبة، وفي يديه قيود حديدية تربطه بطاولة خشبية، رجل في الثلاثينات من عمره، دات وجه شاحب وعينين غائرتين وحواجب عريضة تكاد تتصل ببعضها البعض ، لا يدري كيف وصل به الحال إلى هنا ، آخر ما يتذكره أنه كان مستمتعا بليلة ممطرة… ثم … ألقي عليه القبض … انفتح الباب فجأة ودلف منه شخص ضخم اتضح فيما بعد من بدلته أنه ضابط ،شعر الرجل المقيد أنه محاصر ،وقد أغلقت في وجهه جميع أبواب الخلاص والنجاة ، استغل الآخر وضعه وبدأ بالدوران حوله مما زاد توتره ،ثم ألقى عليه بارودا قائلا “أنت متهم بجريمة قتل!”
ماذا جريمة ؟ غاب صوته ، داب قلبه ، جمد الدم في عروقه، خاف، دعر وهلع ، ندت منه صرخة قوية داخلية لم يسمعها غيره مزقت أحشائه ، إغرورقت عيناه دموعا وبدأ بالارتجاف كالقصبة… جاؤه صوت آخر من محقق آخر لا يدري متى إنضم إليهم تبدو عليه القساوة والخشونة والصلابة موجها كلامه للمتهم،: ” كفاك تذمرا ودعرا كأنك لم تفعل شيئا ، حالتك معتادة لدينا ،تبدون ردة الفعل نفسها ، مجرمين بطبعكم…”
كلمات نزلت عليه كالصاعقة ، ابتلع من خلالها لسانه ولم يقدر على النطق، ساد صمت ليس بالقليل، قاطعه المحقق مجددا:
“لماذا تسكت؟”
أخيرا وبعد جهد طويل قال بصوت لا يكاد يسمع وبعجزٍ:
“-لا أدري ماذا أقول”
“- لكنك تعرف كيف تقتل ،هيا اعترف”
“-هل أعترف بجرم لم أرتكبه؟
صاح المحقق بغضب :”-كلام فارغ… هيا اعترف ماذا حدث تلك الليلة ، حدثنا كيف قتلته؟”
بعد عناءٍ طويل أخيرا رضي المتهم بسرد ما حدث ، استسرد قائلا وهو مغمض العينين : “-أتذكر تلك الليلة ، كانت تمطر بغزارة ، يهطل المطر على الشوارع والأزقة لينقيها، كان المنظر جميلا محدثا صوتا ولا أروع ،كرهت أن أبقى سجين البيت لم أرغب تفويت ما بالخارج، ” فتح عينيه فجأة وهو يتحسس رأسه يحس بألم لا يعقل كاد أن يفقد وعيه لكنه تابع
“- خرجت وأنا أستمتع تماما بالمطر وقطراته ، ثم رأيت غيوما سوداء حولي، ثم ألم في رأسي، ثم ألقيتم علي القبض فإذا بي في هذه الغرفة…”
صاح نفس المحقق بغضب :”-نريد اعترافا وليس سرد كيف قضيت ليلتك!”
” لكن سيدي هذا ما أتذكره ، أنا بريئ …
قاطعه مجددا:”-بريئ!! بريء وتم إيجادك جنب الجثة !؟ ،بريء ودم الضحية على ثيابك؟!، بريء وأداة الجريمة بيدك؟ كل الأدلة تشير على أنك الفاعل… خدوه ، زجوه في السجن إلى أن يحاكم …
ماذا ؟ السجن ؟ كان ذلك بمتابة إعدام له ، استصعب الأمر كثيرا ، بل بقي كلامه معلقا في ذهنه ، كيف تم ايجادي جنب الضحية؟ لم يتذكر شيئا مما قيل له ، ماذا يحدث ؟ لم يفهم شيئا …الأمور تزيد تعقيدا لكن لماذا لا يصدقه أحد أنه لا يدري ولا يتذكر أي شيء،
جلس يفكر ويفكر متصورا حياته بعد الآن، حياة سجين! سجين مظلم لم يرتكب أي جرم لكن مهلا ماذا إن كان بالفعل مجرما ! لا مستحيل ، لكن الأدلة تشير على ذلك ، راوده الشك حول نفسه مرارا لكنه يأس ، راح مناديا ربه ، إلهي كيف وصل بي الحال الى هنا ؟ ساعدني على ظهور الحقيقة فأنا لا أتذكر شيء، أرجو أن يكون ما أعيشه كابوسا أستيقظ منه سريعا، مع أنه ما من شيء دال أنه كابوس، مكث في إحدى الزوايا ، متأملا كيف كانت حياته من قبل وكيف انقلب كله شيء عليه فجأة،ما أصعب تلك اللحظة التي تكون فيها غريبا في مكان بل أشدها أن تكون غريبا مع نفسك ولا تجد تبريرا لحالتك،انفتح الباب ظنا منه أن ساعة الحكم قد آنت لكن لا يدري أنها ساعة إفراج، ساعة منحة بعد محنة، جاءه أحد الضباط مستفسرا له ما حدث أنهم توصلو لمقطع كاميرا لموقع الجريمة وأنه كان ضحية ! فالمجرم أفقده وعيه وذهب به جانب الجثة ووضعه هناك على أنه الفاعل، صاح بفرح :”-هل أنا الآن حر؟ أستطيع العودة لبيتي ،أليس كذلك؟
“-نعم أنت حر”
تنفس بأريحية أنه لم يفعل شيء ،وأخيرا كأنه ولد من جديد ، يا له من كابوس مزعج ، كادت حياته تفنى ظلما، كاد قلبه يدوب فرحا ، أنا حر! يالها كلمة بسيطة لكنها عميقة وقيمة … صدق من قال زر السجن مرة في عمرك تدري فضل الله عليك بالحرية…
أنت أيها القارئ ماذا لو كنت متهما بجريمة قتل لم تكن مذنبا فيها؟! رغم أن كل الأدلة تدل أنك الفاعل،
ماذا ستفعل؟