رواية حوش خوسي أوتشو للروائية الجزائرية ليلى عيون، والصادرة مؤخرا عن دار ميم للنشر والتوزيع، هي نص تتقاطع فيه عناصر عديدة، حيث يتشابك التاريخي والصوفي والعجائبي والمتخيل، كاشفا عن قصة الكاتب خوسي فرنانديز القاضي، هذا الشاب الإسباني الهارب من الموت، نعم إنه اللاجئ إلى وهران هروبا من رجال فرانكو. يقول “أنا خوسي فرنانديز القاضي” في يدي حزمة كواغد؛ لا أعي كيف استمسكت بها. لعلها هلوسة الروائيين عربدت بي، وفعلت الأفاعيل، وها أنا أمسك رغما عني بخيط واه أقرب للخرافة.” ص11
تُقسم الرواية إلى خمسة مقامات، يخص كل مقام شخصية من شخصياتها، أما المقام الأول فجاء تحت عتبة نصية بعنوان: هكذا تحدث خوسي فرنانديز القاضي” ، إذ يعبر هذا المقام على لحظة تاريخية تتمثل في هروب خوسي من الحرب عبر سفينة إنجليزية تسمى: ستانبروك، عام 1939، أيام الحرب الأهلية الاسبانية.
يصل خوسي وهران -وهو الذي طالما حلم بالسفر إلى أمريكا الجنوبية – مع 2638 لاجئ إسباني هربوا من الحرب الأهلية التي قاده فرانكو في نهاية الثلاثينيات من القرن الماضي. يحصل خوسي بعد أيام من المعاناة ورائحة الموت على إذن الاستقرار في وهران، وهو الذي يملك عقد ملكية حوش جده خوسي أوتشو.
يدخل خوسي مدينة وهران ومعه مخطوط ورثه عن أبيه يحكي قصة جده خوسي أوتشو، كتاب لن يكتمل إلا في وهران كما كان يخبره والده: هذا كتاب بلا أطوار، الحق بوهران يا خوسي هناك فقط ستكمله…ص 11
يتعرف خوسي على المدينة بمساعدة باسكال رودريغاس، الذي يعرفه بدوره على الصائغ اليهودي شاييم مزروحي. الذي يوفر له عملا في محله الواقع أمام حوش خوسي أتشو، الذي كان مطمعا لكل من السلطات الفرنسية وللصائغ مزروحي، ولكن دون جدوى، لأن مالكته الحاجة “غفورة” رفضت بيعه رغم الضغوط من الجهتين.
إن هذا الحوش ليس مجرد مكان للسكن، إنه بالنسبة إلى الحاجة غفورة مدرج للارتقاء نحو عوالم الكمال ومراتب التجلي. حيث تتخذ من شجرة التين التي في الفناء سبيلا لهذا الارتقاء، نجدها تخضب أطراف الأغصان بالحناء وهي تغني للشجرة” حنينة يا حنينة، والحنينة في صحن البلار، تربطها اخديمتك “غفورة” والصلاة على النبي المختار.” ص 48
بعد تردد يزور خوسي الحوش رفقة باسكال لإعلام الحاجة غفورة وولدها عبد الهادي، بملكيته لهذا المكان. ليلخص له عبد الهادي ردهم على هذا الخبر قائلا بكل هدوء: “هذا بيت أجدادي لم يكن ملكا لأسبان.” ص64
يلجأ خوسي عن طريق بسكال إلى القضاء الفرنسي ويحصل على قرار بأحقية ملكيته للحوش، فالسلطات الفرنسية وجدت أخيرا مالكا له يسهل التعامل معه وشراء البيت منه.
تصاب العائلة العربية بحالة من اليأس والحزن والترقب، لتقرر رحمة وزوجها قطع شجرة التين، مما يجر عليها مشاكل عصيبة، فقد فقدت وعيها بعدما صرخت بأعلى صوتها، لتفقد بعدها القدرة نهائيا على الكلام مما استدعى إحضار الشيخ البوجيدي الذي قرر بعد جلسات أن تحلق شعرها الأسود الجميل وتتحول إلى قرعاء لعلها تكفر عن ذنبها الكبير. فقد قال لعبد الهادي: ” قد أخطأت زوجتك وكل خطأ بلا توبة، بلا لوم يشيب النفس. والقلب يمرض مثل الجسد.. ولكن لكل خطيئة باب للتكفير…أمام رحمة طريق طويل.. ولكن تأكد حينما تتوحد كلية مع الألم، فإنه سينكمش. الألم كفيل أن يحررها. هكذا هو ناموس الحياة.” ص78، ص 79
أما المقام الثاني فبعنوان: هكذا تحدث خوسي أتشو، وهو شخصية أخرى تحيل على سياق تاريخي يعود إلى القرن الثالث عشر وبالضبط في آخر معاقل الأندلس وهي جزيرة “منورقة” أيام كان يحكمها ” أبو عثمان السعيد بن الحكم” ثم تولى ابنه “الحكم بن سعيد ” إدارة شؤون هذه الجزيرة حتى سقوطها في أيادي رجال ألفونسو”
عاش خوسي أوتشو، أو خوسو الثامن في بيت الشيخ البوجيدي وزوجته لآلة عربية، وانكب على تعلم الخط منذ صغره، ما أهله بعد ذلك ليصبح خطاطا في قصر الإمارة. فقد روى خوسي أوتشو تفاصيل وصوله إلى بيت البوجيدي، ومراحل تعلمه، وحال القصر ورجالاته الذين كانوا يترقبون مستقبل مدينتهم المجهول.
-هكذا تحدث “هارون القاضي” هو عنوان المقام الثالث، الذي يرد فيه حديثا عن سقوط منورقة وتسليمها للملك ألفونسو، وتصوير مأساة المسلمين الذين سقطوا دفاعا عن مدينتهم، أو أولئك الذين أبحروا إلى شمال إفريقيا بعد الاتفاق بين الحكم بن سعيد وألفونسو على توفير سفينة تنقله رفقة مخطوطاته وعائلته وعدد معتبر من حاشيته منهم خوسي أتشو، فقد احترق البوجيدي في بيته وهو بصدد حمل مخطوطاته والاستعداد للهرب من القشتالين الذين هجموا على المدينة دون هوادة، شعارهم طرد المسلمين واسترداد الأندلس. أما هارون فقد لجأ إلى الجبال واختار أن لا يغادر منورقة مع الحكم بن سعيد.
– يحمل المقام الرابع حديثا لـ”ثريا” وهي في الأصل زوجة هارون، التي تحكي ما وقع لمدينة منورقة من تحولات نحو المسيحية ومطاردة المسلمين ، هذه الجزيرة التي كانت تنبض بحياة العرب والمسلمين قد أصبحت مقبرة لهم، خاصة بعد أن لفظ البحر جثث الآلاف من الغرقى الذين كانوا متوجهين إلى شمال إفريقيا ، فقد خدعهم ألفونسو باتفاقه المزعوم.
أما ثريا فلم تغادر مع سفينة الحكم بن سعيد، وعادت إلى المدينة وأصبحت تعمل في بيت خوان أنطونيو، وهو المالك الجديد الذي أعاد ترميم بيت البوجيدي. لقيمته التاريخية والحضارية .
وتصور”ثريّا” أشكال التعذيب الذي لحق بالمسلمين من قبل رجال ألفونسو، لأنهم ببساطة لم يتمكنوا من نسيان دينهم وعاداتهم وشعائرهم الإسلامية.
جاء المقام الخامس والأخير على لسان خوسي أتشو الذي استقر في وهران، ليجمع بين الشرق والغرب، أليس هو الإسباني المسلم، يعيش في الحوش الذي سيحمل اسمه بعد ذلك بقرون، يلتقي بثريا التي مات زوجه هارون ونجت هي، ثم يتزوجها ويعود إلى اسبانيا “خاصة وأن غرناطة لم تسقط بعد. ويتضمن هذا المقام حديثا عن شجرة التين ورمزيتها لدى خوسي أوتشو.
ينهي خوسي فرنانديز القاضي أخر مشهد في رواية ليلى عيون، حيث يتعلق قلبه بوهران، وبحوشخوسي أوتشو، يقول في ذلك
“ها هو الاستيلاء كما كان في كلّ الأزمان مناسبة مأسوية للقاء الشرق بالغرب… لقد تفأيت شططه في إسبانيا ثم غشيّ عليّ هنا في الجزائر، وها هو المخطوط يعبق به في محظية من أرض الأندلس” ص 176، ليقول بعد ذلك “…يا الله أنا خوسي فرنانديز القاضي المسلم، المنورقي ، العربي، القشتالي، المسيحي. أخالني قد رميت بالقبعة واعتمرت عمامة ولبست طيلسانا وها أنا ذا أطل من شرفة قصر، أسقفه خضراء وأعمدته من الرخام والمرمر.” ص 177
يقرر خوسي مغادرة وهران إلى المكسيك، ويزور الحاجة غفورة التي تودعه مبتسمة وقائلة” أشعل قنديل قلبك، سينير لك حتما سرادق التيه” ص 178.
-تتقاطع في رواية حوش خوسي أوتشو مستويات عديدة، تجمع بين التاريخي والصوفي والأسطوري، والرمزي، تجمع بينها شجرة التين المتواجدة في حوش خوسي أوتشو وعلاقتها الرمزية بالحاجة غفورة، والشجرة كما يرى الفرنسي “مرسيا إلياد” لها تأويلات عديدة أهمها أنها ترمز إلى وجود أرفع يتعدى الشجرة ذاتها، مما يمنحها هالة التقديس الرمزي. أن هذه الشجرة كانت هي السبب في نجاة “ثريا” من بطش خوان أنطونيو” الذي احتل منزل عائلة الشيخ البوجيدي. كما إن شجرة التين المتواجدة في حوش أوتشو هي التي كانت سببا في فقدان رحمة القدرة على الكلام.
وتعد شخصية البوجيدي شخصية متعالية عن التاريخ، فحضورها في القرن العشرين وفي بيت الحاجة غفورة، يبدو غير منطقي، فهو يعود من التاريخ ليمتزج بالواقع، محيلا على نوع من التعالي كما يراه كارل يونغ، إذ إنها شخصية تربط بين الحقيقي والخيالي، أو بين العقلاني وغير العقلاني، مما يجعل هذه الشخصية التي عالجت ” رحمة” ليست إلا حلما، تنتقل فيه من التاريخي إلى العجائبي. بل من التاريخي إلى الصوفي.
لا يحضر البوجيدي حقيقة، بل يحضر بعيدا عن سلطة التاريخي، إنه يحضر من منظور الباريدوليا التي في معناها الإحالة على الإدراك المألوف لشيء غير موجود. بمعنى هل كان خوسي فرنداديز يتوهم وجود شخصية الشيخ البوجيدي، الذي عاش في عصر جده منذ أكثر من سبعة قرون. لهذا فيبدو أن هذه الشخصية عبر زمنية، وليس العقل من يكشفها، بل هي جزء من الذات النفسية لدى خوسي الشاب.
ويجمع بين أحداث الرواية زمنيين، زمن القرن الثالث عشر ميلادي، عندما سقطت مدينة منورقة في يد ألفونسو وجيشه، زمن قتل فيه الكثير من المسلمين حرقا وتعذيبا وغرقا وتهجيرا، حيث نجا خوسي أوتشو جد خوسي فرنانديز واستقر في وهران بعد هجرته مع الحكم بن سعيد الذي يبدو أنه لقي مصرعه غرقا، وزمن ثلاثينات القرن العشرين عندما هرب خوسي الشاب من فرانكو واستقر في وهران قبل أن يقرر مغادرتها إلى أمريكا الجنوبية.
لقد استطاعت الروائية ليلى عيون أن تجمع بين هذه الأزمنة والشخصيات في برنامج سردي، تداولت عليه شخصيات خوسي فرنانديز وخوسي أوتشو وهارون القاضي وثريا …
وتظهر مدينة وهران باعتبارها حاضرة كوزموبوليتانية، تذوب فيها الثقافات الوافدة لتتحول إلى ثقافة متوسطية تستقطب الجميع، فقد لعبت دورا حاسما في كثير من المحطات التاريخية، في علاقة الجزائر بالأندلس، ثم بإسبانيا ثم أيام الاستعمار الفرنسي. وكما ورد في الرواية على لسان باسكال: ” هكذا هي وهران مدينة تفتح ذراعيها لكل الأجناس…” ص 45.