أنت وحدك تتعلم أن تمشي كرجل وحيد ،أن تتسكع بين شعاب الحياة ومنعرجاتها دون رفقة،أن تجر قدميك، تدوس بلا هدى بلاط الأرصفة وأنت ترى دون أن تنظر،أن تنظر دون أن ترى،تتعلم باصرار أن لا تقوم بردات أفعال ،عدم إتخاد قرارات ،تتعلم أن تظل جالسا ككرسي شاغر ،أن تظل مضطجعا كسرير ممدود ،تتعلم أن تجلس القرفصاء دونما حراك ،أن تظل واقفا كتمثال منصوب،تتعلم أن تنظر إلى اللوحات كما لو كانت جدران أو سقوفا،وفي الجدران كما لو كانت لوحات فنية بديعة ،تتابع فيها بلا كلل متاهات يضيع كل من سقط بين دهاليزها ، تقرأ نصا مغرقا في الغموض ،وجوها قيد التحلل، تتغلغل في أزقة المدينة، تأخذ وجهتك نحو شارع ما ،تمضي نحو زقاق آخر ،دونما هدف ……ترجع على أعقابك ملاصقا لواجهات المتاجر الكبرى ،تمضي لتجلس على أفريز الجسر تراقب اندفاع وانحسار النهر تحت القنطرة ،تصغي بانتباه تام اضطراب الماء المرتطم بالأعمدة،يثير انتباهك عزم واصرار صيادين على مراقبة حركة شباكهم أو جذب صناراتهم ،اهتزازات مراكب الصيد على أديم النهر،تسير بمحاذاة سور إقامة سكنية ، تجلس على مقاعد خشبية ذات قوائم من حديد مصبوب منحوتة على هيئة حوافر خيول بحديقة عمومية، مسنون مندمجون في لعبة الورق يآزرهم حماس وهتاف مشجعيهم ، بطرف حذائك ترسم على الأرض قليلة الرمل دوائر،مربعات، حروف ،طفت دائريا بأسوار المقبرة،مررت ببعض الميادين العامة ، جلست على حافة النهر،طفت كل الأسواق،سوق شعبي ..سوق السمك،سوق المتلاشيات ..محطة المسافرين، مراقبة أوقات خروج الموظفين من مكاتبهم ، مشاهدة مباريات كرة القدم بملاعب القرب في الأحياء الشعبية،ساعة الذروة وهرولة المارة نحو أبواب الحافلات، شبابيك القطارات، سيارات التاكسي، مرابض السيارات في سباق محموم مع الوقت،
في جو خانق مشبع بأبخرة مداخن المصانع و عوادم السيارات تنتابك نوبات سعال حاد تشعر باحتقان واختناق،شيئا فشيئا تستعيد قوة تنفسك الذي له امتداد عبر كل وقت،عبر ساعات أيام فصول،تنفض يدك من كل شيء،اكتفيت من أمور لا تستحق العناء
تكشف أحيانا بما يشبه الثمل،أن لا أمرا يثقل عليك لا ميلا ولانفورا تكييف حياة غير متآلفة وخالية من نبضات السعادة ، وماعدا تلك اللحظات المغلفة بفقاقيع فرح مؤقت ،تعيش داخل هامش سعيك للعيش في فراغ ماحق وكآبة سقيمة لا تتوقع حدوث شيء جميل ،أنت غير مرئي أو ربما شبح،تلاحق ساعات،تلاحق أيام، مرور فصول، جريان الزمن، أنت على قيد الحياة فقط دون بهجة مستمرة ولا حزن دائم، دون مستقبل واعد، لا ماض طواه النسيان هذا ببساطة تامة،بوضوح كامل مثل قطرة ماء بلورية تتجمد في صنبور،في خزان كبير، على مصطبة عدم الاكتراث بمرور الوقت تفقد كل حماستك تحل محلها برودة طاغية ، عيناك فقدتا كل ما كان يبعث فيهما الألق،البريق،هيكلك تقوس بعض الشيء، قامتك انخسفت قليلا ،كرشك ترهلت ، وجهك تجعدت قسماته ، في أعماقك قبعت بعض المرارة، في زاوية شفتيك ارتسمت ثمةابتسامةباهتة،تنزلق الأيام من رزنامة التاريخ، على اللمس أصبحت مستعصيا، ولو تلويحة تحية، خطواتك تقوم بحياد لم يعد لديك إلا حركات مدروسة لم تعد تنطق إلا بكلمات ضمن مجاملات لا تتجاوز حدود اللباقة، لا تقول أبدا من فضلك، صباح الخير، شكرا إلى اللقاء،لا تحيد عن طريقك، تجر قدميك تمشي، جميع اللحظات متساوية، جميع الأماكن متشابهة، كل ما يصادفك لا يعدو كونه شيئا مألوفا ، لست أبدا على عجل، لديك متسع من الوقت ، تستسلم للتيار تتركه يجرفك كليا بقوة ورعونة
ملصقات إعلانات، أرض مرصوفة واجهات متاجر إشارات ضوئية علامات تشوير،تمشي أو لا تمشي، تنام أو لا تنام، تشتري……. أو لا تشتري ، تأكل أو لا تأكل،تجلس، تتمدد، تظل واقفا تنزلق داخل نفق معتم ،تدخن لفافة تبغ وتعبر زقاق كله ،تعود للإنطلاق من جديد، تتعمد للامبالاة وعدم اكتراث لشيء ما،دون بداية ولا نهاية إنها حالة جمود عطاءها قد لا يكون في وسع أي شيء زعزعتها، تفقد شهيتك في الكلام،الضحك، في اظهار ردات فعل أولية،لا تعرف عندما تكون إشارة ممر المرورالحمراء، ترتدي أكثر في صباحات الشتاء الباردة،تغير قميصك الرياضي جواربك سروالك ثيابك الداخلية مرة في كل أسبوع ،اللامبالاة تفكك اللغة، تشوش الإشارات، أنت صبور ولا تتحمل، أنت حر ولا تختار،أنت محاط بحشود و وحيد ،تسمع دون تصغي أبدا، ترى دون أن تنظر أبدا ،قد تود أن تصير إلى ما كنت عليه من قبل لكن ربما من تأثر معنوياتك في الكبر، تقاوم أعصابك بأسرع ما ينبغي رغما عنك،تجبرك قدمك على المشي، تشابك أصابعك ولا تنفك عن التحديق في كل اتجاهات بلا توقف ، تمشي على أسفلت الطريق، تدور في حلقة دائرية، تحدد لنفسك أحيانا أهداف جد مضحكة،تدخل مكتبة تقلب صفحات كتب دون أن تقرأها، تلج متحف تقف أمام كل لوحة مائلا برأسك،طارقا بعينيك متراجعا بضع خطوات للوراء لتدقق فيها بشكل أفضل، لدى خروجك تترك في سجل الزوار توقيعا مبهما غير مقروء مع عنوان مغلوط ،تقرأ صحيفة سطرا سطرا دون تفويت شيء، تتلو خبر تلو خبر تدقق نظرك في كل صورة بتمعن جيد لكن ذاكرتك راعت أن لا تحفظ أي خبر، المهم تمضية بعض الوقت والتسلية،لا تمسك أي شيء، عيناك تقرأ سطور بترو وتأمل واحدا بعد الآخر، مواجهة العالم باللامبالاة وعدم الإكتراث مجرد أنك متجاهلا ولا معاديا،ليست غايتك استعادة فرح سلبي للأمية بل بالقراءة، عدم إعطاء أي إمتياز لقراءتك،ليست غايتك أنت تكون عاريا كدودة بل مجردا من بعض ثيابك ،ليست غايتك أن تحشر أنفك في أمور تستدعي هذا بالضرورة البحث أو الإهمال، ليست غايتك أن تموت جوعا بل مجرد تناول بعض المأكولات ، أنها أفعال ،حركات لكنها ليست براهين ليست عملة قابلة لمقايضة أو مبادلة ، غذاؤك ملء المعدة ليس له تحدي بعد اليوم بدلا عنك لم تعهد إليها بالمهمة تمثيلك تبتلع مرة أو مرتين يوميا كسرة خبز شرائح بطاطا مقلية بالزيت المغلى وبعض قطع السمك حبات الزيتون مخلل لكن معدتك لم تعد تميز عصيبات متشعبة ،ألياف مفتولة، يعصيك النوم تضع كتابك جانبا، تحملق بعناد في سقف غرفتك، كل شيء مبهم غامض لا شفافية فيه ، كل نهار قوامه صمت رهيب بأعماق ذاتك وضجيج مدوي بعيدا عن عالمك ،ضياء بجنبات داخلك وسواد قاتم خارج محيطك
ارتعاش طفيف يسري في جسدك، تستسلم للغرق تغدو طوعا للتلاشي، مطية للفراغ والهرب منه في نهاية المطاف ، التوقف أمام نافذتك الجلوس على أريكة بغرفتك، اغتسالك حلاقة ذقنك إرتداء ملابسك واعتمار قبعتك،مغادرة بيتك قصد التنزه، العتمة مثل الضياء،إلغاء كل شيء،لا وجود إلا لوقع خطواتك ونظراتك التي تحط وتنزلق غائبة عن الجميل القبيح ،المألوف المذهل، المظلم الوهاج دون أن تلتفت أبدا إلى شيء، أو تأبه بأمر سوى تمرير أشكال ،أضواء ،إلتماعات تتشكل وتتلاشى دون توقف في كل مكان،تجول ببصرك بحدائق ،نافورات ،ساحات ميادين، أشجار، أسيجة ،رجال، نساء ،أطفال ،كلاب ،قطط، فورات لغط، نوبات ضجيج، شوارع مرصوفة تلمع حجارتها تحت رذاذ مطر ناعم.