هذا المساء لا يريد أن يتحرك قيد تنهيدة. حتى الصمت كان صامتا، مهزوما في جو صهد قاهر. لم يسعفني الترنح والدوران في الكرسي المنهك، محدثا صريرا خفيفا لا يقطع سحابة الملل والفراغ. ولا السجائر ألتهمها الواحدة تلو الأخرى حتى بدت لي المنضدة على وشك التقيؤ.
أمسك بالقلم، أهم بخربشة شيء، أتراجع. ألهو به قليلا بين أصابعي، فجأة أخط بعنف وشما ينغرز في الورقة، أشرف أن أسمع صيحتها من وجع الجرح! بل قساوة التعذر والهبوط الحاد في كل شيء. لا يحدث شيء من هذا. أرفع بصري، سقف بارد الملامح صارم، كما لو ينتظر الوقت المناسب ليطبق علي، على التفاصيل الساكنة.. فينهي الأمر!
ـ هل تريد البيض مقليا أم مسلوقا؟
لم أجب، أخذت أحملق في كل الاتجاهات. أبحث عن شيء. أي شيء؟ هل يستطيع هذا الصوت، هذا السؤال أن يلامس شيئا من الطقس المريض؟ يقولون: البنية تتغير بتغير العناصر، هل يتغير عنصر بسيط، يستجيب لذبذبات فونيمات امرأتي؟ صوتها بشهادتي، من أرق وأجمل الأصوات، ربما بشهادة كثيرين. هذا يعزز الاستجابة! حتى عندما تصرخ مغاضبة، لا يَحُول مزعجا أبدا. هل بعد هذا شيء؟ ها.. ماذا؟ أتيقظ، أراقب أي إمكان. كل إرهاص دبيب. هذه الورقة تريد أن تتململ من مكانها. لا. الهاتف؟ سيرن الآن.
استمرت الآنات في التناسل من بعضها وارفة الموت. قد يدور القلم رأسه الحاد تلو الصوت باحثا عن صاحبته، ليخرج عن احتباس المداد. تصلب الرحم. استمرار المخاض الجاف. لا شيء حصل البتة. لا عنصر استجاب. أنا واهم حتما. يبدو أنني الوحيد الذي سمع الصوت. مع ذلك تأخر تجاوبي! هل تماهيت والعناصر المتواطئة على القتل الرحيم؟
ـ أريده… لست أدري. كيف تفضلينه أنت؟
مازال الصهد مخيما على الغرفة، البيت بأكمله، بالحر، بالهدوء المزمن، بلحظات خارج الحياة. هذا ما أحس به. وصوتي لا يصلح حتى للكلام العابر! ما يزيد الرمل ظمأ! طأطأت رأسي هذه المرة. لن أنتظر معجزة بلا ظروف مواتية! هل أحفر حفرة في الجدار. أخرج على الجيران بتبان مثقوب وقميص شجت بياضه بقع مرق لم أعد أتذكر في أي يوم تناولناه! أهرول إلى المطبخ. أكسر الأطباق كما يفعل اليابانيون للتنفيس عن توترهم! أعتقد أن التريث أفضل! الأطباق في اليابان رخيصة. حسنا، كيف سأخرج من حالة الكمون هذه، بلا خسائر أو جنون؟
ـ العشاء جاهز.
هل أنا جاهز. لست مطالبا بتحرير القدس. سأجهز على لقيمات فقط، لسد رمق الخلايا لعلها تواصل المقاومة. الوقوف في وجه الزمن الممطط. ستفتح فمك فقط. لن تتحدث حتى. ستشغل أسنانك عن التفكير قليلا.. هل سيساعدني الكرسي الأليف على النهوض؟ مضت ثوان. ترنحت، لم يتيسر الدوران حتى. يبدو أن الوضع يسير في اتجاه غير الانفراج. قمت بتؤدة. لا تصفيقة. يبدو أن جرأتي على مغادرة الغرفة ليست حقيقية. ها أنا أجرجر قدمي كالعائد من مظاهرة في بلد عربي. البيض ينقص جزءا جزءا. لهجة المضغ رتيبة. البلع كصبر مزمن.
ضجيج التلفاز غير ذي جدوى. كنباح كلب في كوكب الصم. كأنه خرافة منبوذة لا تعني شيئا. كيف يحدث كل هذا؟ تساءلت وأنا أودع آخر لقمة أحشائي المشوشة.
ـ الحمد لله. ختمتْ زوجتي.
ـ على كل شيء. أردفتُ.
لمَ لا أخرج؟ فكرة. لكنها مغامرة كبيرة. إذا لم يحدث شيء. سأنتهي جثة مع وقف المزاج الحلم! راودني الأمر قبل البيض وقصته، قبل مناوشات العناصر القاسية. قبل المحاولات الفاشلة لصنع اللحظة المطلوبة. على الأقل هنا في الغرفة، في البيت، لازال هناك أمل في أن الفيروس محدود الانتشار. قلم واحد متمرد. أوراق يتيمة بعدد لا يتجاوز أطراف أصابع اليد. كرسي لا علم له بحال بقية الكراسي. وجبة عشاء تتكهن فقط بمثيلات متفرقات هنا وهناك دون تحديد.
هل أجازف؟ سألبس ثيابي. لن تشعر بي. حذائي لن يخرج عن القاعدة. ربما الجوارب الجديدة ستسعد بلقاء قدمين للمرة الأولى؟ سأقترف الحل الأخير. تفحصت زوجيْ الجوارب مليا. لن يتحدثا إلي. لا.. على الأقل سأشعر بشيء عند الإمساك بهما. ليس بعد. ارتديتهما. ازداد الحر فقط. هل هو دفء اللقاء؟ ضحكت. استأنفت لبس ثيابي. أولجت قدمي بالجوربين السلبيين حذائي البئيس. قلت لنفسي: فليكن ما يكن.
ـ أحضر معك بيضتين لفطور الغد.
الأبواب عناوين المنازل كما يقولون. ها المقهى. رواد متفرقون هنا وهناك. أكواب قهوة ترافقها كؤوس ماء كالخفر. أباريق شاي صغيرة، كأن أصحاب المقاهي ورثوها عن الأقزام، لا شيء جديد. لا شيء مريب. لا أحد يتابع المباراة. النادل يتنقل على مهل. كالمصاب بداء التصلب اللويحي. أخذت مكانا غير مكاني المعتاد. لم يكن شاغرا.
أحضر النادل طلبي الروتيني وانصرف دون تحية. فكرت في البيضتين. ذاكرتي ضعيفة، يجب أن أتذكر موعد إقفال الدكاكين قبلهما. طفقت أرشف البن الرديء مرددا:
– بيضتان للفطور. الدكاكين تقفل بعد العشاء..
أنهيت قهوتي، بعد أن آنستها ببضع سجائر. قمت من مكاني بعد ترك الدريهمات بجانب الكوب شبه الفارغ.
أسرعت لأعبر الشارع في اتجاه الدكان. مستمرا في ترديد المفيد: بيضتان قبل إقفال الدكان. تذكرت أن المجازفة لم تنجح. مازال الفراغ والحر والسكون السرطاني سادة اللحظات الرتيبة جدا. لا أحس بالمعجزة. قهقهت.
لا أحس ولا حتى بنسيم يدغدغ ركود الفكر ولا سبات الخلايا. لا مشهد يشد الانتباه. يقلب المزاج. في منتصف الشارع صوب الدكان. صوت فرملة شديدة. اصطدام متوسط. لا بد أنه متشرد. مار شارد. امرأة لا تعرف قواعد عبور الشارع. طفل متهور. بيضتان قبل إقفال الدكان: رددت بصوت متهدج يخفت شيئا فشيئا.. أحسست ببلل أسفل مني. جسسته بيدي. نظرت. دم يسيل، يتحرر من القيد، يقلب المساء إلى أكثر من تنهيدة.
بيضتان مفترضتان مدعوستان ببشاعة.