كدتُ أصَدِّقه، لولا أنني آخُذُ، في كل المواقف، بالرأي المأثور: “من الحزم سوء الظن”. شابٌّ في العشرينيات من عمره، أسمر اللون، قصير القامة، ذو بنية قوية، لا تتناسب مع حالة الخوف والفزع التي تنطق بها عيناه المَشوبَتان بحمرة تكاد تخفي بياضهما. سروال “الجينز” الجديد، والقميص الأبيض الناصع، والحذاء الرياضي الفاخر، كل ذلك يمنح شكله نوعا من القبول لدى الآخر. حين دخلتُ، أنا وصديقي، إلى المقهى، لمحتُه مُنزَوِيّا في ركن قَصِيّ… تَطلَّع نحونا بعيْنيْ فهد، ثم تظاهر بالنظر في هاتفه الخلوي. المقهى في هذا الوقت من الظهيرة، لا يَؤُمُّه إلا المتقاعدون أمثالي، والباحثون عن فرص للربح السريع، والمتعقِّبون للضحايا المغفّلين…
ما إن استوينا في طاولتنا المعتادة، وقدّمنا للنادل طلبنا اليومي المألوف، حتى جاء الشاب الأسمر، واستأذنَنا في الجلوس معنا لبعض الوقت… اكتشفتُ من فرَنسِيّته الرديئة، ولَكنته الإفريقية المميّزة أنه قد يكون أحد المهاجرين غير الشرعيين… لم يَسَعني إلا أن آذَنَ له بالجلوس… سحَب كرسيا من الطاولة القريبة، وألقى نظرة خاطفة نحو الباب قبل أن يجلس.
ــ اسمي إبراهيما، وأنا من مملكة ليسوتو.
نظرتُ، باستغراب، إلى صديقي الذي كان يتفرَّس في ملامح الشاب، ويتأمل هيئته… استبعدتُ أن يكون هذا اسمه الحقيقي، فدولة ليسوتو مسيحية، وليس بين سكانها مسلمون… وحتى لو فرَضْنا صحة هذا الاسم فإن نطقه بهذا الشكل لا نعرفه إلا بين مسلمي دول غرب إفريقيا… سكتَ لحظة، كأنه يستطلع أثر جملته الأولى علينا… ثم أضاف:
ــ أنا من الأسرة الملكية في ذلك البلد… وقد جئت إلى المغرب لإنشاء مشروع تجاري مهم… نظر إلينا مَلِيّا، محاولا استكشاف رد فعلنا، ومدى اهتمامنا بالأمر…
قال بعد أن لاحظ بعض الاهتمام الزائد من قِبَل صديقي:
ــ استيراد الألماس من ليسوتو، وتسويقها في المغرب، ثم تصديرها نحو أوروبا. هذا هو المشروع.
كتمتُ ضحكة كادت تَفضَح استهزائي بالمشروع. متقاعدان بالكاد يجمعان طرَفي الشهر، ويُدبّران راتبيهما بشق الأنفس، فما شأنهما بمشروع استيراد الألماس؟ ومن أين؟ من مملكة ليسوتو.
تنحنح صديقي، وهو يُسوّي جلسته في الكرسي، بعدما سحبه قليلا في اتجاه الشاب الأسمر، الذي أخرج من جيب سرواله ثلاثة أنواع من حجر ملوَّن، قال إنها عينة من الألماس التي سيستوردها. تناولها صديقي من يد الشاب، ومضى يقلبها ظهرا لبطن… لم يُثِرني الأمر، بل انشغلتُ عنهما بهمومي ومشاغلي الخاصة… وغير بعيد عني، جلس شاب مفتول العضلات، يتحدّث في هاتفه، وينظر بطرف عينه جهة صديقي والشاب الأسمر… رابَني أمرُه… هل استهوَتْه الأحجار الكريمة، ويدبّر في الخفاء أمرا للاستحواذ عليها؟ قد تكون مكالمته جزءًا من التخطيط لذلك…
أثارني في الركن القريب مني عنكبوت، وقد نسج خيوط بيته بمهارة، وربض بينها في حالة تأهُّب، وهو يتابع ذبابة طائشة، تحوم حول البيت، وتوشك أن تقع فيه…
قال الشاب الأسمر بعد أن استرجع الأحجار من صديقي:
ــ أخي الأصغر سيُحوِّل لي في الأسبوع القادم المبالغ الضرورية لإنشاء المشروع. أنا متأكد أنه مشروع ناجح، خصوصا إذا تمكَّنّا من اكتساح الأسواق الأوروبية. التفتَ من جديد جهة الباب، ولما اطمأن إلى أن صديقي أبدى اهتماما بالغا بالمشروع، قال:
ــ ستكونان شريكين فاعلين، وستَتَوَلَّيان الإشراف على المعاملات مع الأسواق الأوروبية. أنا واثق من قدرتكما على كسب ثقة الزبائن هناك.
نظر إليَّ صديقي، كأنه يَسْتَجْديني أن أقول شيئا. حوّلتُ عنه وجهي كناية عن عدم اهتمامي بالموضوع. ولما يئس من أمري، قال للشاب الإفريقي:
ــ وما المطلوب منا نحن الآن؟
ــ في الحقيقة تعرفون عراقيل المصارف، وبطء مساطرها الإدارية. لذلك، وبما أنني أتوقّع بعض التأخر في سحب المبالغ التي سأتوصل بها، فإنني أحتاج الآن، وعلى وجه الاستعجال، سيولةً أدبِّر بها الإجراءات الأولى للمشروع، من إعداد الوثائق الضرورية، وكراء المقر، وتجهيزه، وتوظيف المستخدمين…
لم يَكُفَّ، وهو يحادث صديقي، عن استراق النظر إلى الباب، كما لو أنه يخشى من شيء يفاجئه. سكتَ فترة كافية ليهضم صديقي ما ألقَمَه إياه. ثم قال وهو ينطق الأرقام بفرنسية واضحة، لا تكاد تَشوبها لكنة غريبة:
ــ أحتاج الآن مائة ألف درهم. وسأُسلِّمكما وصلا عنها، لتَسْترِدّاها فور وصول المبالغ المرتقبة من لوسوتو.
عاد صديقي ينظر إليّ بتوَسُّل، طالبا المشورة، بعد أن صدمه المبلغ الكبير الذي سمعه. وفي الوقت الذي بدا فيه الشاب الأسمر مستعجِلا الرد من صديقي، سمعنا جلبة عند مدخل المقهى، ورأيت الشاب المفتول العضلات يضع هاتفه في جيبه الخلفي، وقد سبقه شابان آخران في مثل هيئته وبنيته، وأحاطوا جميعا بالشاب الأسمر، ثمّ وثّقوا يديه بالأصفاد الحديدية، وساقوه أمامهم… التفت أحدهم نحونا، وقال مبتسما:
ــ حمدا لله على سلامتكم، يا تجار الألماس…
الدار البيضاء في: 27/08/2023.