هكذا أخبرتني بعدما صارحتك بما أكنه لك من أحاسيس، و بعد ما صار لساني لا يكف أن يلهج باسمك و بهواك، ملتحفين بلحاف السماء منغمسين في الرذيلة إلى حدود التماهي.
كل من عليها فان.. كنت ترددينها حتى وأنت في قمة انتشائك؛ عندما تمجين سجائرك و تنفثين دخانها وتعكرين به صفو غرفتنا التي لا سقف لها.. بيت قديم بغابة مشرع ليلا على ضوء القمر و على نجوم السماء، لا شيء حقيقة كان يعكر صفونا غير مقدم الصباح!
كل من عليها فان… هكذا كان تسبيحك.. تهليلك حتى عندما أخبرتك أن الحياة من رحمك قد ولدت و أنها أي- الحياة- من دونك رحيل قبل الأوان! لقد كنت حاضرة غائبة.. جسدك هنا و روحك بمكان ما! لقد أخبرتك يوما أن رحيلك قد يكون حبلا يطوق جيدي و أنا البريء لا ذنب لي سوى تورطي في جرم حبك! خلال زمان طويل كنت أرمي أوراقي كاملة على طاولتك عسى أن أسمع منك كلمة تكون بلسما لجراحي التي رسمها صمتك على جدار قلبي.. ولا شيء أسمع سوى صدى شهيقك و زفيرك اللذين كنت أخالهما بداية لبوحك! اكتشفت فيما بعد أن ذلك الشهيق و الزفير ما هو إلا استعداد للقتل العلني الذي ستقدمين عليه في القادم من الأيام!
ها أنذا، وحيدا ألوك مرارتي، و قد راح مني نصفي الثاني.. كيف لي أن أعيش بنصف مشلول مكلوم لا يقوى على الحراك؟ حتى تلك الموسيقى التي طالما سمعناها سويا، باتت نشازا يتردد في الأوصال، لم أعد أطيق سماعها، حتى رائحة العطور باتت تذكرني.. لكل عطر ذكرى موشومة بمخيلتي التي أضناها الوجد، وأضناها حر الذكرى نفسه. كل الأمكنة خالية، يا نون العظيمة، إلا منك.. كيف يطيب لي المقام بأمكنة تضج بذكراك؟ إن القتل أرحم يا نون.. إن القتل أرحم يا نون من هجرانك دون أن تقيمين لي قداسا يليق بمتيم من طينتي.
كل من عليها فان.. كان أول كلامك حين التقينا وكان آخر كلامك قبل أن تطلقي علي رصاصة الرحمة، ونحن منصهران، وقد التفت الساق بالساق؛ ساعتها كنت أخطط لبداية جديدة فيما كنت تخططين لنهاية مرة، لكنها كانت بداية في حد ذاتها.. بداية لقهر العواطف و وأد الرعشات، فصار كل شيء مجرد ذكرى لا غير؛ و حتى لا أخفيك سرا، ولأكون صادقا معك، دعيني أخبرك أن الأمر لم يكن بالهين بل احتاج للتمرين القاسي.
هل تذكرين أول مرة ناديتك بنون النسوة العظيمة؟
لا أدري إن كان لفظ العظمة يليق بك؟
أمازال يسري عليك؟
أم أن رحيلك قد يجبرني لتجريدك منه؟
لا أدري يا نون…لا أدري!
كل ما أدركه الآن أن قولك: -كل من عليها فان.. لم يصدر منك عبثا، بل كنت ترددينه مع سابق إصرار وترصد!
هل تذكرين يا نون العظيمة حين أخبرتك يوما أنني لم يسبق لي أن آذيت أحدا من الخلق و لم أجرؤ على ذلك؛ بالمقابل تماديت في إيذاء نفسي، وبكل ما أوتيت من قوة، و بشتى الأساليب، لقد أرَّقني هذا الشيء وسلب من مقلتي النوم لأيام طوال.
كيف لحمل وديع مثلي أن يذبح على يد أقرب الناس إلي قلبه.؟
صرت بعدها عاجزا مضربا عن المأكل و المشرب. وربا عجزي عن النوم، و أمسيت ملازما لجعتي و سيجارتي.
هل تذكرين يا نون العظيمة يوم كنا بذلك البيت الخشبي الريفي،؟
كنا ثلاثة، أنا…أنت و الحب، ساعتها كنت أغار من الفراش و هو يحط عليك ليسرق بعض الرحيق من شفتيك الشهيتين، ومن الطيور وهي تأكل من راحة يديك! حينها أدركت أننا محور الكون، أنا ..أنت فقط، متناسيا أن هنالك خلق عظيم خلقا عظيما بمكان آخر.
هل تذكرين يا نون العظيمة؟ كم كنا نقتات على موزار و نحتسي شوبان.. نردد لحنيهما حتى ونحن نركض أو بفراشنا نستعد لإغفاءة لا نستسيغها لعدم رغبتنا فيما يفرقنا، ولو للحظة صغيرة.
جامحة في التخلص من قيودي التي أدمت معصمي أرغب في الصراخ في التعري والركض بلا وجهة أقدف أغلالي بعيدا و استحم بالمياه الآسنة دون مبالاة. أحتاج أن أحس أنني مازلت ذلك الرجل الذي كلما قيل عنه أنه انقرض ينبعث من رماد كطائر الفينق، أحس بالرغبة في التخلي عما يحاصرني من هذا الكم من الذكريات.. ذكرياتك يا نون العظيمة . لقد بات لدي اليقين و لا مراء ولا أدنى جدال في ذلك أنك الآن ترقصين على نغمات التانغو بمدينة ما ببلد أوروبي ما أو قد تكونين ربما ترقصين عارية على انغام موسيقى غجرية منصهرة مع لحن حزين تتمرغين في ألوان غجرية متماهية مع عزف الغجر، قد تكونين متحلقة معهم حول نار، أو قد تكونين على واد الحجارة تنعمين بخريره، لعلمي اليقين أن لوثة عشق الماء قد أصابتك مني، حتى و إن تخلصت مني فهناك جزء مني لن يرحل عنك و يستحيل ان تتخلصي منه. سأخبرك إذن ما أنا عليه الآن يا نون العظيمة:
عبد السلام
عبد السلام بزيد
الآن و قد أصاب العالم هذا الوباء و سدت في وجه الهاربين الفارين من قدر الله كل السبل البرية منها و الجوية، و أعلم أنك ستصابين بالملل و الضجر و أدرك أن مسألة بقائك وحيدة بين أربعة جدران هي مسألة غير واردة، متأكد أنك سترغبين في العودة إلى عشك القديم؛ حيث الحرية المطلقة حيث الماء الزلال و الطبيعة العذراء وحبيبٌ يهيم بك عشقا..هنا على ضفاف واد الواعر أو واد سوس قد ترغبين في رسم لوحة جديدة من المأساة، قد تجدينني قد لا تجدينني و قد تجدين بقاياي أو بقايا إنسان، حينها سيطالك عقاب كيوبيد و أنا على يقين يا نون العظيمة أن الخلق لن يسألك على عن نوع عطرك الفرنسي و لا ماركة فستانك المزركش ولا حتى على عن نوع حذائك بقدر ما ستسألين عما صنعته بنات الدهر بمن كان يعشقك، و لماذا فضلت الرحيل و الأضواء على الترعة والبقاء؟
قلب لا يخون لأني مخلوق من وفاء..قلب لا ولن يخون حتى في أحلك الظروف، قلب يحترم و يقدر الذكرى، قد أكون وليا من أولياء العشق و الغرام، قد أكون شهيدا من شهداء الهجر يا نون العظيمة.
لقد أخبرني أحدهم ذات يوم لما رآني و السبحة في يدي أسبح باسمك ما تقلب الليل والنهار قائلا : -مازالت الشمس تشرق من مشرقها وتغرب في مغربها سواء بحضورها أو في غيابها!
وما كان علي إلا أن أرد عليه قائلا:
-إن الشمس التي تشرق على غير وجه نون العظيمة تشرق على استحياء و تغرب ذليلة، لأن وجه نون يزيد اشراقتها جمالا و غروبها عذوبة. فبهت الذي أخبرني بذلك و راح يجر أذيال الخيبة. يا نون العظيمة لقد تشظى كل شيء..روحينا جسدينا عالمينا، صار البعد أمرا حتميا كحتمية الحق على الباطل، و كتهاوي الآلهة الوثنية تحت وطأت الحق المبين، صرنا تاريخين واحد بالجنوب و الثاني بالغرب،أفتح نافذتي كل ليلة لا لأنعم ببعض الهواء لكن، لعل نسمة تهب من الغرب تحمل في زخاتها عبقا منك أنعم به ما تبقى من العمر.
كل من عليها فان.. يا نون العظيمة قد صدقت؛ لم يتبق في جعبتي الكثير، سأضع هذا الكلام الذي كتبته في مكاننا المعهود الذي شهد رعشاتنا الأولى و نحن تحت وطأة اللذة، سأترك هذا الكلام أسفل شجرة السرو حيث نقش قلبين يخترقهما سهم، بالجهة اليمنى نقش الحرف الأول من اسمك “نون” و سهم آخر يخترق قلب و قد نقش عليه الحرف الأول من اسمي “عين”، هناك حيث القبلة الأولى و حيث صلبت و لأول مرة على أثذائك العظام و صرخت من وطأة اللذة و الرعشة، هناك سأضع هذا الكلام بعد كل هذا الهجران و كلي يقين أنك ستعودين يوما لأنك كالطفلة الضالة فمصيرك العودة إلى المكان الذي شهد خطواتك الأولى.
كل من عليها فان …يا نون العظيمة ولا راد لمشيئة الله.