أغلب القرّاء، الباحثين عن متعة النصّ وجمالية اللّغة في النّصوص، لا يلتفتون إلى العتبات الّتي تغلّف المتن وتزيّنه، ومنها عتبة التّصدير، وإن فعلوا لا يتوقّفون عندها بالقدر الكافي الذي يمكّنهم من التفكّر والتبصّر في هذه الحِلْية العجيبة، فما وقوفهم أمامها إلّا كوقوف الشاري أمام منتَج معروض في المتاجر ومراكز التسوّق، الواعي منهم فقط مَنْ تشاهده يقوم بتقليب البضاعة بحثا عن عيوب مخفيّة وتواريخ فترة التخزين والصلاحية، قبل أن يقوم بالرفع الكامل والقبول.
ولكن بعض النقّاد، وخاصّة نقّاد الحقل الثقافي، يجدون في النصّ الموازي ضالتهم ومادّتهم الدّسمة للثرثرة الطويلة حول الكتاب، والحديث عنه دون أن يتعبوا أنفسهم بتصفّحه، أو الاطلاع على مضمونه.
والغريب، أنّ مثل ذاك الحديث يعجب صاحب الأثر وينتشي به، بل أحيانا، ورغم علمه التّام بأنّ المتحدّث عن الكتاب قد كتب ما كتب من عنوان الأثر دون الاطلاع على فحواه، بصريح عظمة لسان الناقد أو بالإشارة، تجده طربا مزهوّا راقصا على أنغام الكلمات السائحات في فضاء التهويم والسفسطة، وإيقاع طبل منمنمات الألفاظ المنتفخة في بحر عتبة ألوان الغلاف، أو دلالة العنوان، والإهداء وغيرها، متوهّما أنها صادرة عن فؤاد مخطوف بوهج نصّه وألقه.
ربّما لهذه الأسباب مجمّعة حاولت أن أقفز فوق العتبات وأتخطّاها لأتّجه مباشرة إلى المتن، إلّا أنّ المقتطف الذي صدّر به الكاتب روايته هذه، “متتالية حياة”، كان لافتا لنظري، جالبا لاهتمامي، لم أر له مثيلا في النصوص الروائية التي طالعتها من قبل، وهي كثيرة، فالكتّاب عادة ما يفضّلون ملفوظ المشاهير والقامات البارزة في ذات الاختصاص لإحلاله في فضاء نصوصهم حتّى تمنحها قيمة مخصوصة، وكثير منه لا يُدرج في السّياق السليم المضيء لغرض الكاتب من كتابة نصّه السردي، وإنّما يستخدم كذريعة ومتّكئ لإبراز سعة إطّلاع المؤلف وعرفانه، أمّا هنا، في هذه الرواية فقد اختار الكاتب أن يصدّر نصّه بمقتطف من أقواله هو لا من ملفوظ غيره، كان شديد الوضوح بحيث اعتبرتُه مفتاح الرواية وبوّابة النفوذ إليها، لقد شدّتني السطور القليلة، في التصدير، التي تشير إلى ضرورة توقّف الإنسان لمراجعة ذاته حتّى يكون مساره بلا عقبات، ووجوب مصارحته لنفسه حتّى يقف على طريق الحياة المثاليّة، وجدتني أتوقّف عندها طويلا متأمّلا باحثا عن العلاقة التي تربط هذا التصدير بالعنوان، والوثاق الذي يشدّ كلّ ذلك إلى المتن، وتساءلت عن أيّة حياة يتحدّث الكاتب؟ وكيف سيتمكّن من تحويل مفرد الحياة إلى جمع؟ وهل سيرتقي بها نحو السموّ أو يتنزّل بها إلى الحضيض؟ لأنّه من المعلوم لدى المتشبّعين بعلم الحساب والإحصاء أنّ المتتالية تتكوّن من مجموعة عناصر مرتبة خطيا، العنصر يلي العنصر، في تتابع مستمر صعودا أو نزولا أو تموّجا، ولا يمكنها الاكتفاء بحد واحد قطّ.
من البداية، يلزم الكاتب نفسه بالإجابة عن استفسارنا الأول، فيؤكّد لنا أنّ الحياة التي سيستعرضها في هذه الرواية هي حياة الإنسان في المطلق، من الولادة إلى الوفاة، وما الشخوص التي وضع عليها مجهره، وتناولها بالتشريح، إلّا تلك النماذج الأكثر شيوعا في مجتمعه، شخوص بدت من خلال صراع الخير والشر تتأرجح بين الرفعة والدناءة، بين الطموح واليأس، بين السعادة والبؤس، بين الحزن والفرح، بين الألم والضعف، بين الفضيلة والرذيلة.
الحريصون على متابعة القصّة في خطها السردي المتسلسل يجب عليهم أن ينتقلوا على الفور إلى متتالية الفصول التالية: 2، 3، 5، 7، 8، 9، 4، 10، 11، 12، 13، 14، 15، 16، 18، 19، 20، 21، 22، 24، 25، 26، 1،6،17،23، 27، أمّا إذا رغبوا في زيادة التشويق وإعمال الفكر فعليهم أن يلتزموا بمتتالية الفصول التي انتهجها الكاتب إلى نهايتها، من غير المساس بخيط السرد المتقطّع.
ومن العدل أن يحتجّ علينا أحدهم مدّعيا أن كلّ ما فعله الأديب المصري أحمد طايل ليس إلّا أن فتّت قطعة حياة مفردة، حياة صلاح مجاهد عبد الوهاب الفقي، وشفّرها إلى أرقام كي يتسنّى له بعد ذلك تخزينها في متتالية عددية منتهية، متوهّما أنّه فجّرها إلى حيوات عديدة تصلح أن يجعل من كثرتها متتالية حياة، قد يكون اعتراضه صحيحا بشكل عام، ولكن الذي يغوص في النصّ الروائي بتأنّ وتدبّر يجد أن الكاتب لم يفعل ذاك بتلك الكيفيّة، وإنّما تصرّف بصيغة أخرى للوصول إلى نفس النتيجة، إذ هو قد قام بتعديل مفهوم الولادة، أحد طرفي الحياة، بطريق ذكيّة عبر إسقاط فَهْم مختلف له، وجانب بذلك المعنى المألوف الوارد في أذهان النّاس على أنّه الخروج من ظلمة الرّحم إلى ضياء الكون، فتذكّر المرء لماضيه هي، بالنسبة إليه، ولادة، وإلحاق الطفل بالمدرسة للتعلّم هي أيضا ولادة، وعموما كلّ هي عنده ولادة.
ولتبيان هذه الفكرة، أسوق مثالين، ففي الفصل الأول يقودنا السارد العليم إلى شخصية صلاح فيستفيض في الحديث عن حياة كبار السنّ يخوض في مرحلة الشيخوخة والتي سمّاها مرحلة العجز والنزوع إلى كتابة مذكراته ثم ينهي الفصل بقوله: “الإنسان أيّ إنسان يحتاج كثيرا للسباحة في عالم الماضي يستنشق عبيره ويتجرّع حلوه ومرّه، تنفرج أساريره وتتجهّم قسماته ولكنّه يشعر بالنهاية كأنّه ولد من جديد”، ثمّ مباشرة يبدأ الفصل الثاني بالسباحة في عالم الماضي، أي أنّ الفصل الثاني يبدأ بالولادة.
ونفس الشيء نجده في الفصل الثامن عندما حان وقت إلحاق محاسن بالمدرسة يقول والدها لوالدتها: “يا حاجة هذا يوم ميلاد جديد”، وبصورة عامة الحياة لدى الكاتب ما هي إلّا فترة زمنية تتمدّد بين توترين، شدّة وارتخاء، يعقبهما مراجعة لتشذيب المسار، فهل أن الكاتب قد عدّل أيضا في مفهوم الوفاة؟ الإجابة على هذا السؤال سأتركه للقاريء المختصّ سوف يجد في تتبّعه متعة كبيرة، إذا اقتنع بوجاهة هذا التمشّي، لكن المتوغّل في ثنايا أحداث الرواية ومنعطفاتها إلى العمق يستنتج شيئا آخر أكثر أهمّية ووضوحا، وربّما هو الأقرب إلى تصوّر الكاتب وتخطيطه، فالحياة المقصودة هنا في هذه الرواية هي حياة أسرة بأكملها، حياة عائلة مجاهد عبد الوهّاب الفقي المتكوّنة من خمسة أشخاص، الزوجة صبيحة وأبناؤهما الثلاثة: محمد، سميحة وصلاح، يتناوب الأديب أحمد طايل عبر فصول الرواية المتتالية في تعقّب مصائرهم وبسط معاناتهم. قطّع أجزاء سيرتهم الحياتية ثمّ أعاد تركيبها وبناها بوضع جزء خلف جزء إلى أن غطّى أعمارهم كلّها، فاتّضحت لنا صورهم كاملة بشكل مثير.
وبما أنّ المثاليّة تعني السموّ والإرتفاع، فلا يمكن أن تتّجه عقارب معيار إنحراف “متتالية حياة” إلى الأسفل أبدا، بل ستكون دوما شامخة متّجهة نحو الأعلى، أحد أسباب ذلك يكمن في غائية الكاتب نفسه، فقد كان تركيزه بالأساس على تنمية روح المتلقي ونشر القيم النبيلة في المجتمع من أجل حياة جيّدة للإنسان البسيط، ولو كان ذلك على حساب تقنيات الرواية وفنّها، فلطالما بدت الأخلاق في “متتالية حياة” أكثر أهمية من الفن الأدبي ذاته، فالرواية بأكملها تقوم على قاعدة أخلاقيّة تنصف الإنسان الضعيف المقهور وتلاطفه، وإن لم تفعل ذلك بشكل دقيق تسير به نحو الخلاص فهي، على الأقل، تلامسه بابتسامة مجاملة.
وهل هناك أضعف من المرأة المتحدّرة من الطبقة المسحوقة المهمّشة وفي أحضانها ثلاثة أطفال لم يبلغوا الحُلم بعد؟ لقد كانت صبيحة تلك المرأة الضعيفة الهشّة وأطيبها، فتاة ريفيّة بائسة غير متعلمة ذات طبيعة متسامحة ولطيفة، تعيش في بيئة تعيسة، تتمتع بكل مزايا التنشئة السليمة، تجمع بين الجمال ونبل التربية، تعلقت بالأرض منذ صغرها فاشتغلت فيها وكافحت كوالدها الفقير الطاعن في السن الذي يسير منحني الظهر مسلحا بالإيمان والتقوى، يعمل ويكدّ من شروق الشمس إلى مغيبها، لم يورثها هذا الأب حياة شاقة دون أن يترك لها مفتاح السعادة، الرضا والقناعة: “يأتي حاملا جوالا […]، يغتسل ويصلّي، يقرأ قليلا من القرآن، يجلس بين زوجته والابنة يتناولون الطعام بين ضحكات وحكايات يومه، ينهض مهرولا إلى المسجد المجاور لتنظيفه كما اعتاد طوال عمره منذ الصغر […]، يعود والسعادة تضيء وجهه”، لقد علّق في ذهنها ما يخفّف عنها تعب الحياة وشقاءها، القدوة الطيّبة المؤثرة. وهي كذلك محظوظة للغاية لوقوف المؤلّف بجانبها، تتطوّر شخصيتها بمساعدته، وبتلاعبه بالوقائع والأحداث من أجلها، فأينما توجّهت تجد الطرق سالكة، يسخّر لها الصدف والاستثناءات ويضع أمامها يدا غير مرئيّة تأخذ بيدها وتمهّد لها سبل تحرّكها ونجاحها، حتّى وإن كانت المبررات ضعيفة والصدف غير معقولة، فماذا كان سيحدث لصبيحة بدون مساعدة محاسن والعمدة مسعد العيسوي، تلك الشخصيّة الفاضلة الأبعد ما يكون عن الصورة السيّئة التي ألفناها في الروايات المعاصرة؟ وإذا تابعنا، على سبيل المثال، عودة مجاهد إلى أسرته بعد غيبة سنوات طوال فاقدا للذاكرة نجد أن القدر العجيب هو الذي أعاده إلى أهله وغاب المبرر القوي المقنع، لأن أحمد طايل، صانع الرواية، مثل نجمة مرشدة، يُشبه معظم الروائيين المنفلوطيين الذين يلعبون على الأوتار الحسّاسة للعاطفة الانسانية، لجعل كل شيء يعمل معًا للخير، ولرضا القارئ التام، فهو ينهل من مدرستين: “الشعور” و”الفكر”.
كما أنّ الرواية بجمال لغتِها وبساطةِ عباراتِها تلقي الضوء على عادات واهتمامات المدينة، وتبرز مظاهر الحياة الفكرية والأدبيّة والعقديّة فيها، على عكس الغالبيّة العظمى من الروايات المعاصرة، التي ادّعت أن الرواية هي شكل فني وليست وسيطا للمصلح الإجتماعي والعقائديين، والتي وظّفت رخصة الواقعية والفن الأدبي لللجوء إلى الشذوذ والفحش وتغليب تطلعات الجسد ونزواتها على تطلعات الروح ورغباتها بالدعوة إلى الفجور والإساءة إلى الله والسخرية من عقيدة الشعب وتدنيسها، ليس من الصعب تخمين كلّ هذا حين ننظر إلى الصورة الكاريكاتورية للنخبة المثقفة و”أباطرة حيتان السياسة”ونقارنها بصورة أبناء الشعب الكادحين التي تثير الإعجاب. صورتان متقابلتان كضدّين، فمن جهة يصوّر مسقط رأسه بأحيائها الشعبية وسكّانها بشكل رائع ومزاجية عالية، إذ يقول وهو يقدّم أحد شخصيات الرواية: “يحب الأحياء الشعبية ذات الحركة المتسارعة يحب الحارات وجلسة السيدات على العتبات يحكين ويتهامسن والضحكات تجلجل مهما كان الوجع والألم والشكوى من ضغوط الحياة وتمرد الأبناء، تجده يجلس على مقهى شعبى يطلب أى مشروب يتأمل الوجوه المعروقة التى تنبض عروقها النافرة بمدى الصبر الذى صبروه وما سيصبروه فى قادم الأيام تجده يركب الترام، يذهب إلى حى السيدة زينب يصلى ثم يذهب إلى مطعم المسلم يطلب فولا بالسمن البلدى وفلافل وبيض مسلوق”، ومن جهة أخرى، يعمد، حين يعرج بعيدا عن الضواحي إلى قلب المدينة، إلى تصوير النخبة المثقّفة، قاطرة تقدّم الشعوب وتأخرها، ككتلة من القذارة ويبرز فقر عقولها وخسّتها والرذائل المثيرة للاشمئزاز والأنانية، “يخرج إلى مقهى زهرة البستان الممتد إلى الشارع المجاور أنماط شتى من صنوف البشر أصحاب حرف ومهن مختلفة، قلة من كتاب لهم أسماؤهم وكثير ممن يتنسمون ويتحسسون الطريق، وعدد قليل من كتاب النخبة يحضرون دوما لاستعادة بداياتهم أو للحصول على إحدى الباحثات عمّن يأخذ بأيديهن كما يحلمن وليس مهما ماهو المقابل والبعض جاء بعد أن فرغ جرابه الكتابى وأصبح يتسول مشروبا من أحد المتواجدين الذي يسعى لصورة له مع من كان له إسم وبريق يتمسح بخطواته، الدخان يملأ المكان وكأن كلا منهم أتى ينفث همه إلى صدر الآخر زجاجات البيرة تزين غالبية الموائد القلة من الموائد تتمتع بالأصناف الأخرى من الشراب حسب يسار الجالس إليها”
وهنا، يمكن أن يطرح السؤال التالي: هل خدم الوصف الرواية أم أتعبها؟
لكأنّي بالكاتب، وهو يختبئ خلف شخصية صلاح متنقلا في شوارع المدينة وحاراتها، يتفاخر بعشقه لمسقط رأسه وللمدن التي عرفها، ويرغب بقوّة في تخليدها في صفحات الرواية، يستنسخ بأمانة مطلقة ما رآه من مناظر طبيعيّة وعادات القرويين الطيّبين، فأطنب في ذكر كتلة من التفاصيل بشكل رائع جعلنا نستنشق هواء الصعيد كما لو كنا حاضرين بأجسادنا هناك، حياة الفلاحين البسيطة واحتفالات القرى وتضامنهم تجعلنا نشعر كما لو أنّ المجتمع المصري كلّه بلا عيوب، ومرتبط بسلاسل من الزهد والتقوى حدّ الكمال.
ولئن كانت بيئته المبكرة جديرة بذلك الحب والثناء، إلّا أنّ تلك التفاصيل غير ذات صلة، كان باستطاعته، وبعبارات قليلة، أن يجعلنا نرى شخصية البطل تتطوّر وتنمو بوضوح دون أن يرهق نفسه باللجوء إلى الكثير من الوصف. ولكن، على رأي الروائي روبرت لويس ستيفنسون، كتّاب الروايات الرومانسية لا يبدو أنهم يشعرون بضرورة الأسلوب؛ في حين أن أولئك الذين كتبوا روايات غير محبوكة، يعتقدون أن الأسلوب الجيّد يكفر عن ندرة الأحداث والأفكار.
إنّ ذروة الفنّ في “متتالية حياة” قريبة جدّا من الواقعية، واقعيّة انطباعيّة بمسحة رومنسيّة، إلى درجة أنّها في بعض الأحيان تميل بعيدا عن الفن الروائي بسبب تركيزها على الأفكار، ولهوسها الكبير بذكر الأسماء المشهورة كالغيطاني ومحفوظ والقعيد ووحيد حامد وأحمد زكي والشعراوي ومحمود خليل الحصري، وأم كلثوم، الطهطاوي، محمد فوزي، هدى سلطان، هند علام وجمال عبد الناصر، لإظهار تجذّرها في بيئتها المصرية.
كانت قلوب الأشرار أصحاب الأطماع سوداء قاسية لا تعرف الرحمة، هم، كإخوة يوسف، عاملوا أخاهم وزوجته البريئة بقسوة وبشاعة، كما لاحظنا ذلك حين نظر صلاح مجاهد الفقّي إلى الوراء يسترجع رحلة عمره، كانوا أشرارا حقيقيين ركبهم الشيطان وقام بعمله، ومع ذلك فلا يمكن للقارئ إلّا أن يتعاطف مع توبتهم النصوح، ويتناسى جرمهم، فهل يقدر فؤاده أن ينبذ هذا المذنب الباحث عن الصفح ويصمّ أذنيه عن هكذا توسّل: “فوجئ به الجميع يخر منكبا على قدمى زوجة شقيقه يقبلها ويذرف الدموع ويجهش بالبكاء تخرج من فمه كلمات متحشرجة متقطعة: سامحينى أرجوك سامحينى سامحونى كلكم، أعرف أنى خاطئ”، صبيحة نفسها، التي لم تتمرّد أبدا على الحياة ولم تيأس منها مطلقا، لا تجد في دواخلها شعور بالضغينة فغفرت دون تردّد، وكذلك فعل زوجها مجاهد صفح عن خفاجى الذي حاول قتله ورفض تسليمه إلى العدالة، عندما طلب منه ابنه صلاح تقديم الجاني للشرطة، قائلا: “لا يا ابني لست أنا من يردّ السيّئة بالسّيّئة حتّى وإن سعوا لقتلي”، بل فعل أكثر من هذا إذ أنّه طالب إبنه صلاح أن يتيح لأعمامه وزوجاتهم رحلة إلى البقاع المقدّسة، نعم كانوا طيّبين مشبعين بالإيمان، وعلى الجميع، الشخوص والقرّاء، أن يغفروا ويتجاوزوا لأنّ الكاتب أراد ذلك فهو لا يرغب في أن تكون تلك اللحظة الفارقة التي جعلها منعطفا لخدمة غرضه الفنّي ودحرجة الأحداث وتوتيرها -وقد أدّت دورها على أكمل وجه- تلقي بظلالها على السرد كلّه، إنه تعبير واضح عن طبيعة بشريّة دافئة تسيح بكل الصفات الحسنة، ومهيأة لتكون عقيدتها الأخلاقية متوافقة مع غرائزها الجسدي، وأنّ العبادة سياج بين العبد والهمّ، والأسى وأنّ الخير هو الذي سيسود في النهاية على الرغم من الشر.
على أيّة حال قد تكون الرواية بالنسبة لبعض النقّاد، تحتوي على عناصر مصطنعة ومبالغ فيها، لا يمكن ترك الماضي جانبا ونسيانه، فالندوب في الحياة الحقيقيّة لا تمحى، وكذلك العلاقات الأسريّة في الواقع الحقيقي مشحونة بالتوترات والدسائس وليس بتلك البساطة التي صوّرها أحمد طايل في روايته مع وفرة في التفاصيل الدينية، وهذا مخيّب لآمالهم، وإذا أضفنا إلى ذلك أنّها لا تغوص بحرية في الأسئلة الجنسية حتّى تكون أكثر تمثيلا للحياة الواقعيّة من تلك التي تراعي حدود الذوق السليم، فسوف يتخذون منها ومن مؤلفيها، رسل الإصلاح وأساتذة التربية، موقفا معارضا، لاعتباره خروجا عن دور المبدع وعمله الإبداعي، ربّما هذا صحيح من زاوية مدارس أدبيّة بعينها، غير أنّ الأدب متنوع بشكل كبير، والآراء الأدبية تتغير مع تقدم الوقت وترهّل الايديولوجيا المهيمنة وفقدانها للأنصار، فالزمن، كما يقال، هو الاختبار الحقيقي الوحيد لقيمة النصوص. لقد ضحك الوقت على الكثير من الأحكام القيمية المعاصرة، وسيكون من السخف استخدام مقاييس بالية لتقييم عمل كاتب اختار أن يرسم جوانب الحياة التي تهمه بعيدا عن قوانين المنطق، يفضل تحليل الشخصيات البشرية في تطورها غير الطبيعي، وتثمين الروابط الأسريّة والثوابت الدينيّة من أجل إبراز سلطة الإيمان على النفس البشريّة، وثمرتها الطيّبة، فهناك تتجلى قوة الدين في طهارة النفس وسلام الروح والرضا بالحياة كيف ما كان الوضع، فالكاتب يعكس هنا الحاجات الملحّة لروح الإنسانيّة وفطرتها السليمة، انطلاقا من الموروث العقدي والالتزام التام بوصايا الإله، نشعر بذلك في منطوق الشخصيات، كقولهم: “أنت لم تنس حقّ الله فيما يرزقك، والله لا ينسى من يتذكره”، “الإنسان ملك لله وعليه طاعته والعمل بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلّم، الخير يسعى إلى من يطيع الوهّاب الرزّاق”، “هذا حقّ الله وحقّ الله التزام وأمانة حتّى الممات”، وأيضا، نستنتجها من سلوكيات وأفعال الشخصيات، حيث بذل المؤلف جهدًا واضحًا لبسط رؤيته تلك في حميميّة الروابط الاجتماعيّة، ونقاوة الحياة الزوجية والعائلية وحلاوتها بشكل مميّز، “أبي هل أملك أن أعترض أنت تملكني من رأسي حتى قدمي ثمّ أنت تردّد دوما أنّ الإنسان وما يملك ملك لله ولله حقّ التصرّف بماله وكل ما نقرّر ونفعل هو بإذن منه”، “رغم كل مظاهر البرد إلّا أنّ حضن أمّه هو دفء العالم … حضنها يفوق كلّ أغطية العالم”، كما تتجلّى تلك النظرة في العلاقة بين الرجال والنساء، صورة باذخة للمرأة التي يلوح تأثيرها جليّا وبشكل متكرّر على حياة الرجل وسعادته، مجاهد وصبيحة يتّسمان بالبساطة والبراءة وإنكار الذات، نبعهم الرئيسي هو الدين، يلتقيان في العمل بالحقول فيتعلقان ببعضهما ويرتبطان إلى آخر العمر، وقد كان محظوظا بوجودها في حياته، زوجة رائعة وأم مثاليّة، إذ أنّها في غيابه الذي امتدّ لعشرات السنين وفقدانه للذاكرة احتفظت بودّه وكافحت من أجل تحقيق وصيّته في تعليم الأبناء وتربيتهم تربية صالحة، “ينهض باكرا يغتسل ويصلّي لا يسهو عن أيّ صلاة هكذا كان حرص الأم على الصلاة وعلى تعلّم القرآن الكريم ثمّ الذهاب إلى المدرسة”، يقول في حقّها الزوج: “هذه المرأة حافظت على مجاهد ولم تبعه وانتظرت وأنا غائب لا تعرف حيا كنت أو ميّتا وانتظرت أيضا وأنا معها فاقد الذاكرة لم تشك ولم تتذمر، عرفتم الفارق، الحياة ليست سلب حقوق وتغليب مصالح، الحياة لحم ودم ومودّة ورحمة، الحياة عطاء بلا انتظار ثمن العطاء”، ويتحدّث عنها الابن الأصغر صلاح، راوي سيرتها، هو الصورة الحية للريفي النموذجي، في رسالة وجّهها إليها بعد وفاتها: “على مدار الأيّام وجدتك إنسانة صلبة قويّة لا تنحني إلّا لله .. كافحتُ حتّى يتحقّق حلمك لنقول للعالم أنّنا أولاد لإمرأة ضحّت، والحمد لله نالت ثمار حلمها.”
هذه هي الصورة المثلى للحياة الجميلة في رواية “متتالية حياة”، رواية مختلفة في الأسلوب والغرض، الناس فيها متفوقون من الناحية الأخلاقية، يجأرون إلى الله عندما يتألمون، ويقومون بعبادته بكل إخلاص، حتّى إنّ الشرّ الذي يصيبهم يكون أحيانا نافعا لهم.
ولكن، ماذا عن الشقاء وشظف العيش؟ هل يكفي الإيمان وحده للعيش حياة مثالية؟
إن الكاتب وإن كان يبحث عن سعادة شخصيات روايته التي تتشابه في حرصهم على الأخلاق والعدالة الالهية، يعتقد أنّ الحياة المثلى تكمن في اقتران الإيمان بالعلم والمعرفة، ويدعو إلى أن يكون العلم متاحا للجميع تماما مثل الماء والهواء، فالعقل عنده يتوقّد ويتوهّج من شظف العيش، ويورّث ويستمرّ إذا ظلّ مستندا على الطبقة هل عدم يزوغ المرء عنها مهما حقّق من نجاح وعلا شأنه وذاع صيته وحاز أعلى الدرجات، فهو بهذه المقاربة التي وثّقها في رحلة أبناء صبيحة: سميحة مجاهد الفقّي وشقيقيها محمد وصلاح، إذ يقول: “محمد تزداد خطواته قفزا بثبات ورسوخ بنجاحاته العلميّة والحياتيّة (…) ورغم حضوره لقاءات الوزراء والوفود (…) لم ينس على الإطلاق ريفيته وطباعه وقيمه التي ترسّخت به”، يقترب أكثر من نظريّة ابن خلدون الاجتماعية. وبعض مقارناته الغريبة التي بدت كشمس منتصف الليل تؤدّي غرضها في هذا الاتّجاه، المقارنة العجيبة بين الغني والفقير، وعلاقتهما الزوجية عند الكبر، ونوعية مطالعاتهما، وكيفيّة إعداد مشروبيهما، أحدهما قادر على إتيان الزوجة وحتى الإنجاب كما هو الحال بالنسبة لوالد صبيحة التي “وجدت نفسها ابنة لرجل طاعن بالعمر”، يقرأ القرآن ويصنع المشروب بنفسه، وبين صلاح المرفّه في أواخر أيّامه يشعر بأنّ الخصوبة قد توقّفت عنده، ويقرأ الجريدة، ويشرب مشروبا من إعداد خادمه، “هي ذهبت إليهم بداعي أنّها لا تستطيع العيش طويلا بعيدا عنهم وعن الأحفاد (…) مبرر الحنين والشوق لا يقنعه، النساء عندما يشعرن بانتهاء الصلاحية الزوجية مشاعريا وجسديا يقفزن من السفينة (…) يبدآن بالنوم على سرير آخر بذات الحجرة، ثمّ بعد حين يطلبن أن تكون لهن حجرة خاصة، ثمّ فيما بعد يبحثن عن طرق أخرى كالذهاب عند ابن أو ابنة، إلى أن يصل إلى نهايته بالهجران التام، (…) هنّ يعرفن مؤشر رجولته ولياقته العطائية، (…) الرجل عندما يشعر بالنضوب يتحول إلى مريض لا إرادي”.
في الختام، حين تبدأُ في قراءتِها لن تستطيعَ التوقّفَ للحظةٍ، ولن تشعُرَ بحركةِ الزَّمَنِ من حولِكَ. تشدّكَ سطورُها شدًّا وتأْسُرُكَ من فاتحةِ الكتابِ إلى نهايتِهِ، بل من عتباتِ الرِّوايةِ إلى آخِرِ سطرٍ في آخِرِ فُصُولِها، إِذْ أنّ العنوانَ يُوحي بمتتاليةِ حياةٍ مفردَةٍ لكنّها لصيغة جمع. والتّصديرُ يشيرُ إلى الطّريقةِ المُثلَى للحياةِ، وتقطَّعُ السَّردِ وسيلةٌ للإثارةِ والتَّشويقِ.
عندما يضع القارئُ الروايةَ جانبًا متفكّرًا في أحداثِها ووقائعِها سيكتشفُ أنَّ الكاتبَ لم يتحدّثْ عن حياةٍ واحدةٍ بل تعقَّبَ مصائرَ أفرادِ أُسرةٍ بأكملِها، من قرية الصوامعة شرق، الزوجُ والزوجةُ، وأطفالُهما الثلاثةُ، مُتتبعًا حركاتِهم ودوافِعِهم. تتعرّضُ صبيحةُ للطردِ من القرية بعد سفر زوجِها مجاهد وفقدانِه للذاكرة، فتلجأ هي وأبناؤها إلى قرية ميت بدر خميس وهناك تقوم بمعيّة أهالي القرية بتنشئة الأبناء النشأة الصحيحة فتُجازى في النهاية الجزاء الأوفى، بأسلوبه الذي يحاكي فيه أسلوب المنفلوطي، وبشحنة قويّة من العاطفة، يطرح أحمد طايل العديد من القضايا مع التركيز الكلّي على القيم السّامية كالطيبة والفضيلة والمحبّة والتسامح والتعاون والإيمان الصادق بالله، لنستخلص من الرواية العِبرةَ التي مفادها أنّ المعاناةَ والألمَ تخلق إنسانا ناجحا.