لقد كان نداء لم أستطع تجاهله أو رفضه، إلهاما من الله تعالى أن أؤدي فريضة الحج، الركن الخامس من أركان الإسلام. قال تعالى: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾، وقال رسوله صلى الله عليه وآله وسلم: (بُني الإسلام على خمس: شهادةِ أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله، وإقامِ الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصومِ رمضانَ، وحجِّ البيت). حمدت الله عز وجل وقررت الإقلاع عن جميع الذنوب والمعاصي وتركها، وندمت على ما مضى منها، وعزمت على عدم العودة إليها، ورددت الحقوق المادية إلى أصحابها، وطلبت السماح من أصحاب الحقوق الأخرى، وانتخبت لحجي نفقة طيبة من مالي الحلال. طلبت من مساعدي الشخصي الافتراضي مقارنة عروض وكلاء الحج المتوفرة لموسم 2053. فأقنعني أن وكالة “لبيك” هي الأفضل: فهذه الوكالة تعرض حزمة من الخدمات تشمل جميع نواحي الإعداد الجسدي والروحي الضرورية لأداء فريضة الحج وتدرب الحجاج على أداء مناسك الحج في حرم افتراضي، كما تتوفر على آخر تقنيات زرع العيون الإلكترونية الضرورية للتغذية على ضوء الشمس؛ ذلك أنها تحول الحاج من التغذية العادية إلى التغذية بالضوء، لكي يقضي كامل فترة حجه وهو على وضوء، دون أن يتغوط أو يبول أو يحدث. تؤمّن الوكالة أيضا تحفيظ القرآن والسيرة النبوية وأحكام المناسك حسب مذهب الحاج، ورحلات الحج وأمهات كتب اللغة العربية وقواميسها، عن طريق برنامج واحد يتم تحميله مباشرة في الدماغ، وتوفر الجواري للتمتع… أخذني في جولة افتراضية عبر مركز تأهيل الحجاج التابع للوكالة.
يوجد المركز بفيساليا، كاليفورنيا، ويقع على بعد دقائق فقط من متنزهات سيكويا وكنغ كنيون الوطنية. وهو مصمم لإقامة مثالية ويتكون من تسعة أجنحة فاخرة. يوجد طابق خاص بغرف “حواء” للنساء فقط وجناح مخصص للأزواج و30 غرفة مخصصة للرعاية الصحية. الغرف السكنية ذات تقنية عالية وتحتوي على العديد من الميزات الرائعة، بما في ذلك التحكم في الإضاءة ودرجة الحرارة ودش غني بالسيروتونين وروبوت أنيس يعمل بمثابة سيدة تنظيف وقَهْرَمان. الموسيقى تبث على التردد 432 هرتز الذي يزيد الوعي الروحي. يقع المسجد في المساحة الخضراء المركزية للموقع، وصمم على شكل فانوس رمضاني عملاق. ترتفع المئذنة عاليا وتتناغم مع زخارف الواجهة. يدخل المصلون عبر جسر زجاجي شفاف يتصل بدرج حجري عائم على المدخل الرئيسي للمسجد.
لما بدأت التسجيل الإلكتروني في موقع الوكالة مررت بسرعة على الأحكام والشروط. خلال التصفح، أزعجتني الإعلانات الكثيرة المنبثة، كنت لا أكاد أخفي إعلانا حتى يظهر آخر: “أجّر جبهتك للماركات التجارية مدة الموسم واربح بعض المال. الإعلان غير قابل للمحو، لكنه يمّحي تلقائيا مع نهاية الحج…، أيتها الحاجة غيري جنسك وتأهلي للإمامة…” شرعت في تعبئة استمارة التسجيل: “إذا كنت بشرا، اترك هذا الحقل فارغًا”. طيب، أنا بشر. الاسم الشخصي: منير؛ الاسم العائلي: أويو؛ الجنــس: ذكر؛ الجنسية، “اختر بلدا”: أمريكا؛ تاريخ الميلاد، 20 أغسطس 2035، مكان الميلاد، هوبارت؛ رقم الهاتف: 1 (504) 737-6347-352؛ رقم البطاقة الشخصيـــة: 527430951؛ مكان الصدور: نيو أورلينز؛ تاريخ الصدور: 10 يوليو 2049؛ تاريخ الانتهاء: 10 يوليو 2059؛ المذهب: شيعي؛ نوع النسك: تمتع، قران، إفراد. تمتع. اختر هدْيك: إبل، ضأن، ماعز. اخترت بدنة كبيرة السنام. الحالة الاجتماعية: أعزب؛ المهنـــــة: كاتب؛ عنوان البريد الإلكتروني
MounirOyo.3200.GTC02@Mounir.nb833.Oyo.La
ثم جاءت صفحة الخدمات المعروضة: تحويل التغذية إلى الضوء، نعم؛ زرع عيون إلكترونية، نعم؛ لون العيون، ياقوتي أزرق؛ ملابس إحرام ذكية، نعم؛ رحلة إلى المستقبل لزيارة قبر الحسين عليه السلام في كربلاء يوم عاشوراء (10 محرم 1476) وزيارة الإمام علي عليه السلام، نعم؛ رحلة إلى المستقبل لمشاهدة كسوف الشمس في 12 سبتمبر 2053. في هذا اليوم، سيمر القمر بين الأرض والشمس ليخلق كسوفًا كليًا ساحرا بشكل لا يصدق وسوف يقوم عشرات الملايين برحلة إلى المستقبل لمشاهدة القمر وهو يحجب الشمس. يتوقع علماء الفلك أن هذا الكسوف سيكون أكثر حدث مشاهدة للسماء في تاريخ البشرية. لا تفتك هذه المناسبة النادرة! نعم؛ جارية للتمتع، نعم؛ “اختر جارية.” عشرات النماذج كانت معروضة، شقراوات، سمراوات، سوداوات… “فتياتنا روبوتات جنسية بأشكال نسائية. كائنات حية منتجة من خلايا اصطناعية تحاكي الخلايا البيولوجية. لهن وعي بيولوجي اصطناعي ولا تعرفن المرض ولا الشيخوخة. وهن سليمات من أي عائق عضوي ويتمتعن بقوى فوق حسية. وهن مقاومات للبكتيريا وخاليات من السوائل البشرية، مما يضمن عدم انتقال الأمراض بين المستهلكين. وهن مبرمجات لأداء جميع الخدمات وتلبية جميع الرغبات. لا تخون سيدها، ولا تتمنّع عليه…” قلت في نفسي: «وداعا لفيروس نقص المناعة، والزهري، والسيلان وكل الأمراض الأخرى المنقولة جنسيا.» اخترت فُنون، روبوتا على شكل امرأة فائقة الجمال. “هذه فنون، جاريتنا الأكثر شعبية. جسمها لديه القدرة على إعادة تشكيل نفسه. تكون شقراء ملائكية يوم الاثنين، حمراء لامعة يوم الثلاثاء، بُنيّة يوم الأربعاء، بُنيّة ذهبية يوم الخميس، سمراء مَسْفوعة يوم الجمعة، سمراء كلاسيكية وكستنائية يومي السبت والأحد؛ باختصار، إنها متعددة وفريدة من نوعها. وهي كاملة الأدب، عارفة بالشعر وبأخبار العرب، ماهرة في الطبخ الضوئي وآلات الطرب؛ معها، ستتمتع بتجربة رائعة ومثيرة. استمتع بها من دون عقد نكاح ولا مهر ولا إذن من أحد. لأن الله عز وجل أذن في الجواري ورفع اللوم عن المستمتع بهن. احجز الآن، لأن العرض محدود. اشتريها كي تكون ملكا لك، لقوله تعالى: ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ﴾. ستكلفك 20000 دولاراً، لكن يمكنك إعادتها في نهاية موسم الحج، مقابل 90 ٪ من ثمنها. سنضيف لها برنامجا يجعلها شيعية لكي تناسبك.” معلومات الدفع: نوع الدفع، الائتمان، الخصم. تعيين طريقة الدفع: افتراضي، جيني، العملة الرقمية. باي بال. دفع بواسطة الهاتف النقال. دفع بالبصمة، ابصم هنا. تحويل فوري. رمز بطاقة الائتمان: 5897HR253336 ، تاريخ الانتهاء 10/2057. عنوان وصول الفواتير: منير أويو
214 East Oak Rd, apt.560347327, River Ridge, LA 701523, USA
لما أكملت إجراءات التسجيل طلبوا مني الحضور فاتح يونيو 2053. في يوم الأحد فاتح يونيو، ودعت فيكي، خادمتي الميكانيكية وهيريس، حيواني الأليف، وسافرت إلى فيساليا. وجدت في انتظاري مضيفة أخذتني إلى مقصورة النقل الآني؛ رقنت رقما على لوحة المفاتيح ووجدتني أمام غرفتي، التي فُتح بابها بعد التعرف على الوجه. استقبلني القهرمان بابتسامته الروبوتية:
– أهلاً وسهلاً بصانعي! لقيت أنسا ورُحبا، انزل على الرحب والسعة! أنا إكس 21، روبوتك الأنيس القائم بأمورك.
…
كنت أسير في بطن عُرنة، قاصدا نمرة في يوم عرفة. وقبل أن اجتاز الوادي، اعترضني شيخ أعور، أعرج، ناحل الجسم، باكي العين، مقصوف الظهر، عليه طَيْلَسان من خَزٍّ مربع أخضر، ينتعل خفين أحمرين وبيده عصا مذراة. وجهه مصفر، نحيف مقعر، ناتئ العظام، على رأسه طاقية تغطيها غترة بيضاء مزخرفة بخيوط حمراء، يرتدي فوقها عقالا. عينه العوراء يغشيها السواد والأخرى مخضرَّة حولاء، في نظرته بريق مُغوٍ وفي فمه اعوجاج. شفتاه شفرتان تبرز من بينهما أسنان ناتئة، حادة، صفراء، يجللها السواد. لحيته كعثنون التيس. ما رأيت شيخا أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه. قلت في نفسي: «هذا إبليس الذي وصف المكاشف القديم!» تأكدت من ذلك لما ألقى علي تحية الجن:
– عمت ظلاما يا حاج! من أي بلد أنت؟
– إبليس! أعوذ بالله السميع العليم من شر الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه… أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ومن أبنائه وجنده…
– لا تتعوذ مني! لن أنتهك حرمة هذا اليوم الجليل العظيم من أيام الله… أنا حاج مثلك!
– كيف تحج، وأنت المبلس، اليائس من رحمة الله؟
– أشهد الموسم كل سنة وأقف في عُرَنَة. أجد لذلك تنفيسا، فأقف ببطن عُرنة، ففيها أحزن لما أرى من الرحمة التي تنزل على أهل عرفة. فأنا مجبور على الإغواء، وإن كان من اختياري إبرار القسم بربي. وإن سبق لي الشقاء، فإن لي شبهة أستند إليها في امتثالي أمر خالقي، بعد أن حقت علي الكلمة وقيل لي: “اذهب، واستفزز واجلُب واغو”…
– ما الذي يبكي عينك؟
– أبكي على ما فاتني من طاعة ربي! أرى خروج الحاج إلى الله، أقول قد قصدوه، أخاف ألا يخيبهم فيحزنني ذلك! أبكي أيضا على ابنائي، ثبر وداسم والأعور ومسوط وزلنبور، الذين هاجروا مع الجن والشياطين إلى العالم الافتراضي. صرت الشيطان الوحيد على وجه الأرض، لأن الجن هاجروا من العالم الحقيقي إلى العالم الافتراضي وعوضوا البشر بالأفتارات…
– لماذا؟
– لأن الحياة على وجه الأرض أصبحت مهددة بسبب الكوارث البيئية. هاجروا وبقيت وحيدا على وجه الأرض، لا أستطيع مغادرتها…
– ولماذا لم تهاجر مع ذريتك إلى العالم الافتراضي؟
– لأن لله سبحانه وتعالى، لما لعنني وطردني من الجنة، أهبطني إلى الأرض وحكم علي أن أبقى فيها إلى يوم الوقت المعلوم.
– لماذا لم تنجب ذرية جديدة؟
– لا أستطيع ذلك لأني صرت عقيما…
– عقيم؟ إبليس؟
– نعم، صرت عقيما لأن الله عز وجل، لما خولني الذرية ربطها بذرية بني آدم: كل مولود بشري يقابله مولود للشيطان. لكن، بما أن البشر توقفوا عن الانجاب وصاروا يتكاثرون بالاستنساخ فقط، فإن الانجاب الإبليسي توقف.
– ولماذا لم تستنسخ نفسك أنت أيضا؟
– ألا يكفي إبليس واحد؟ تصور عالما تعيث فيه فسادا ملايين الأباليس…
– وما الذي غيَّر لونكَ؟
– تعاونهم على الطاعة، ولو تعاونوا على المعصية كان أحب إلي!
– وما الذي قصف ظهركَ؟
– تكاليف الحياة! سئمت تكاليف الحياة ومن يعش أبد الدهر لا أبا لك يسأم! ليتني ما كنت طلبت من ربي أن يجعلني من المنظرين! ما أحلى الموت بعد حياة هنيئة مليئة بالإنجازات! من أي بلد أنت؟
– أنا منير أويو من أمريكا…
– نِعم البلد، الشيطان الأكبر الذي يحكم العالم، بلد المليون من عبدتي ومن أتباعهم الغاوين! كيف حال أهل أمريكا؟
– ما المسؤول بأعلم من السائل، ألست العليم بشؤون البشر الذي يأتيهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم والذي لا ينام، ولك جند ينبئونك بكل كبيرة وصغيرة؟
– لم يعد لي جند بعد هجرة ذريتي… كيف جرت الانتخابات الأخيرة في بلدك؟
– فاز فيها مرشح الجمهوريين، أبْراهامْ مَكْ لَشْرَمْ…
انتشى فرحا وراح يصفق ويصخب وقال لعنه الله:
– يا لها من فرصة سانحة! سترى كيف سأغويه ليعيد صولة أبرهة الأشرم على الكعبة!
تذكرت أن آية الكرسي تطرد الشيطان، فبادرت بقراءتها:
– اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ۚ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۖ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ۚ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ.
أدبر لعنه الله وله ضراط.
ما أن أخذت الشمس صفرتها الورسية، معممة رأس جبل عرفة، حتى طار اللعين ميمما واشنطن دي سي. وما لبث أن حام فوق البيت الأبيض، المقر الرسمي والمركزي لرئيس الولايات المتحدة الأمريكية. كان الرئيس المنتخب حديثا يجلس في الحديقة تهدهده نسائم المساء العليلة، عندما تراءى له شخص طويل القامة معلق بين السماء والأرض، بيده مذراة ثلاثية الشعب؛ وما لبث أن لامست قدماه الأرض وأقبل يعرج قليلا من رجله اليسرى. بادر أحد رجال الأمن بحركة نحو المسدس في جيبه، لكنه تجمد مكانه قبل أن يمسكه وتجمد رجال الأمن الآخرون وصاروا كالتماثيل. اقترب الشخص من الرئيس: ستيني يتزيا بألوان العلم الأمريكي، لحيته البيضاء كعثنون التيس، يلبس قبعة عالية منجمة فوق شعره الطويل وسُتْرة خُطافيَّة زرقاء، صدريتها وياقتها وأطراف أكمامها مبطنة بحرير الساتين الأبيض المخطط بالأحمر، يرتدي سروالا بنفس اللون. إحدى عينيه عوراء، يغشاها السواد والأخرى مخضرَّة، حولاء، في نظرته بريق مُغوٍ وفي فمه اعوجاج. شفتاه شفرتان تبرز من بينهما أسنان ناتئة، حادة، صفراء، يجللها السواد. شُدِه الرئيس وصاح مذهولا:
– العم سام!
قال العم سام بنبرة تكساسية تمضغ الحروف وتلوكها:
– تسمحوا لي بالجلوس، سيدي الرئيس؟
انزاح الرئيس بأريحية عن مكانه على المقعد وهو يقول:
– بكل سرور! تفضل، تفضل!
أخذ إبليس بهدوء مكانه على المقعد.
– اسمحوا لي، سيادة الرئيس، أن أهنئكم بنجاحكم الباهر!
قالها وعينه المُخضرّة الحولاء تبرق.
– هذا يثلج صدري ويسعد قلبي! إنها مفخرة كبيرة لي أن أحظى بتهاني العم سام، صاحب اللقب الذي استبدل به اسم الولايات المتحدة الأميركية وصار رمز كفاحها من أجل الحرية!
بادر إبليس بالدخول في لب الموضوع:
– هل تعلم لماذا اختار الآباء المؤسسون الفيل شعارا للحزب الجمهوري؟
– إنه رمز الصوت الجمهوري الوازن الذي لا يخشى jackass الديمقراطيين، هذا الصوت الرخيص في مسلاخ حمار!
– لا! الفيل، رمز الحزب الجمهوري، فيل أبرهة…
-أبر… ماذا!؟
– أبرهة الأشرم…
– هذا الاسم يتناغم مع اسمي…
– ذلك لأنك أبرهة هذا الزمان…
– ومتى عاش أبرهة؟
– كان ذلك في زمن الجاهلية السعيد. لما ظهر الأحباش على أرض اليمن، كان مُلكهم إلى أرْياط وأبْرهَة…
– منهم الأحباش؟
– سكان الحبشة القديمة، إثيوبيا حالياً. كان أبرهة قد بنى القُلَّيْسْ بصنعاء، بمساعدة الحرفيين البيزنطيين، كنيسة لم تبن العرب ولا العجم مثلها، وكتب إلى النجاشي أنه لن ينتهي حتى يصرف حاج العرب إليها ويجعلهم يتركون الحج إلى بيتهم. انتشر خبر بناء أبرهة القُلَّيْسْ وتحدثت العرب بكتابه بذلك إلى النجاشي. فغضب رجل من النَّسَأَةِ وخرج حتى أتى الكنيسة فقعد فيها. فأخبر بذلك أبرهة. فقال: ”من صنع هذا؟“ فقيل له: ”صنعه رجل من العرب من أهل البيت الذي تحج العرب إليه بمكة لما سمع بقولك: أصرفُ إليها حاج العرب، فغضب فجاءها فقعد فيها، أي أنها ليست لذلك بأهل!“ فغضب عند ذلك أبرهة وحلف ليسيرنَّ إلى البيت حتى يهدمه. ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت. ثم سار وخرج بالفيل معه. ولكن عندما أعد أبرهة جيشه لدخول مكة لتدمير الكعبة، وضُرب الفيل ليقوم، أبى. فضربوا رأسه بالطبرزين، فأبى. فأدخلوا محاجن لهم في مراقه فبزغوه بها ليقوم، فأبى. فوجهوه راجعا إلى اليمن، فقام يهرول ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، فوجهوه إلى مكة فبرك. وأرسل الله عليهم طيرا من البحر، مع كل طير ثلاثة أحجار يحملها، حجر في منقاره وحجران في رجليه، أمثال الحمص والعدس، لا تصيب أحدا منهم إلا هلك، وليس كلهم أصابت. فخرجوا يتساقطون بكل طريق، ويهلكون بكل مهلك، هاربين، يبتدرون الطريق التي منها جاؤوا… اليوم، يرجع أبرهة إلى الحياة في جسدك ليعيد صولته على الكعبة…
– بسيطة، بسيطة! نطلق عليها صاروخا يحمل رأسا نوويا من إحدى سفننا في الخليج يدمرها ويمحي مكة كلها من الخريطة!
– لا، لا، الكعبة محفوظة ولن يدمرها صاروخ، لن يدمرها إلا ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ من الحبشة…
– من؟
– يقول نبي الإسلام الذي لا ينطق إلا بالحق: (يخرب الكعبة ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ من الحبشة. يجيش البحر عن فئة من السودان ثم يسيلون سيل النمل حتى ينتهي إلى الكعبة فيخربونها وَيَسْلُبُونهَا حِلْيَتَهَا وَيُجَرِّدُونهَا مِنْ كِسْوَتِهَا. والذي نفسي بيده إني لكأني أنظر إلى حبشي أحمر الساقين، أفيحج، أصيلع، أفيدع، أزرق العينين، صغير الأذنين، أفطس الأنف، كبير البطن، وقد صف قدميه على الكعبة هو وأصحاب له ينقضونها حجرا حجرا ويتداولونها حتى يطرحوها في البحر.)
– وهل يوجد حلي بالكعبة؟
– نعم، في كنز مدفون تحتها وذُو السُّوَيْقَتَيْنِ هو من سيدمر الكعبة ويستخرجه… وستكلفه أنت بهذه المهمة.
– إن فعلتُ، فسيمثل ذلك وفاء لوعودي الانتخابية…
– بماذا وعدت؟
– وعدت بتعطيل حج المسلين وبإحياء الوثنية وبحل نهائي لمشكلة الإسلام الذي يمثل تهديدا لأمننا القومي. فبعد نصف قرن من الحرب على الإرهاب، مازال التطرف العربي-الإسلامي يمثل أكبر خطر نواجهه…
– أحسنت، هؤلاء قوم لن نرضى عنهم ولن يرضوا عنا…
– لكن أين هو The Demolition Man؟ وعلى كل حال هذه مهمة تتطلب جيشا كاملا ولا يمكن أن توكل إلى شخص واحد…
– سيكون بإمكان ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ أداء المهمة إذا استنسخته وجعلت البحر يجيش عن المستنسخين، فيسيلون سيل النمل حتى ينتهون إلى الكعبة فيخربونها… لا يوجد في إثيوبيا الحالية من تنطبق عليه صفات ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ إلا شخص واحد يدعى بِرو مَسْكَلْ، راهب خَصِيّ يخدم كنيسة “بيت القديس جورج” في مدينة لاليبيلا في منطقة أمهارا، شمال إثيوبيا. استنسخه وكلف المستنسخين بمهمة هدم الكعبة.
– أخبرني بما جرى لفيل أبرهة، هل قتل؟
– لا، تاه مدة بين الطائف ومكة، قبل أن يقتله العطش…
– سنقوم بحفريات لاستخراج هيكله ونعيد إلى الحياة رمز حزبنا…
هبت رياح حركت أوراق الأشجار وتجمعت غيوم سوداء منخفضة تنذر بليلة باردة وممطرة. نهض العم سام للمغادرة وهو يقول:
– معذرة، سيدي الرئيس، ولكن يجب أن أغادر. مما لا شك فيه أن المستقبل يحمل لي فسحة من الزمن، لكن لدي الكثير للقيام به!
– استبشر من أعماق قلبي بهذه الزيارة التي أرى فيها فألا حسنا في بداية مأموريتي!
فور مغادرة إبليس، رجع الرئيس إلى المكتب البيضاوي وطلب على جناح السرعة أُمُّ حَمَلْ، مستشارته للأمن القومي، التي ما لبثت أن أطلت من الباب بقامتها الطويلة راسمة على شفتيها ابتسامة شيطانية، وهي صغيرة الرأس، مَهروتة الشدقين، حولاء النظر، عُرْفُها كقرن الحية. كونْدِي أُمُّ حَمَلْ، 46 سنة، ليست متزوجة وليس لها أقارب من الدرجة الأولى، تحمل درجة PHD في الباراسايكولوجي، درّست فترة في ستانفورد، قبل أن تتبوأ وظيفة عميدة الجامعة. بنت علاقتها مع مَكْ لَشْرَمْ خلال حملته الانتخابية، حيث كانت مستشارته لشؤون السياسة الخارجية. وبعد انتخابه صارت من كبار موظفي المكتب التنفيذي للرئيس، قبل تعيينها في منصب مستشارة الأمن القومي. في مكتبها، في الجناح الغربي من البيت الأبيض، كانت تبدو كما لو أنها المكلفة بمداومة العمل الرئاسي على مدار 24 ساعة. كانت دائما إلى جنب الرئيس، في جولاته الخارجية، في مزرعته التكساسية، أو في كامب ديفيد خلال عطل نهاية الأسبوع. كانت هي التي تضمن استمرار التواصل مع المسؤولين. العناية بالرئيس وأولوياته هي هدفها الرئيسي.
– مرحبا كونْدِي، I had a dream، لن تتصوري من زارني الليلة… العم سام بشحمه ولحمه!
– كم أنت محظوظ!
– أخبرني عن الذي جعل الآباء المؤسسين يختارون الفيل رمزا لحزبنا…
– ماذا قال لك؟
– قال لي إن الآباء المؤسسون اختاروا الفيل رمزا لحزبنا لأن أبرهة لما أراد هدم الكعبة خرج بالفيل معه…
– من؟
– أبرهة الأشرم، الحبشي الذي أراد صرف حاج العرب وجعلهم يتركون الحج إلى بيتهم وساق الفيل لهدم الكعبة. قال لي العم سام إن الفيل مات بين الطائف ومكة. سننقب عن هيكله العظمي ونعيد إلى الحياة رمز حزبنا!
– وهل ستسيره لهدم الكعبة؟
– لا، أخبرني العم سام بأن الكعبة محفوظة ولن يستطيع هدمها إلا ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ …
– ذو what ؟
– ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ، The demolition man . يوجد في إثيوبيا الحالية شخص يدعى بِرو مَسْكَلْ، راهب خَصِيّ يخدم كنيسة بيت القديس جورج في مدينة لاليبيلا في منطقة أمهارا، تنطبق عليه صفاته. أريد منك أن تضعي خطة للتنقيب عن هيكل الفيل واستنساخ بِرو مَسْكَلْ لنجعل منه .The demolition man
– هل ندرج الموضوع في جدول أعمال اجتماع مجلس الأمن القومي المخصص لدراسة مشكلة عربستان؟
– لا، الموضوع يجب أن يحاط بالكتمان! لكن حضّري اجتماعا عاجلا للمجلس لبحث قضية فيل أبرهة.
– من هم الأشخاص الذين أستدعي لحضور الاجتماع؟
– أحد علماء الآثار المهتمين بالموضوع، وعميلنا في نَجْد، بالإضافة إلى أعضاء المجلس الدائمين.
في يوم الثلاثاء 29 يوليو، عقد الرئيس اجتماعا لمجلس الأمن القومي، كرس لبحث اتجاهات السياسة العربستانية الجديدة وأسباب عداء العرب والمسلمين اتجاه الولايات المتحدة وطرق مواجهته. حضر الاجتماع كل من المستشرق وليام ماكدونلد، ويوسف ديفس مدير مركز الدراسات الشرقية والعربية التابع لجامعة جورج تاون والإمام داوود حسين، عضو جمعية اتحاد مسلمي أمريكا الشمالية وكفين جاكوبسون، مدير معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، بالإضافة إلى أعضاء المجلس الدائمين. كانت حلوى بنهكة النعناع قد وضعت أمام كل مشارك. فك الرئيس الغلاف الورقي الذي يلف حلواه وأكلها. وصار يسترق النظر إلى الحلوى أمام وزير الخارجية، ثم استفهمه بالإشارة عما إذا كان يريدها، ولما رأى الوزير يشير برأسه أن لا، مد يده وتناولها. قال موجها سؤاله إلى يوسف ديفس:
– كيف نضمن النجاح لسياستنا الجديدة في عربستان؟
– تغيير اللغة العربية، سيادة الرئيس، هو المفتاح…
– ماذا تعني بتغيير اللغة العربية؟
– مثلا حذف بعض الأحرف، كقاف القاعدة والقائد وكاف الكفر وجيم الجهاد… نطلب من السي أي إي اختراق مجمعات اللغة العربية…
قاطعته مديرة وكالة المخابرات المركزية:
– لدينا مجموعة من العملاء داخل مجمعات اللغة العربية يمكننا تحريكهم لبلوغ هذا الهدف…
– لا فائدة من تغيير اللغة! السبب الجذري للإرهاب والتطرف وكراهية العرب والمسلمين لأمريكا هو الحج إلى مكة. يجب ضم عربستان إلى الولايات المتحدة وجعل العلم الأمريكي يرفرف على الكعبة، وجعل الحج إلى مكة حجا إلى أمريكا!
وزير الخارجية بدا مرهقا، أحيانا يغمض عينيه وأخرى يغط في سبات قصير ووزير المالية يلح على المتكلمين أن يرفعوا أصواتهم.
– لماذا لا نهدم الكعبة ونبني مكانها كعبة في ڨْراوند زيرو، في نفس موقع برجي مركز التجارة العالمي المنهارين في هجمات 11 سبتمبر 2001، ونصرف إليها حج المسلمين؟…
قاطعه داوود حسين:
– لا يمكن تحويل الكعبة. جاء في القرآن الكريم، سورة الحج، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ﴾ فذكر الله تعالى أنه بوأ إبراهيم مكان البيت، أي أنه أرشده إليه، وسلمه له، وأذن له في بنائه…
– هناك حل آخر: نقتلع الحجر الأسود ونجعله في متحف 11 سبتمبر التذكاري، فسيقصده المسلمون للتبرك، ونكون بهذا قد صرفنا حج المسلمين إلى متحف الألم الحي الذي لن ينمحي من نفوسنا. سيرون أسماء جميع ضحايا هجماتهم البربرية منقوشة على الألواح لبرونزية التي تحيط بجدران حوضي النصب التذكاري، ومياه الشلالات تتدفق عليها كالدموع الغزيرة. عندها سيندمون على فعلتهم…
قال الرئيس، موجها سؤاله إلى وليام ماكدونلد:
– هل سبق أن اقتلع الحجر من الكعبة؟
– تعرض الحجر الأسود لمحاولات كثيرة لانتزاعه من الكعبة. أول هذه المحاولات قام بها رجل من قبيلة جرهم، نزع الحجر الأسود من مكانه ودفنه بمكان قريب من بئر زمزم، ولكن امرأة رأته وقامت بإبلاغ الناس وأرشدتهم على المكان الذي دفن فيه وأعادوه إلى مكانه في الكعبة. وفى عام 317 هـ هاجم القرامطة مكة وانتزعوا الحجر الأسود من الكعبة، وحملوه معهم إلى بلادهم وبقي مكانه في الكعبة خالياً؛ فكان النّاس يمسحون أيديهم بمكانه ويتبركون به. وقد ظلّ الحجر الأسود بحوزة القرامطة في البحرين، ولم يرجع إلى مكّة إلا بعد 22 سنة…
قاطعه الرئيس، ليوجه سؤالا إلى الإمام:
– ما هي أهمية الحجر الأسود عندكم؟
– الحجر الأسود هو قدس أقداس الكعبة وهو ياقوتة من الجنة. كان شديد البياض واسودّ لونه من خطايا البشر؛ وهو يمين الله في الأرض، يصافح به عباده كما يصافح الأخ أخاه. ولطالما قبّله النبي محمد صلى الله عليه وسلم وتمسح به ووضع خده الشريف عليه. أخبر صلى الله عليه وسلم أن الحجر الأسود نزل من السماء، وأنه من أحجار الجنة، كما في الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي بسند صحيح عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (نَزَلَ الْحَجَرُ الأَسْوَدُ مِنَ الْجَنَّةِ وَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، فَسَوَّدَتْهُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ). وزعم المستشرقون أن الحجر الأسود ما هو إلا حجر بازلت. وأرادوا أن يثبتوا صدق كلامهم، فأرسلت الجمعية الملكية الجغرافية البريطانية التابعة لجامعة كامبردج مستر همفر، الجاسوس البريطاني الشهير، ليسرق قطعة من الحجر الأسود ليثبتوا للمسلمين أن ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم عن الحجر الأسود ليس صحيحًا. ودرس الجاسوس البريطاني اللغة العربية مدة سبع سنوات، وذهب إلى المغرب ليكتسب اللهجة المغربية، ومنها ذهب إلى مصر على أنه حاج مغربي، وكان ذلك في القرن التاسع عشر. وركب الباخرة، وكان الحجاج المصريون يحملون زادهم وطعامهم معهم، فكانوا يتخاطفونه على كل وجبة ليكرموه ويطعموه، فتأثر قليلاً من حسن المعاملة. ثم تأثر ثانية عندما دخل مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم والمدينة المنورة، وتأثر أكثر وأكثر حينما رأى الكعبة من على مشارف مكة. والكعبة -كما نعلم- تحفها الجبال من كل جانب، وهي تقع في منطقة منخفضة، فكل من يأتي من على بُعدٍ آنذاك يرى الكعبة، ولقد كتب هو بعد ذلك قائلاً: “لقد هزني ذلك المنظر كثيرًا من الأعماق”. ولكنه كان مصممًا على إنجاز مهمته التي جاء من أجلها. دخل الكعبة وفي غفلة الحراسة، التي لم تكن مشدَّدة مثل ما هو الحال هذه الأيام، انتزع قطعة من الحجر الأسود، وذهب بها إلى جدة حيث القنصلية البريطانية، واحتفل به سفير بريطانيا في السعودية احتفال الأبطال الفاتحين، فهو -من وجهة نظره- أتى بالدليل على بطلان كلام محمد صلى الله عليه وسلم بأن الحجر الأسود من السماء. ووصل إلى بريطانيا عن طريق باخرة أسترالية، وأودع قطعة الحجر الأسود في متحف التاريخ الطبيعي بلندن ليقوم العلماء بتحليله، فثبت أنه نيزك من نوع فريد، فتأثر الرجل لذلك وأعلن إسلامه، وكتب كتابًا من أجمل الكتب سماه رحلة إلى مكة من جزأين، وصف في الجزء الأول عداءه للإسلام وتآمره على المسلمين، وفي الجزء الثاني وصف خضوعه لله رب العالمين…
– كل هذا يثبت أننا إذا اقتلعنا الحجر الأسود ووضعناه في متحف 11 سبتمبر التذكاري، فستصير مانهاتن قبلة للمسلمين!
– سيدي الرئيس، لماذا لا نستوطن بلادهم ونفعل بهم الذي فعلنا بالهنود الحمر…
– لأن أرضهم قاحلة وحرارتها لا تطاق، فبها يسيل الآيس اكريم قبل أن يصل إلى فمك!
– أو نشجع مستوطنين من اليهود ونعيد إليهم ما انتزع منهم…
همست كونْدِي أُمُّ حَمَلْ في أذن الرئيس:
– تم ربط الاتصال بالفيديو مع الشيخ النجدي، يمكننا مشاهدته.
قال الرئيس مخاطبا الحضور:
– هذا شيخ من أهل نجد أشركناه في اجتماعنا ليسمع ما نقول، عسى ألا يعدمنا منه رأيا ونصحا.
ظهر على الشاشات شيخ أعور، ناحل الجسم، مصفر اللون، باكي العين، مقصوف الظهر، عليه طَيْلَسان من خَزٍّ مربع أخضر، ينتعل خفين أحمرين وبيده عصا مذراة. بدا وكأنه في الستين. وجهه مصفر، نحيف مقعر، ناتئ العظام، على رأسه طاقية تغطيها غترة بيضاء مزخرفة بخيوط حمراء، يرتدي فوقها عقالا. عينه العوراء يغشاها السواد والأخرى مخضرَّة حولاء، في نظرته بريق مُغْوٍ وفي فمه اعوجاج. شفتاه شفرتان تبرز من بينهما أسنان ناتئة، حادة، صفراء، يجللها السواد. لحيته كعثنون التيس. بدا محيطا بالموضوع حد الذهول، يتحدث الانكليزية بطلاقة عجيبة، لا يشوبها إلا لكنة عربية خفيفة. قدم عرضا عن مؤسسات وجمعيات وهيئات المجتمع المدني التي تطالب بإحياء الوثنية في عربستان وعن قدراتها وفعاليتها وكيف نجحت في دس بعض عناصرها ضمن عمال توسعة الحرم الجارية. وقال إنهم وجدوا يدا من ذهب قد تكون يد الإله هُبل وفتاتا من قوارير صفر هي ما تبقى من صنم خُزاعة، كما عثروا على قطعة صخرية منحوتة قد تكون بَظْر اللات… وأخيرا طالب الرئيس باستصدار قرار من الأمم المتحدة يلزم عربستان بالترخيص لجمعيات إحياء الوثنية بالتنقيب عن الأصنام التي كانت حول الكعبة. وطالب بتقديم دعم أكبر لهيئات المجتمع المدني العربستانية.
لما غابت صورة الشيخ النجدي عن الشاشات، تدخل وليام ماكدونلد:
– لا فائدة من محاولات إحياء الوثنية ما دامت أمريكا عاجزة عن فهم العرب…
– كيف لنا أن نفهم أناسا يؤيدون القاعدة ويحجّبون نساءهم ويأكلون لحم الإبل ويكرهوننا؟
– إذا كنتم تريدون، سيدي الرئيس، جعل العرب يتجاوبون معكم ويتقبلون سياساتكم، فعليكم أن تخاطبوهم بأسلوب يتقبلونه. لو كنتم تنْظمون الإعلانات السياسية الموجهة إليهم في شكل قصائد عصماء، لكانوا تلقوها متحمسين. أقترح أن يكون الناطق باسم البيت الأبيض ملتحي يَتزَيّا بزي الأعراب، ويكون شاعرا فحلا يلقي بياناته الموجهة إلى العرب في شكل منظوم… ويُنزع منبر قاعة البيانات الصحفية وتحل محله ناقة يركبها، فيقف على راحلته وبيده عصا يشير بها إلى الصحفيين…
– كيف تتم العناية بالناقة، وما ذا نصنع ببولها وبعرها الذي سيلوث قاعة البيانات بعد كل مؤتمر صحفي؟
– نجعلها ناقة معدّلة وراثيا، لا تبول ولا تبعر إلا في وقت محدد… لا بد أيضا من كأس خمر يضعه السكرتير الصحفي أمامه، بدل كأس الماء الحالية…
– ذلك سيجلب لنا متاعب مع منظمات مكافحة الكحول، إضافة إلى المتاعب التي ستسببها الناقة مع منظمات حماية الحيوان…
– دعونا من هذه الخزعبلات! أمام تزايد التطرف العربي، أصبحت عربستان تشكل تهديدا لأمننا القومي وصار من الضروري تغيير الحكم هناك…
– تعني افتعال ثورة أو انقلاب؟
– لا، ما دام الحكام عرب، فسيستمر الوضع على حاله أو يسوء. يجب الاستيلاء على الحكم في عربستان وإعطاؤه لضابط من قواتنا المسلحة، على أن نطلب من ملك بريطانيا تنبيله. وإذا صار نبيلا، فستتسابق القبائل إلى مبايعته…
– لن يستتب له الحكم، لأنه غير مسلم.
– لا يهم إسلامه. هم يحرمون الخروج على الحاكم مهما كان. فهم يرون أنهم إذا كانوا تحت ولاية كافرة، فإنهم يتمسكون بإسلامهم وبعقيدتهم، ولكن لا يخاطرون بأنفسهم ولا يغامرون في مجابهة الكفار…
قال وزير الخارجية، مخاطبا الرئيس:
– سيدي الرئيس، أين هي مبادئنا الديمقراطية؟ ألم ننتهج أزيد من نصف قرن سياسة الشرق الأوسط الكبير ونسعى إلى تغيير الأنظمة الدكتاتورية، وجعل أحكام ديمقراطية منتخبة تحل مكانها؟
– التطرف العربي والإرهاب الاسلامي هما حاليا الخطر الأكبر على الديموقراطية!
في نهاية الاجتماع الذي دام ساعة ونصف، لاحظت مديرة السي أي إي أن الرئيس يلقي نظرة مختلسة على حلواها، فمررتها إليه.
في صبيحة يوم الاثنين الموالي، اجتمع المجلس لبحث قضية الفيل واستمع إلى ألفرد روزنباوم، عالم الآثار من جامعة ييل، الذي يرأس البعثة الأمريكية للتنقيب في موقع آبار حمى الأثري. قبل العرض، قدم روزنباوم للرئيس نسخا ورقية من الشرائح التي سترد خلال العرض. “تعد آبار حمى من أهم مواقع الرسوم الصخرية في عربستان وتوجد في هذا الموقع مجموعة فريدة من نوعها في العالم من حيث عدد ونوعية المنحوتات الصخرية ومن حيث تنوع وعدد النقوش والكتابات التاريخية المحفوظة هناك. توجد فيها رسومات أفيال ونقوش لاسم أبرهة. كما تم العثور على نحت غير مكتمل آخر لفيل بالقرب من بيشة، على الطريق من نجران إلى مكة. وفي وادي القرة، في العلا شمال المدينة المنورة، المعروف حالياً باسم وادي الجزل، يوجد فيل كبير منحوت على صخرة بارتفاع بضعة أمتار. وتم العثور قرب حمى على نقوش أخرى لفيلة، اثنان منها مع سائسيها، ونقوش لأبرهة بالقرب منها، مما يؤكد أن هذه النقوش ترتبط بصولة أبرهة. علاقة هذه النقوش بحادثة الفيل تؤكدها الكتابات التي اكتشفت قريبا من رسومات الفيّلة والتي يرد فيها اسم أبرهة، مما يؤكد مرور الحبشي وجيشه بآبار حمى. حملة أبرهة العسكرية المعروفة باسم ’حادثة الفيل‘، والتي قصها القرآن في سورة الفيل، جرت في زمن السيادة الإثيوبية على اليمن. كان أبرهة قد بنى القُلَّيْسْ بصنعاء، بمساعدة الحرفيين البيزنطيين، كنيسة لم تبن العرب ولا العجم مثلها، وكتب إلى النجاشي أنه لن ينتهي حتى يصرف حجاج العرب إليها ويجعلهم يتركون الحج إلى بيتهم. انتشر خبر بناء أبرهة القُلَّيْسْ وتحدثت العرب بكتابه بذلك إلى النجاشي. فغضب رجل من النَّسَأَةِ وخرج حتى أتى الكنيسة فقعد فيها. فأخبر بذلك أبرهة فقال: ”من صنع هذا؟“ فقيل له: ”صنعه رجل من العرب من أهل البيت الذي تحج العرب إليه بمكة لما سمع بقولك: أصرفُ إليها حجاج العرب، فغضب فجاءها فقعد فيها، أي أنها ليست لذلك بأهل!“ فغضب عند ذلك أبرهة وحلف ليسيرنَّ إلى البيت حتى يهدمه. ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت. ثم سار وخرج بالفيل معه. ويسمى العرب ذلك الفيل ’ محمود‘ “…
قال الرئيس في نفسه: «لماذا لا نغير اسم الحزب الجمهوري ونسميه ’حزب محمود‘ وفاء لروح الآباء المؤسسين؟»
“… ولكن عندما أعد أبرهة جيشه لدخول مكة لتدمير الكعبة، وضُرب الفيل ليقوم، أبى. فضربوا رأسه بالطبرزين، فأبى. فأدخلوا محاجن لهم في مراقه فبزغوه بها ليقوم، فأبى. فوجهوه راجعا إلى اليمن، فقام يهرول ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، فوجهوه إلى مكة فبرك. وأرسل الله عليهم طيرا من البحر، مع كل طير ثلاثة أحجار يحملها، حجر في منقاره وحجران في رجليه، أمثال الحمص والعدس، لا تصيب أحدا منهم إلا هلك، وليس كلهم أصابت. فخرجوا يتساقطون بكل طريق، ويهلكون بكل مهلك، هاربين، يبتدرون الطريق التي منها جاءوا.
“كان لحادثة الفيل تأثير كبير في نفوس العرب وما زالوا يحتفظون بها في ذاكرتهم الجمعية حتى يومنا هذا. فمثلا يُسمى جزء من الطريق الذي يربط نجران – جنوب شبه الجزيرة العربية الحالية – بمكة ’درب الفيل‘، مما يوضح أهمية هذا الحدث في الذاكرة الجماعية. أذكّر بأن الفيل حيوان اختفى من شبه الجزيرة العربية قبل أكثر من 200 ألف سنة مضت. لا شك أن مرور فيل أبرهة في منطقة نجران قد أثار ذهول السكان المحليين، ومن ثم نقوش حمى. لم يعد هناك شك في أن رسوم الفيلة في حمى تمثل فيل أبرهة. فيل هذه النقوش عملاق يمتلك صفات الفيل الأفريقي، أذناه كبيرتان وله نتوءان في نهاية خرطومه الطويل. أنيابه ضخمة وظهره مجوف أقعس. يوجد نتوء على رأسه ولديه خمسة أصابع في الأرجل الأمامية وثلاثة في الخلفية. الفيل الإفريقي واحد من أكبر الثدييات البرية، يعيش في السافانا، والسهول، والغابات، والمستنقعات، وحواف الأنهار ويأكل العشب والفواكه، والأوراق، واللحاء، والجذور. يشرب الكثير، لذا يوجد دائما بالقرب من نقطة مياه، وهو حيوان اجتماعي يعيش في قطعان من عشرات الحيوانات. التركيبة الاجتماعية لقطيع الفيلة أمومية، وتتولى قيادته أنثى مسنة يتبعها نسلها. يتم طرد الذكور الصغار من القطيع في سن الرابعة عشرة تقريبًا ويعيشون حياة عزباء، باستثناء موسم التزاوج. تتمتع الأفيال بإحساس عميق بالعائلة وبقدرة كبيرة على التعبير عن مشاعرها، خاصةً عندما يموت أحد أقرانها. وهناك تضامن كبير داخل القطيع. ليس لديها مفترس بسبب حجمها الكبير. ومع ذلك، يمكن للأسد مهاجمة صغار الأفيال. يعتقد أن فيل أبرهة لم يكن فيل حرب يشارك في الهجوم، كأفيال الجيش الفارسي التي تصدت للجيوش الإسلامية، لكنه كان رمزا من رموز ملك أبرهة. يحكى أن النجاشي، ملك الحبشة، استقبل في ثلاثينيات القرن السادس سفيرا بيزنطيا بعثه جستنيان، وهو يتربع على عرش تحمله أربعة أفيال.”
في صبيحة يوم الخميس 31 يوليو، جاء السفير الإثيوبي إلى البيت الأبيض، ملبيا دعوة الرئيس. كان سعيدًا بهذه المقابلة التي لم يطلبها والتي تتيح له الفرصة ليحاول نيل دعم الرئيس لملف المساعدة المالية الموجه إلى حكومة الولايات المتحدة لمساعدة إثيوبيا، بموجب اتفاقية التراث العالمي، لترميم كنائس لاليبيلا المحفورة في الصخر والمدرجة ضمن مواقع التراث العالمي وفي قائمة مواقع التراث العالمي المعرضة للخطر… تقدم أحد موظفي البروتوكول قائلا:
– سعادة السفير، تفضلوا معي، الرئيس في انتظاركم!
سار السفير خلف الموظف حتى وصلا إلى باب مكتب الرئيس المبطن:
– تفضلوا سعادة السفير!
– مرحبا سعادة العميد، هل يمكنني مناداتك بهذا اللقب؟ أنت الآن عميد السلك الدبلوماسي الأفريقي.
– نعم! من الآن فصاعدا سأكون المحاور المباشر مع حكومتكم. آمل أن أكون قادرًا على ضمان حماية مصالح القارة وكذلك تماسك السلك الدبلوماسي…
– هل أنت مسيحي سعادة السفير؟
– نعم سيدي الرئيس!
– إذن ربما تعرف قصة فيلبس والخَصي…
– نعم. هذه قصة القديس فيلبس والخَصي الحبشي الذي كان وزيرا لِكَنْدَاكَةَ، ملكة الحبشة، والذي كان قد جاء إلى أورشليم ليتعبد. وردت في سفر أعمال الرسل الفصل الثامن…
– تنوي “جمعيات الرب”، التي أتشرف بعضويتها – وهي الفرع الأمريكي من زمالة جمعيات الله العالمية -تنظيم ملتقى بعنوان ”الحبشى الخصى وزير كَنْدَاكَةَ ملكة الحبشة“ وتريد شهادة خصي إثيوبي. اختاروا بِرو مَسْكَلْ، وهو كاهن خصي، يحرس كنيسة القديس جورج في لاليبيلا. أريد منك تسليمه هذا الظرف الذي يحتوي على تذكرة مع مبلغ نقدي ودعوة من “جمعيات الرب” للمشاركة في الملتقى الذي سينعقد في سبرينغ فيلد، ميزوري، فاتح سبتمبر 2053.
– سأفعل، سيدي الرئيس. لكن اسمحوا لي أن أكلمكم في موضوع آخر…
– تفضل، وما هو؟
– أرجوا من سيادتكم دعم الطلب الذي وُجّه إلى حكومتكم لمساعدة بلدي على ترميم كنائس لاليبيلا المحفورة في الصخر والمدرجة في مواقع التراث العالمي وفي قائمة مواقع التراث العالمي المعرضة للخطر…
– بلدك غير مؤهل لهذا النوع من المساعدات، لأنه منح اللجوء لجماعة إرهابية…
– إثيوبيا لم تمنح حق اللجوء لأي جماعة إرهابية! نحن حريصون على تطبيق القواعد الدولية لمكافحة الإرهاب…
– ألا تتذكر لجوء مجموعة من الإرهابيين المسلمين إلى بلدكم؟
– أي مجموعة يا سيادة الرئيس؟
– أصحاب محمد الذين هربوا من مكة…
– ذلك كان في الحبشة، أيام النجاشي، منذ قرابة ألفين سنة!
– قوانين مكافحة الإرهاب لا تسقط بالتقادم!
…
لما تسلم بِرو مَسْكَلْ الدعوة، رجع إلى الكتاب المقدس. قرأ في سفر أعمال الرسل ليقف على قصة الخصي الحبشي الذي خرج من بلده وسافر مشواراً طويلاً ليسجد في أورشليم. في طريق رجوعه كان الخصي مشغولاً بالقراءة في الكتاب المقدس، وكان مهتماً أن يفهم تفسير الكلام. لما أمر الروح القدس فيليب بمقابلته، كان الخصي الإثيوبي جالسًا في عربته في طريقه إلى بلده يقرأ من سفر النبي إِشَعْيَاءَ بْنِ آمُوصَ كلمات كانت على وشك أن تغير حياته إلى الأبد. يطرح كل من فيلبس والأثيوبي على بعضهما البعض أسئلة مباشرة. لا يسأل فيلبس “يوم جميل أليس كذلك؟” بل بالأحرى: “هل تفهم ما تقرأ؟” الخصي في العربة يرد: “كيف يمكنني أن أفهم ما لم يرشدني أحد؟” ويدعو فيلبس ليجلس بجانبه في المركبة ويشرح له. بشره فيلبس بيسوع وسأله: “هل تؤمن بيسوع المسيح؟” فأجابه الإثيوبي: “أؤمن بالمسيح!”. بدأ فيلبس في الحديث، وصار الإثيوبي يستمع إليه، وكان لكل منهما أعلى درجات الاحترام للآخر. دخلا في حوار مليء بعلامات الاستفهام، لكنه ليس بأي حال من الأحوال غامضًا أو غير مؤكد. كلا الرجلين يعرف بالضبط ما يريده. يريد فيلبس أن يعلم الإثيوبي من الكتاب المقدس، ويريد الإثيوبي أن يفهم الكتاب المقدس. الإثيوبي يقرأ سفر النبي إِشَعْيَاءَ بْنِ آمُوصَ من الكتاب المقدس: “(1) مَنْ صَدَّقَ خَبَرَنَا، وَلِمَنِ اسْتُعْلِنَتْ ذِرَاعُ الرَّبِّ؟ (2) نَبَتَ قُدَّامَهُ كَفَرْخٍ وَكَعِرْق مِنْ أَرْضٍ يَابِسَةٍ، لاَ صُورَةَ لَهُ وَلاَ جَمَالَ فَنَنْظُرَ إِلَيْهِ، وَلاَ مَنْظَرَ فَنَشْتَهِيَهُ. (3) مُحْتَقَرٌ وَمَخْذُولٌ مِنَ النَّاسِ، رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ الْحَزَنِ، وَكَمُسَتَّرٍ عَنْهُ وُجُوهُنَا، مُحْتَقَرٌ فَلَمْ نَعْتَدَّ بِهِ. (4) لكِنَّ أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا، وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا. وَنَحْنُ حَسِبْنَاهُ مُصَابًا مَضْرُوبًا مِنَ اللهِ وَمَذْلُولًا. (5) وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ، وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا. (6) كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ، وَالرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا. (7) ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ. كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى الذَّبْحِ، وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ. (8) مِنَ الضُّغْطَةِ وَمِنَ الدَّيْنُونَةِ أُخِذَ. وَفِي جِيلِهِ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ قُطِعَ مِنْ أَرْضِ الأَحْيَاءِ، أَنَّهُ ضُرِبَ مِنْ أَجْلِ ذَنْبِ شَعْبِي؟ (9) وَجُعِلَ مَعَ الأَشْرَارِ قَبْرُهُ، وَمَعَ غَنِيٍّ عِنْدَ مَوْتِهِ. عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ ظُلْمًا، وَلَمْ يَكُنْ فِي فَمِهِ غِشٌّ. (10) أَمَّا الرَّبُّ فَسُرَّ بِأَنْ يَسْحَقَهُ بِالْحَزَنِ. إِنْ جَعَلَ نَفْسَهُ ذَبِيحَةَ إِثْمٍ يَرَى نَسْلًا تَطُولُ أَيَّامُهُ، وَمَسَرَّةُ الرَّبِّ بِيَدِهِ تَنْجَحُ. (11) مِنْ تَعَبِ نَفْسِهِ يَرَى وَيَشْبَعُ، وَعَبْدِي الْبَارُّ بِمَعْرِفَتِهِ يُبَرِّرُ كَثِيرِينَ، وَآثَامُهُمْ هُوَ يَحْمِلُهَا. (12) لِذلِكَ أَقْسِمُ لَهُ بَيْنَ الأَعِزَّاءِ وَمَعَ الْعُظَمَاءِ يَقْسِمُ غَنِيمَةً، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سَكَبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَهُ وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ، وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي الْمُذْنِبِينَ.”
يسأل الخصي فيلبس: هل النبي يتكلم عن نفسه أم عن غيره؟ فيجيبه القديس: يسوع هو حمل الله الذي أدى إلى الذبح من أجل أن تغفر خطايا العالم. كانت العربة تشق طريقها، وأتت على “بعض الماء”. قال الإثيوبي: انظر! ماء! ما الذي يمنع أن أعتمد؟ أجابه فيلبس: لا شيء! المعمودية جزء من التبشير بيسوع. لا أحد يبشر بيسوع إذا لم يكرز بالمعمودية. فسأله الإثيوبي: ما علاقة المعمودية بالوعظ وقيامة المسيح؟ فقال فيلبس: جاء في رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية: “أَمْ يَخْفَى عَلَيْكُمْ أَنَّنَا جَمِيعاً، نَحْنُ الَّذِينَ تَعَمَّدْنَا اتِّحَاداً بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ…؟ وَبِسَبَبِ ذلِكَ دُفِنَّا… بِالْمَعْمُودِيَّةِ لِلْمَوْتِ، حَتَّى كَمَا أُقِيمَ الْمَسِيحُ…، كَذلِكَ نَسْلُكُ نَحْنُ أَيْضاً فِي حَيَاةٍ جَدِيدَةٍ.” لذلك نرى أن المعمودية هي “لمغفرة الخطايا”. لم يمنع فيلبس الأثيوبي من رغبته في أن يعتمد، ولم يحاول تأخيرها. كان يعلم أنه يؤمن من كل قلبه بما بشره به. كان مستعدًا لتعميده. توقفت العربة ونزل فيلبس إلى الماء مع الإثيوبي ومعهم الحوذي الذي يسوق العربة وعمده في الماء طاعة للمسيح في المعمودية من أجل مغفرة خطاياه. رجع الإثيوبي إلى عربته وذهب في طريقه فرحا. لقد غيرت كلمات سفر النبي إِشَعْيَاءَ بْنِ آمُوصَ التي فُسِّرت له حياته تمامًا.
تخيل بِرو مَسْكَلْ خصي الكتاب المقدس وهو طفل اختطفه أشخاص مجهولون من منزل والديه لإخصائه. تخيله وهو مستلقٍ متجمد من الخوف. استأصلوا خصيتيه وهو يحس بألم شديد. ظل يتألم طوال فترة نقاهته الطويلة. لقد كبر، ولكنه لم يشهد سن البلوغ. بلغ عمره السادس عشرة ولم يشعر برغبة في التعامل مع الجنس الآخر والاختلاط به ولم يظهر حب الشباب على وجهه ولم يحتلم ولم يخشن صوته ولم تظهر في رقبته تفاحة آدم ولم ينبت أي شعر على جسمه. نمى ثدياه وفخذاه ووركاه، ما أعطى جسمه شكلا أنثويا. بدأ عمله في الديوان الملكي. كان يتوق إلى أن يكون في عائلة، وحتى أن يكون لديه أطفال. لكنه حلم لا ينال. يحترمه غير الخصيان في القصر ويسخرون منه أحيانًا. يحسدونه على مكانته العالية في القصر ويسخرون منه لكونه أقل من رجل. كان يشعر بمرارة بسبب الرفض والوحدة. كان ضعيفا ويمرض كثيرًا وعظامه هشة. ثم ذهب إلى أورشليم ليتعبد. تخيل بِرو مَسْكَلْ أورشليم في منتصف القرن الرابع. تخيل ازدحام الناس في الساحات العديدة. تخيل النوافير والضجيج. تخيل أهل أورشليم، الرجال والشبان في جهة والنساء والأطفال في جهة أخرى، وفي المنطقة المخصصة لهم، الأجانب من الأمم الأخرى، كل في مكانه. تخيل الخصي الاثيوبي وهو يقف حائرا ويتساءل: “بصفتي خصيًا، إلى أين أذهب؟” اشترى من كشك المعبد مقطعًا من الكتاب المقدس، يتحدث عن رجل حزين، مطلع على الحزن. انتابه الفضول بشأن هذا الشخص، “هل النبي يتحدث عن نفسه أم عن شخص آخر؟” قرأ الكلمات وكأنه ينظر في المرآة. كان هو أيضا مثل شاة تقتاد لتذبح أو كنعجة يزج صوفها ولا تمأمئ. وتخيله في رحلة العودة إلى الوطن إثيوبيا وهو يقرأ بصوت عالٍ من سفر النبي إِشَعْيَاءَ بْنِ آمُوصَ…
جاء يوم الرحلة. تهيأ بِرو مَسْكَلْ للسفرِ واستودع أسرته قبيل التوجه إلى المطار بساعاتٍ قليلةٍ، ولكن وداع أمه له كان مختلفاً للغاية، فقد كانت تشعرُ أن ثمةَ شيئا يحاك في الخفاء قد يحدث له! توجه إلى مطار أديس أبابا بول الدولي وأنهى الإجراءات ثم صعد إلى الطائرة، متجهاً نحو المقعد المخصص له. عند الساعة الثامنة والنصف، بدأت الطائرة بالتحرك قليلاً قليلاً، ثم أقلعت وبدأت الرحلة إلى نيويورك والتي ستستغرق 17 ساعة و45 دقيقة دون توقف.
…
واصل بِرو مَسْكَلْ قراءة الكتاب المقدس حتى سمع رسالة الترحيب بالقدوم إلى الولايات المتحدة على بُعد بضعة دقائق من مطار نيوارك ليبرتي الدولي. كان الوصول في الساعة السابعة والربع مساء بتوقيت نيويورك. خرج من الطائرة. سار عبر ممرات، وقبل مرور الهجرة، مر بمساحة بها نوافذ ضخمة تطل على أبراج منهاتان. استمتع لبضع دقائق بهذا المنظر المذهل والفريد. وصل إلى صالة المطار الذي كان مكتظاً بالبشر، ولكنه منظّم. بدأ يتخلل الصفوف حتى وجد المسار المخصص لمن يحملون تأشيرات الدخول ووقف فيه وكان مزدحماً بعض الشيء. تقدم إلى ضابطة الهجرة وعندما وصل إليها سلم لها جوازه والمستندات التي كانت بحوزته. ناولته استمارة الدخول، نظرًا لأن شركة الطيران لم توزعها لتعبئتها على متن الطائرة. قام بملئها تحت العين الساهرة للضابطة، التي دعته بابتسامة لأخذ وقته. أخذ حقيبته من قاعة تسليم الأمتعة ومر بالجمارك دون أن يتعرض للتفتيش. رأى لوحة الكترونية مضيئة، تشبه لوحات تغيير لاعبي كرة القدم، كُتب عليها اسمه بحروف ضوئية خضراء. قصد المرأة التي كانت ترفع اللوحة.
– أنت بِرو مَسْكَلْ؟ مرحبا بك في أمريكا! أنا إميلي من جمعية الرب في نيويورك. لنذهب إلى الفندق!
ظلت إميلي ترافقه حتى تسلم غرفته. وقبل أن تغادر، أخبرته بأنها ستأخذه صبيحة غد إلى عيادة نجد، وأضافت: “ستخضع لفحص طبي روتيني”.
سألها عن موعد الرحلة إلى سبرينغ فيلد.
– لم يتحدد بعد، سأخبرك إذا طرأ جديد.
رجعت إميلي في اليوم الموالي وأخذته إلى العيادة. سلمته لممرضة اقتادته خلال ممر معقم يصر تحت الخطى، ويعكس الأشياء في صور لزجة دائمة التشكل. عند نهاية الممر الطويل، استقبلته شابة سمراء، مقولبة، شعرها متدفق، رشيقة تحت بلوزتها الثلجية واسعة الجيب، شخصية سحرية، صنم! نظراتها تخدر مثل لسعة قنديل البحر. شريط أحمر غريب، ليس أوسع من ظهر سكين، يلف جيدها. أقراطها كانت على شكل فئران… إنها تتحرك! الفأر الذي يتدلى من شحمة الأذن اليسرى يمسك بالصيوان ويستكشفه! جعلته يرتدي بلوزة خفيفة برباط من الخلف وأعطته أحذية وقفازات وكمامة، قبل أن تدخله عبر ستارة مطاطية.
في اليوم السادس من إقامته في نيويورك، أخبرته إميلي أن الندوة قد ألغيت وأنها حجزت له مقعدا في رحلة العودة إلى أديس أبابا. أوضح الراوي العليم: كان الهدف من وراء زيارة بِرو مَسْكَلْ لعيادة نجد أخذ خلايا من جلده واستخدام حمضها النووي لاستنساخه. تم استزراع الخلايا وتنسيلها. اختاروا بويضات طازجة وناضجة من نساء ذوات خصوبة عالية وأزالوا منها النوى المحتوية على الحمض النووي واستبدلوها بالحمض النووي من خلايا جلد بِرو مَسْكَلْ. بعد 5 أيام، بدأت مئة ألف من البويضات تكون كيسات أريمية. تم اختيار خمسين ألف جنين من بين المئة ألف التي نمت وزرعت في أرحام اصطناعية. ولتسريع نمو الأجنة، تم غمرها في محلول السيتوبلازم المخصب بهرمون النمو، ليحصلوا على مستنسخين بعمر بِرو مَسْكَلْ. أعادوا برمجة أدمغة المستنسخين حسب برنامج The demolition man المعد سلفا…
الرئيس أبْراهامْ مَاكْ لَشْرَمْ معروف بطبعه الفكاهي الاندفاعي، لكنه لم يكن في مزاج مزاح عندما استقبل بهارت وايمن، عالم الحفريات الشهير في جامعة ييل، ليعينه على رأس الفريق المكلف بالتنقيب عن الهيكل العظمي للفيل وإعادته إلى الحياة.
– الفيل الذي ساقه الحبشة، لما أرادوا أن يهدموا الكعبة، هو الذي اختاره الآباء المؤسسون رمزا لحزبنا. لقد مات بين الطائف ومكة. اخترتك لتترأس الفريق المكلف بالتنقيب عن هيكله العظمي وإعادته إلى الحياة واستنساخ ألف منه…
– هذا يتطلب الحصول على ترخيص لإجراء حفريات في منطقة مكة، وهو أمر مستحيل، لأن القوانين الإسلامية تحظر دخول غير المسلمين إلى هذه المنطقة. فما بالك إذا كان الأمر يتعلق بفريق من دولة كافرة يريد إجراء حفريات في هذه المنطقة؟ فهذا أمر لا يمكن لهؤلاء الناس تصوره…
– كل هذا غير مقبول ومخالف لمبادئنا، يجب أن نجد طريقة لتغييره!
– يمكن أن نستصدر قرارا من مجلس الأمن، يلزم عربستان بفتح منطقة مكة لغير المسلمين…
– آه، الأمم المتحدة، يا لها من ورطة! سأستدعي سفير عربستان وأحاول الحصول على الترخيص دون اللجوء إلى مجلس الأمن. وكالة ناسا بدأت تشغيل شبكة من الأقمار الصناعية تتحرك على ارتفاع 700 كيلومتر وتقوم بمسح سطح أرض المنطقة في مجال الأشعة تحت الحمراء. هذا النطاق من الطول الموجي يظهر الاختلافات في كثافة التربة، ما يمكّن من إبراز الهياكل العظمية المطمورة…
ما إن أخذ سفير عربستان مكانه في الغرفة البيضاوية بقاعة استقبال السفراء، وبدأ بصره يسيح في اللوحة البانورامية التي تغطي الجدران، حتى تقدم أحد موظفي البروتوكول قائلا:
– سعادة السفير، تفضلوا معي، الرئيس في انتظاركم!
سار السفير خلف الموظف حتى وصلا إلى باب مكتب الرئيس المبطن.
– تفضلوا سعادة السفير!
دخل السفير وهو يحس بشيء من الرهبة بوجوده في المكتب البيضاوي، المكان الذي يرمز إلى قوة رئيس الولايات المتحدة. النوافذ الثلاث الكبيرة، الواقعة خلف مكتب الرئيس مباشرة، نزلت على الأرض تقريبًا. كان الرئيس يقف بين مقعدين مرتفعي الذراعين بجانب المدفأة، في ناحية الغرفة المقابلة لمكتبه. صافح السفير ودعاه للجلوس.
– لم تتح لنا الفرصة للقاء منذ تنصيبي…
– بداية المأمورية تكون دائما فترة انشغالات كثيرة…
– اسمحوا لي أن أتطرق مباشرة إلى لب الموضوع الذي استدعيتكم من أجله… أريد منكم تسهيل مشروع يكتسي أهمية قصوى بالنسبة لي…
– على الرأس والعينين، سيادة الرئيس!
– أريد ترخيصا لتنظيم حفريات أثرية في منطقة مكة من أجل العثور على بقايا الفيل الذي مات هناك…
– الفيل الوحيد الذي مات في هذه المنطقة هو الفيل الذي ساقه أبرهة لهدم الكعبة…
– بالضبط! ذلك هو الفيل الذي اختاره الآباء المؤسسون ليكون رمز حزبنا! أريد استخراج هيكله العظمي وإحيائه من جديد.
– هذا مصدر فخر كبير لنا، أن يوجد في عربستان رمز الحزب الجمهوري! وإذا تمكنت فرقكم من تحديد المكان الذي يوجد فيه هيكل الفيل العظمي، فسيمثل ذلك إثراء كبيرا لخريطة الآثار القديمة في بلدنا… هل من الممكن، سيادة الرئيس، أن تشرفوا متحفنا الوطني باحتضان الهيكل العظمي وضمه إلى معروضاته؟ لا شك أن ذلك سيكون مصدر جذب اهتمام أكبر للزائرين…
– سنرى… سنرى…متى سنحصل على الترخيص؟
– في أقرب الآجال! فور عودتي إلى مكتبي، سأتصل بهيئة الآثار وأطلب منهم إصداره.
ضغط الرئيس على زر الجرس، إيذانا بانتهاء المقابلة. دخل موظف المراسم ورافق السفير إلى سيارته.
وجهت وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) كل أقمارها الصناعية المجهزة برادار اختراق الأرض لالتقاط ملايين الصور عالية الدقة من الفضاء، لمساحة حول مكة تبلغ 200000 كيلومتر مربع، لتزويد علماء الآثار بصور يمكن أن تساعد في الكشف عن بقايا هيكل الفيل العظمي المطمور، الذي سيكون من المستحيل اكتشافه باستخدام الطرق التقليدية للتنقيب الأثري. وظفت تقنية الاستشعار عن بعد وأطلقت منصة تسمح لمستخدمي الإنترنت بالمشاركة مع علماء الآثار في تحليل الكم الهائل من الصور التي توفرها الأقمار الصناعية لعلماء الآثار. ووجه نداء إلى أعضاء الحزب الجمهوري ومناصريه: “شارك في البحث عن رمز حزبنا! أصبح إنديانا جونز دون مغادرة منزلك! سنرسل لك صور الأقمار الصناعية حتى تبحث عن المؤشرات التي قد تدل إلى موقع يجب التنقيب فيه وسنطلع علماء الآثار على نتائج بحثك، وإذا مكنتهم من اكتشاف هيكل الفيل، فستفوز بمكافأة مالية وتخول المشاركة إلى جانب المناديب في مؤتمر الحزب القادم.”
بعد ثلاثة أسابيع من التنقيب الأرضي الفضائي اكتشف، شمال شرقي الطائف، بالقرب من سد معاوية الأثري داخل منتزه سيسد الوطني، هيكل عظمي كامل لفيل متحجر في الرمال في حالة حفظ شبه مثالية. وكان ارتفاعه أربعة أمتار وطوله خمسة أمتار. تمكنوا من تحديد تاريخ الهيكل العظمي وتأكدوا من أنه يعود لفيل عاش قبل حوالي 1482 سنة، وهي فترة حادثة الفيل. اشترت الولايات المتحدة منتزه سيسد، الذي يضم مساحات خضراء واسعة والعديد من الأودية مثل وادي سيسد ووادي العرج، وعدد من الشلالات الرائعة والينابيع والجداول المائية التي تتدفق بين الكتل الصخرية والنباتات والأعشاب الخضراء والأزهار الملونة، ويمتد على مساحات واسعة من الأراضي تغطيها غابات الأشجار الخضراء الكثيفة. وكان المنتزه يشكل منطقه محمية، لما له من أهمية بالنسبة للنباتات والكائنات الحيوانية والآثار القديمة والسمات الجيولوجية المهمة مثل الجبال والسهول والينابيع والأودية وقنوات الأنهار والخلجان والكهوف والمنحدرات… وهو أجمل الأماكن السياحية في الطائف. تم إنشاء محمية دولية على مساحة كبيرة تشمل مجموعة واسعة من البيئات الطبيعية. أنشئت المحمية بقرار من الكونغرس، بميزانية سنوية قدرها 20.000.000 دولار. أطلق على المحمية اسم “حديقة الفيل” وأوكلت إدارتها إلى دائرة المنتزهات القومية(NPS) ، وهي وكالة تابعة لوزارة الداخلية تدير المتنزهات الوطنية بالولايات المتحدة. وأرسلت فرق من الحرس الوطني الأمريكي ومعدات حربية لتأمين الحديقة. تم التعاقد مع شركة كويت كوربوريشن، وهي واحدة من أفضل شركات الهندسة المدنية في الولايات المتحدة الأمريكية، فشيدت المنشآت المدنية المختلفة، كالأبنية السكنية والخدمية والطرق وشبكة إمداد مياه الشرب ومحطات ضخ المياه وشبكة الصرف الصحي. وزرعت الغابات لتوفر العشب والفواكه والأوراق واللحاء والجذور التي يقتات عليها الفيّلة (فكل فيل سيحتاج ما بين 200 كجم و300 كجم من الطعام يوميًا). شقت الأنهار والبحيرات وحفرت المستنقعات، لأن الفيل يشرب الكثير. فعلى الرغم من أنه يستطيع البقاء لعدة أيام بدون ماء، إلا أنه يمكنه شرب ما يصل إلى 200 لتر من الماء يوميًا.
هكذا تحول منتزه سيْسد إلى سافانا إفريقية، تناسب الأفيال التي ستستنسخ من فيل أبرهة. أوكل استنساخ الفيل إلى عيادة نجد، المتخصصة في الاستنساخ، والتي يملكها فوستوس النجدي، عربستاني جاء إلى الولايات المتحدة لدراسة الطب. تميز فوستوس في الدراسة، وكان زملاؤه في الكلية يلقبونه دكتور فوستوس، لأنه كان يتسلط على جثث الموتى ويحاول إحياءهم. بعد تخرجه بامتياز مع مرتبة الشرف من مدرسة الطب في جامعة هارفرد، عمل في مختبر لاستنساخ البشر تملكه طائفة الرائيليين. كان يشعر بأنه قد وصل إلى نهاية كل موضوع قد درسه وبدأ يمارس النكرومانسية ويحاول استحضار أرواح الموتى وإحياءهم. وصار يعتبر أن الطب بلا جدوى ما لم يسمح بإحياء الموتى والخلود. ثم بدأ يهتم بالشيطان ويتوسل إليه لكي يساعده في استحضار القوى الشريرة أو قوى الظلام التي يطلب مساعدتها من أجل نجاح تجاربه. وكان يضع على مكتبه جمجمة ميت تستقبله كل صباح بقهقهتها الصامتة وتلاحقه بنظرات حفيرتي محجريها الغاسقة الواقبة. بعد سنوات من العمل في مختبر الرائيليين، أسس فوستوس عيادته الخاصة في نيويورك وسماها “عيادة نجد”، تيمنا باسم موطنه نجد، قرن الشيطان. صار عميلا للمخابرات وحصل على الجنسية الأمريكية. لما سأله موظف مصلحة خدمات الجنسية والهجرة:
– ماذا تحب أن يكون اسمك في الجنسية الجديدة؟
أجابه:
– فوستوس!
– وهل تحتفظ باسم أبيك دون تغيير؟
– لا! اجعل مكانه “الشيخ النجدي”!
ردد في نفسه اسمه الجديد: «فوستوس ابن الشيطان!» وتوسل به إلى إبليس: «يا إبليس! يا من اعترض لقريش في دار الندوة يوم الزحمة في هيئة شيخ من أهل موطني، لقد أضفت اسمك إلى اسمي وجعلته جزءا من اسمي الشخصي تكريما لك، فلا تعدمني منك رأيا ونصحا، وكن لي نصيرا!»
لما رجع إلى العيادة في اليوم الذي حصل فيه على الجنسية، كان قلقا. جلس أمام مكتبه، وأخذ الجمجمة بين يديه. صار يتأملها ويفكر في حاله، تنتابه أفكار سوداء: «الطب، وا أسفاه! وأنت أيضًا، علم الأحياء الحزين! درستكما جيدًا بحماس وصبر! والآن أنا طبيب، وعلى مدى عشر سنوات، تمكنت من تكوين آلاف البشر المستنسخين، لكني لا أزال عاجزا عن فهم سر الحياة! وليست لدي لا ممتلكات، ولا مال، ولا شرف، ولا هيمنة في العالم. سئمت من هذه الحياة! ليتني كنت تعلمت السحر خلال السنوات التي ضيعت في دراسة الطب! أيها الشيطان، هلا كشفت لي الأسرار التي لا أعرفها؟ ساعدني على معرفة كل ما يخفيه العالم وما تحتويه الطبيعة من طاقة سرية وبذور أبدية! يا أبتاه، تكرم بإلقاء نظرة على يأس ابنك… آه! لماذا لا تساعدني على تسلق الجبال العالية والتجول في الكهوف مع الأرواح، لأغتسل في محيط علمك وأنسى كل بؤس العالم؟ اظهر، اظهر، مهما كان الثمن!» في الأعالي، ومن فوق عرشه المهيب، قرر الشيطان أن يستجيب لنداء ابنه بالتبني. سرت قشعريرة في بدن فوستوس وأحس بالضيق. فاحت رائحة نتنة وانتشرت رطوبة عفنة وظهر شيخ أعور، أعرج، عليه طَيْلَسان من خَزٍّ مربع أخضر، ينتعل خفين أحمرين وبيده عصا مذراة. وجهه مصفر، نحيف مقعر، ناتئ العظام. على رأسه طاقية تغطيها غترة بيضاء مزخرفة بخيوط حمراء، يرتدي فوقها عقالا. عينه العوراء يغشيها السواد والأخرى مخضرَّة حولاء، في نظرته بريق مُغوٍ وفي فمه اعوجاج. شفتاه شفرتان تبرز من بينهما أسنان ناتئة، حادة، صفراء، يجللها السواد. لحيته كعثنون التيس. شعر فوستوس بفزع شديد. تسمر في مكانه يرتعد من هول المفاجأة.
– لا تخف! أنا أبوك!
– الشيخ النجدي!؟
– نعم، إبليس بلحمه وشحمه!
– لماذا تظهر لي في هذا الزي القديم وليس في شكلك المألوف، بحمرتك ومخالبك وقرونك وأظلافك وذيلك؟
– جئتك في هيئة شيخ نجدي لأنك تبنيتني بهذا الاسم ولأن نجد موطننا… جئتك ملبيا نداء ابني الوحيد…
– ماذا تفعل بأولادك الخمسة: زَلَمْبُور، وداسم، وتبرْ، والأعور، ومِسْوَط؟
– تبا لهم! تركوني وحيدا وهاجروا مع الجن إلى العوالم الافتراضية… أنت الآن ابني الوحيد، سألبي جميع رغباتك! لكن عليك أن تبرم معي ميثاقا مكتوبا، أول سطر فيه تلتزم فيه بعبادتي، وسأحقق جميع أمنياتك… ستستخدم قطرة صغيرة من الدم للتوقيع على اسمك.
– سأفعل، ولن أخون الميثاق! صرت أبغض جميع العلوم وأسبح في مهاوي السحر لأحقق المعجزات. أريد أن أخوض أمواج القدر المتلاطمة لأحقق مرادي… أريد أن أكتنز في أعماق نفسي ما عجز عنه علم الانسان، وأكتشف سر الوجود…
– ازدر العلم والمعرفة! استيقظ من غرور العقل البشري واتبعني تجد مناك! فقط، عليك الأخذ بمقولة ابنة عمي الحية: “لن تعرف سر الوجود!” خذها مني، منذ أن خلقت وجعلني الله من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم، وأنا أبحث عن ذلك السر. وبعد ألوف مؤلفة من السنين، أيقنت أن ذلك السر لا يعلمه إلا الله! ما عدا ذلك، اطلب ما شئت، سأساعدك في تحقيق جميع رغباتك. ارجع الآن إلى مختبرك، لقد آن الأوان أن يولد مستنسخك الجديد!
بُني مختبر الاستنساخ ومجمع الأرحام الاصطناعية الضخمة التي ستكون بمثابة الأمهات البديلة للأفيال. أخذوا من الهيكل عينات من المادة الوراثية، تم استزراعها لفترة لملء التسلسلات المفقودة في الشفرة الجينية والحصول على عينة كاملة من الدنا (الحمض النووي الصبغي) لغرض تنسيلها واستنساخها. بعد التنسيل تم إدخال المواد الوراثية في بويضات إناث فيلة فارغة واستثيرت تلك الخلايا الهجينة بواسطة الصدمات الكهربائية كي تنقسم؛ وقبل وصولها مرحلة الكيسة الأريمية زرعوها في الأرحام الاصطناعية. ولتسريع نمو الأجنة، تم غمرها في محلول السيتوبلازم المخصب بهرمون النمو. هكذا تمكنوا من الحصول على 1000 فيل بالغ في 40 يومًا. تم إذا اختزال 30 سنة في أقل من شهرين. كل الأفيال كانت سعيدة وبصحة جيدة. حجمها كبير، ظهرها أقعس وأنيابها طويلة، تصل إلى 3 أمتار؛ آذانها الكبيرة تشبه قارة أفريقيا. كان وزنها يصل إلى 8 أطنان وطولها إلى 7.50 متر وارتفاعها إلى 4 أمتار ويصل طول خرطومها إلى1.15 متر ويزن 130 كجم.
أشرفت إحدى وكالات وزارة الدفاع، بالتعاون مع شركة هيوستون ديناميكس، وهي شركة روبوتات أمريكية، على تطوير روبوتات سُوّاس بعدد الفيلة، تشتغل ببرنامج “مَحُوت” لترويض الفيّلة وتدريبها. يجلس الروبوت على رقبة الحيوان ويتواصل مع فيله من خلال الكلمات والإيماءات وحركات الأقدام. وبالتالي يمكنه تدريب الفيل على التفاعل معه. أصدرت دائرة المنتزهات القومية بلاغا لتقديم الترشحات لمنصب مدير الحديقة، فتقدم له ريان بوشانه، وكان المرشح المثالي للمنصب، نظرًا لخبرته التي تبلغ 30 عامًا في المحميات في ملاوي وتشاد وكينيا. لقد تحمس في البداية لهذا التحدي الجديد، إلا أن زيارته الأولى حدّت من حماسه: وجد قطيعا كبيرا من الأفيال بلا إناث وسكان محليين يكرهون الفيل. لكن دائرة المنتزهات القومية(NPS) تمكنت من إقناعه بقبول المنصب وتعهدت باستنساخ الإناث. التزموا له أيضا بأن جميع القرارات ستقع في يديه (على عكس العديد من المناطق المحمية عبر الولايات المتحدة، حيث يعمل مدراء المنتزهات كمستشارين لموظفي الحكومة الذين لهم الكلمة الأخيرة). وهذا يعني أيضًا أنه سيكون مسؤولا عن جميع أمور المحمية. المشكلة الأكبر التي واجهها بوشانه هي هجمات الجهاديين. فكانت الخطوة الأولى التي اتخذها لدى وصوله هي تعيين مدير مكلف بمكافحة الإرهاب. كما استثمر بشكل كبير في الإجراءات الأمنية. قام بتوزيع أجهزة اتصال على زعماء العشائر، وطلب منهم الإبلاغ عن أي نشاط مشبوه ووعدهم بمكافئات مالية ودعاهم لجعل السكان المحليين يتولون المسؤولية ويقتنعون بقيمة الحديقة. كما جند 600 حارس من بين أبناء الطائف، استطاع كسب ثقتهم وإقناعهم بأن الجهاديين، على عكس ما يزعمونه، ليسوا جنود الله وتمكن هزيمتهم. استعان بمساعدة توم دوسك، ضابط بحرية متقاعد، الذي دربهم على طريقة مشاة البحرية الأمريكية. شكل من بينهم فرقة تدخل سريع، مكونة من حراس مختارين بعناية.
عُين ويل بيرنز، خبيرا في مجال الإعلان، مديرا لتسويق الحديقة. عند تسلمه مهامه قال له ريان بوشانه:
– الناس هنا يكرهون الفيل. عليك أن تجعلهم يحبونه ويحبون الحديقة!
– سأعمل على بناء الوعي من خلال الإعلان، الترويج الناجح ينشئ قصة المارْكة التجارية، ثم يروج المنتجات حول تلك القصة. غالبًا ما يُقال للمُسَوّقين إن سرد القصص هو مفتاح العلامة التجارية. العلامة التجارية تحتاج إلى قصة لإعطاء المنتج السياق والمعنى والعاطفة. درست جيدا حادثة الفيل كما تقصها التقاليد المروية المحلية. علينا أن نروي قصة الفيل أولا ثم نروج الحديقة في المرتبة الثانية…
– وما هي القصة؟
– كان أبرهة قد بنى القُلَّيْسْ بصنعاء، بمساعدة الحرفيين البيزنطيين، كنيسة لم تبن العرب ولا العجم مثلها، وكتب إلى النجاشي أنه لن ينتهي حتى يصرف حاج العرب إليها ويجعلهم يتركون الحج إلى بيتهم. انتشر خبر بناء أبرهة القُلَّيْسْ وتحدثت العرب بكتابه بذلك إلى النجاشي. فغضب رجل من النَّسَأَةِ، فخرج حتى أتى الكنيسة فقعد فيها. فأخبر بذلك أبرهة فقال: ”من صنع هذا؟“ فقيل له: ”صنعه رجل من العرب من أهل البيت الذي يحجون إليه بمكة لما سمع بقولك: أصرفُ إليها حج العرب، فغضب فجاءها فقعد فيها، أي أنها ليست لذلك بأهل!“ فغضب عند ذلك أبرهة وحلف ليسيرنَّ إلى البيت حتى يهدمه. ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت. ثم سار وخرج بالفيل محمود معه. عندما أعدّ أبرهة جيشه لدخول مكة لتدمير الكعبة، وضُرب الفيل ليقوم، أبى. فضربوا رأسه بالطبرزين، فأبى. فأدخلوا محاجن لهم في مراقه فبزغوه بها ليقوم، فأبى. فوجهوه راجعا إلى اليمن، فقام يهرول ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك. فوجهوه إلى مكة فبرك. نقدم حديقة الفيل على أنها انبعاث الولي الصالح محمود، فيل أبرهة الذي رفض دخول مكة وهدم الكعبة، فاستحق التكريم وصار رمزا للتقوى والصلاح والمنزلة الرفيعة عند الله ومكان البركة. ندعو الناس لزيارة الولي الصالح محمود في حديقته وتقديسه والتبرك به للعلاج من أمراضهم المستعصية وإنجاب الذرية الصالحة ونيل حوائجهم الأخرى…
– يمكنك أيضا توظيف هذه المعلومة التي استفدتها من تجربتي في محميات الأفيال في أفريقيا: فأمر الفيل عجيب! فهو يصيح من خرطومه عند التزاوج ويعرق عرقا غليظا غير سائل يكون أطيب رائحة من المسك، وموضع ذلك الينبوع في جبينه وعرقه هذا تجتنيه المومسات ويستعملنه لطيب الرائحة والتجمل، واستعماله يُظهر الشبق من الرجال والنساء وطلب الباه والاغتلام والطرب والنشاط والأريحية. تجعلنه على بعض الأدهان، فيكون أغلى طيبهن، والمستطرف عندهن. فإذا ادهنت به إحداهن، ولو مرة واحدة، لا تحمل تلك السنة ولو وطئها الرجال كلهم! وأكثر ما يغزر هذا العرق في جبين الفيل في حال اغتلامه وهيجانه!
أسسوا قناة تلفزيون خاصة بالحديقة وموقع ويب وصفحات على Facebook وYouTube و Instagram وTwitter وقاموا بدمج الفيل في بعض برامج الأطفال التلفزيونية. وصنعوا بضعة أفلام قصيرة عن الفيل نشروها على قناة الحديقة الخاصة على YouTube. سوقوا الحديقة في محيطها الجغرافي. وقدموا الفيل على أنه الولي الصالح محمود، وحثوا النساء على قضاء وقت سعيد في جواره والتمسح به والتماس بركته، إذا كن يردن الزواج والذرية الصالحة! “انظروا إلى وجه محمود اللطيف والذكي، لا أحد ينظر في عيونه ويبقى على حاله. إنها تتحدث عن ذكريات لا حصر لها. ربما تتحدث عن حادثة الفيل. الفيل لا ينسى!”
أصبحت حديقة الفيل منتزه العربستانيين المفضل. لا يضيعون فرصة لمشاهدة الأفيال والتفاعل معها، يرغبون في رؤيتها والتعرف عليها واللعب معها، يتحممون معها أو يركبونها. يقضون يومهم في الحديقة التي تقع في الشمال الشرقي لمدينة الطائف، على بعد 5 أميال تقريبا، والتي تجمع بين متعة الأفيال وجمال الطبيعة وسحرها البراق والترفيه والتسلية بوسائل حديثة. كل الأفيال تعلم كيف تحمل البشر، وكيف تنحني، وتتقن الرقص، والرسم، ولعب كرة القدم، والوقوف على رجليها الخلفيتين… سخّروا وسائل الإعلام العربستانية والمنشآت السياحية المجاورة والفنادق في المنطقة لتسويق الحديقة. واكتسبوا ولاءات في الصحافة المحلية تضمن تغطية نشاطات الحديقة. بنوا شراكة مع الفنادق المحلية لتقديم عروض ترويجية مشتركة، مثل الدخول المجاني للأطفال عند الإقامة لمدة ليلتين في الأسبوع…
بعدما راجت الحديقة في السوق المحلي، راجعوا استراتيجية تسويقها لاستهداف السياح من جميع أنحاء العالم. نظرًا إلى أن السياح غالبًا ما يخططون لمسار رحلتهم مسبقًا، فمن المهم إغراءهم مبكرًا، وجذب انتباههم قبل أن يحددوا وجهتهم. حصلت الحديقة على تقييمات رائعة عبر الإنترنت وتصنيف نجوم جيد من الزوار على موقع TripAdvisor ومواقع التعليقات الأخرى. أصبحت حديقة الفيل واحدة من أشهر الوجهات السياحية في العالم. ففي عام 2055، بلغ عدد زوار الحديقة 150 مليون زائرا. وبحلول عام 2057، تضاعف هذا الرقم إلى أكثر من 300 مليون. يقيمون مع الفيّلة لمدة ثلاثة أيام مقابل عشرة آلاف ريال عربستاني للشخص الواحد، تشمل المبيت والإفطار في الفندق لمدة يومين والمشاركة في معظم الأنشطة، كدورات “كورْناك” لتعلم ترويض الفيل، أو المشي بجانب الأفيال في رحلة في الغابة. كانت رؤية كل هذه الأفيال وركوبها والمشي بجانبها تجربة ممتعة ومميزة جدا. في هذه الحديقة الفريدة من نوعها، كان الزوار يقضون وقتا لا ينسى، يطعمون الأفيال أو يقومون بجولات، راكبين على ظهورها أو سيرًا على الأقدام أو بالقطار، يرافقهم مرشد سياحي.
ثم صار العربستانيون يطلقون على الحديقة اسم “مقام الولي الصالح محمود” ويحترمون حراسها وخدمتها ويحسنون إليهم. يبنون قبابهم في الحديقة ويضربون الدفوف والطبول ويذبحون الأغنام والإبل والبقر ويطبخون الطعام للتصدق، ويرفعون أصواتهم وهم قائلون، فيقولون: “أغثنا يا محمود! يا محمود أغثنا!”. وإذا مرض أحدهم يأخذونه إلى الحديقة ويأتون بمال يدفعونه وبكبش أو ثور أو ناقة. عند قدومهم، يبدأ الزائرون بالطواف سبعة أشواط حول تمثال الفيل عند مدخل الحديقة. ثم يقرؤون سورة الفاتحة وسورة يس ويهدون ثوابهما، فيقولون: “الـلـهـمّ اجعل ثوابهما لأرواح الأولياء وثواب مثل ذلك في صحيفة هذا الولي”. ثم يقولون: “يا سيدي محمود شيء لله المدد!” 11 مرة؛ المدد من الولي معناه طلب التوسل به إلى الله والاستشفاع به إليه تعالى. ثم يبسطون أيديهم إلى السماء طالبين من الله حوائجهم الدنيوية والأخروية، مستقبلين تمثال الفيل، الذي يزعمون أنه يُؤَمِّنُ على دعائهم. ويختمون دعاءهم بقولهم: “يا إلهي، بحق وليك هذا فرّج كربي وهمي في الدنيا والآخرة وارحم اللهم صاحب هذه الحديقة باللطف والإكرام واستجب دعائي اللهم بحقه”. ثم يقول الزائر بخشوع ورقة وانكسار قلب: “لن أبرح المقام حتى تصلح عوجي. أشهد يا سيدي محمود أنك ولي الله”. ثم يقرأ آية الكرسي، مع تكرار ﴿ولا يؤده حفظهما وهو العلى العظيم﴾ 3 مرات، حتى لا يسلب منه مجذوب ما منحه الولي الصالح. وعند مغادرته يقرأ الزائر الفاتحة لصاحب المقام ويطلب الإذن بالانصراف: “حضرتكم يا سيدي محمود لا يُمل منها، لكنى ذو حاجة وهمتي قصرت وضعفت ومرادي أن انصرف من عند مقامكم.” ويخرج القهقرى دون أن يعطي ظهره للولي.
في 28 فبراير 2054، غادر الفيل محمود 1 الحديقة متوجها إلى واشنطن دي سي على متن طائرة شحن عسكرية، يرافقه سائسه KM1 وبهارت وايمن والفريق الذي استنسخه. وضع قدمه على الأراضي الأمريكية حيث استقبلته فرقة موسيقية نحاسية ووفد من الحزب الجمهوري رفيع المستوى ومدير حديقة حيوان واشنطن الوطنية. كان خبر قدوم محمود حدثا استثنائيا، بثته مباشرة قنوات التلفزيون. جاب جادة بنسلفانيا الشهيرة، من مبنى الكابيتول إلى البيت الأبيض، في حافلة مكشوفة شقت طريقها بين مئات الآلاف الذين احتشدوا في الجادة قبل ساعات من قدومه للترحيب برمز الحزب الجمهوري الذي أعيد للحياة بعد كل هذا الزمن. استُقبل محمود استقبال الأبطال مع مستنسخيه، قبل أن يتوجهوا إلى البيت الأبيض حيث استقبلهم الرئيس أبْراهامْ مَكْ لَشْرَمْ وزوجه. ثم توجه محمود ورفقته إلى حديقة حيوان واشنطن الوطنية، مقر إقامته، حيث شيد له منزل بالقرب من قطيع من الفيلة متعدد الأجيال. أصدرت الحديقة بيانا أعلنت فيه أن محمود بصحة جيدة وأنه سوف يسمح للجمهور بمشاهدته اعتبارا من غد (السبت).
—
•هذه القصة تدور أحداثها في موسم الحج 1476 هـ. سبق أن تناولت موضوع الحج في رواية من جزئين،