أديبٌ مصريٌّ من الجيل الأوَّل لرُوَّاد القصَّة القصيرة. كان اسمُه رمزًا للاتِّجاه الرُّومانسي في القصِّ، وعلامة فارقة في شتَّى الكتابات التي تناولت العلاقات العاطفيَّة بالتَّحليل العميق، فاعتبر رائدًا حقيقيًا من رُوَّاد القصَّة النَّفسيَّة.
اتِّسم أديبُنا الكبير بأنَّه إنسانًا شفَّافًا، رفيع الخُلُق، جميل العبارة، مُهذَّبًا، مُتواضعًا، عميق الفكر، وقد قضى حياته هادئ الطَّبع، غير حريص على أمجاد الشُّهرة والنُّفُوذ، وهكذا تمكَّن من أنْ يعيش حياةً راضيةً، وقد مكَّنته هذه الحياة من أنْ يُواصل إبداعُه بتدفُّقٍ ودُون انقطاع.
وُلد «إبراهيم سُليمان الحداد»، المعرُوف باسم «إبراهيم المصري» في عام 1900م أي مع مطلع القرن العشرين، بحي «الظَّاهر» بالقاهرة. لأبٍ تعُود جُذُوره إلى بلدة «دير القمر» اللبنانيِّة، وقد عمل نسَّاخ عُقُود في المحكمة المُختلطة في القاهرة، ولكنَّه اِشتهر بأنَّه كان يُحبّ الشِّعر ويحفظُه ويُردِّدُه على مسامع أبنائه.
تلقَّى «إبراهيم المصري» تعليمُه الابتدائي في مدرسةٍ فرنسيَّةٍ مجَّانيَّةٍ، فأجاد اللُّغة الفرنسيَّة إجادةً تامًّة لكنَّه لم يُكمل تعليمُه الثَّانوي. صارت القراءة حياته، فأهمل مُستقبُله التَّعليمي، وهجر الدِّراسة دُون أنْ يحصُل على أيّة شهادات. وإذا كانت حرفة الأدب قد حالت دُون حُصُوله على شهادةٍ ما، فإنهَّا قد أدَّت إلى فصله من وظيفةٍ قد التحق بها بالبنك العقاري المصري في عام 1920م، فشغلته قراءة كتب الأدب عن وظيفته. وتكرَّرت تحذيرات رُؤسائه، لكنَّ القراءة كانت قد أصبحت – في حياته – إدمانًا، ففصل من عمله. وعانى بعد ذلك قسوة البطالة والتَّشرُّد، وإنْ لم يمنعه ذلك من التَّردُّد على دار الكُتُب صباح كُلّ يوم، لا يُغادرها إلَّا في موعد الإغلاق. يقرأ لمُجرَّد القراءة و التَّثقُّف. وظلّ على تلك الحال ثلاث سنوات.
ثُمَّ عاد «إبراهيم المصري» – ثانية – إلى الوظيفة. أعادُته إليها مصادفة قاسية، فقد مات شقيقه الأصغر – وكان مُدرِّسًا للُغة الفرنسيَّة في أحد المعاهد الخاصَّة مُتأثِّرًا بمرض السُّلِّ الرِّئوي – فعرض مُدير المعهد عليه أنْ يعمل بوظيفة أخيه. وظلّ في ذلك المعهد سنوات، فأتاح له الاستقرار النِّسبي أنْ يكتُب العديد من المقالات والدِّراسات، بعث بها إلى «البلاغ» فنشرت، ولفت إليه أنظار المُثقَّفين، فعرف أنَّه يسير في الطَّريق الصَّحيح.
عرف طريقُه إلى الصِّحافة فعمل ما بين 1930م و1940م بجريدة «البلاغ»، ثُمَّ انتقل إلى العمل في «دار الهلال». ثُمَّ استقر بالعمل في مؤسَّسة «أخبار اليوم»، وحرصت تلك المُؤسَّسة على تقديمه كأحد نُجُومها، وظلّ مُحتفظًا بمكانته فيها إلى نهاية عُمْره.
ولمَّا كان «إبراهيم المصري» صاحب رسالة تنويريَّة، ففي عام 1927م اشترك مع صديقه «زكي طُليمات» (1894 ــــ 1982م) في إنشاء مجلَّة «التَّمثيل»، وفي1930م اشترك مع «إدوار عبدُه سعد» في إنشاء مجلَّة «الأُسبُوع»، وفي عام 1937م أصدر هُو نفسُه مجلَّة «الأدب الحي»، قدَّمها مجلَّةً: «لكُلِّ أديب مُستنير الذِّهن، مُتحرِّر الفكر، عصري النَّزعة، لم يشخ عقلُه وقلبُه على فهم الأدب على أنَّه رسالة سُمُو إنساني، وإصلاح اجتماعي».
مارس «إبراهيم المصري» الكتابة القصصيَّة مُنذ عام 1920م، ونشر في فبراير من نفس العام أوَّل أعماله في مجلَّة «السُّفُور»، وكانت قصَّة بعنوان: «سُخرية المُيُول». أمَّا مجمُوعاتُه القصصيَّة فقد تعدَّدت وتكرَّر طبع بعضها ولقيت ترحيبًا من النَّاشرين والقُرَّاء على حدٍّ سواء، فنُذكر منها: «قُلُوب النَّاس» (1947م)، وقد ترجمت إلى اللُّغتين الإيطاليَّة والفرنسيَّة، و«كأس الحياة» (1947م)، و«الغيرة» (1956م)، و«الأنثى الخالدة» (1957م)، وقد ترجمت إلى اللُّغة الإيطاليَّة، و«صراع الرُّوح والجسد» (1961م)، و«قلب عذراء» (1962م)، و«الباب الذَّهبي» (1963م)، و«صُور من الإنسان» (1965م)، و«الكأس الأخيرة» (1969م)، و«صراع مع الماضي» (1967م)، و«أغلال القلب» (1972م)، و«الشَّاطئ والبحر» (1973م)، و«الوجه والقناع» (1973م)، و«خُبز الأقوياء» (1974م)، و«أغلال الجسد» (1974م).
عندما أصدر «إبراهيم المصري» مجمُوعته القصصيَّة: «نُفُوسٌ عاريةٌ» (1960م) بدأها بمقُولة الكاتب الرُّوسي الشَّهير «مكسيم غُوركي» (1868 – 1936م): «إنَّ أمتع دراسة في الحياة، هي أن تستطيع رُؤية النُّفُوس البشريَّة عارية من كُلِّ قناعٍ». ويقُول «فوزي سُليمان» في كتابه: (إبراهيم المصري.. حياتُه وأدبُه، القاهرة، شبرا مصر، مطبعة النَّصر، 1965م): «إنَّ إبراهيم المصري لا يكتُب ليعبث، ولا يكتُب ليُسلى، بل يكتب ليستخرج من منجم الحياة معادن بشريَّة، فيها الخير كما فيها الشَّر، وفيها الجمال كما فيها القُبح، وفيها الفرح كما فيها الألم، وفيها قبل كُلّ شيء ذلك التَّوق العجيب إلى التَّفوُّق والاستعلاء الكامن في أعماق النَّفس الإنسانيَّة، والذي قد ينحرف فينزع إلى الأنانيَّة والهدم والتَّدمير، أو يستقيم فيتطلَّع إلي التَّخلُّص من ربقة النَّظرة ونوازع الشَّهوة ومُغريات الحواس، كي يتَّجه نحو الحُبّ الكامل والتَّضحية الخالصة، وعالم الرُّوح والوجدان والضَّمير. ففنِّ إبراهيم المصري هُو فنّ واقعي ومثالي، يُصوِّر الحياة، ويرتفع بها، ولا يعرض أمامنا مآسيها وشُرُورها، إلَّا لينفِّذ منها إلى تلك القُوى المعنويَّة المُتأصِّلة فينا، والتي تدفع بالكثيرين مِنَّا، إن طوعًا وإن كُرهًا، إلى طلب عالم أفضل من عالمنا، والبحث عن قيم أغلى وأثمن من القيم المصلحيَّة والشَّهويَّة الوضيعة، التي نُنفق – عادة – في التَّهالُك عليها، صفوة جُهُودنا وأعمارنا».
وقد أحصى له الدُّكتور «حمدي السكوت» في موسُوعته عن الرِّواية العربيَّة روايتين، هُما: «خريف امرأة» (1944م)، و«أرواحٌ ظامئةُ» (1973م). وفي الوقت نفسه تعاون مع فرقة رمسيس المسرحيَّة بقيادة «يُوسُف وهبي» (1898 – 1982م) وكتب بعض مسرحياتها، ومنها: «الأناشيد» (1923م)، و«نحو النًّور» (1932م).
وللأديب «إبراهيم المصري» كتابات شائقة عن بعض الجوانب الإنسانيَّة في شخصيَّات بعض المشاهير، وقد عُرف بأنَّه ركَّز فيها على التَّاريخ العاطفي، ومنها: «عشرة من الخالدين»، «قُلُوب الخالدين»، و«في موكب العظماء»، و«الحُبُّ في حياة العُظماء»، و«الحُبّ عند شهيرات النساء»، و«قُلُوب النَّاس». وله كتابات في النَّقد والدِّراسات الأدبيَّة، ومنها: «تاريخ الحُبّ ورسائله الخالدة».
لقد حفلت كتاباته برُوح إنسان راق، وبقُدرة على فهم العاطفة، وتحليل النَّفس الإنسانيَّة، مع ميل واضح إلى الانحياز باتجاه القيم العُليا، والسُّمُو النَّفسي، وتباعد مقصُود عن الرَّذيلة والشَّهوة العارمة.
كما أنَّه قد تأثَّر بالأسلُوبين: الواقعي والرُّومانسي، وتميَّز بنزعةٍ تحليليَّةٍ قادرةٍ على وصف مشاعر المرأة وتحليل مواقفها في الحُبّ والحياة، وكان يُجيد توظيف ثقافته وخبرته الأدبيَّة في التَّحليل النَّفسي والانطباعي لمواقف الحياة العاطفيَّة.
ومازالت مجمُوعاته القصصيَّة الكثيرة تُقرأ لما فيها من نظراتٍ صحيحةٍ وتماسُكٍ وحبكٍ، وغوص في بواطن النَّفس مع جمال العرض وطرافة العبارة وشاعريَّتها، إلى جانب ما أسبغه عليها من تأمُّلات وعطف كبير على كثيرٍ من شُخُوصها المُنتمين إلى الطَّبقات المُتدنِّية، وقد اتَّحد حسُّه وعقلُه في تصوير مشاهد الحياة الحافلة بالتَّقلُّبات والمُفارقات.. وهُو من القلائل الذين خبرُوا سرائر المرأة وأبانُوا عن خفاياها الغامضة.
وتكريمًا لعطائه المُتدفِّق في الأدب والصِّحافة منحه الرِّئيس المصري الرَّاحل «مُحمَّد أنور السَّادات» (1918- 1981م) جائزة الجدارة في احتفال عيد الفن في عام 1976م، قبل أنْ يرحل عن دُنيانا بثلاث سنوات في 13 من أُكتُوبر (تشرين الأوَّل) عام 1979م.
—-
* كاتب وباحث مصري.