بعد مرور ما يقرب من عشرين عاما من ظهور “البرزخ”، أولى روايات سمير ساسي وأشهرها، التي نشرها أوّل مرّة في لندن سنة 2003، ثمّ في تونس سنة 2011 تحت عنوان آخر وهو “برج الرومي، أبواب الموت”، بعد رفع منع النشر عنها، ما يزال المؤلّف ينبش بمتعة في ذات الحفرة، ولم يتزحزح عنها قيد أنملة، فهو حتى الآن، لا يزال يبحث في ذات الحقل الأدبي، كشكل من أشكال المقاومة ضد الثقافة الاستعمارية المتجذرة بعمق في جذوع النظام التونسي، وعلى وجه التحديد ضد المبادئ التوجيهية للسلطات المتعاقبة منذ فجر الدولة الوطنيّة الساعية، بالإعتماد على ما لديها من قوّة، ناعمة ومتوحّشة، إلى إدامة هيمنة المستعمر المقنّع واستمرار وجوده لفترة طويلة، فهي قوّة ناعمة تنظم أنماط التفكير والوطنيّة لغالبية المجتمع التونسي بواسطة الإقناع في داخل مؤسسات التعليم والفنون والأسرة، وهي قوّة متوحّشة يتم فيها الإغتصاب الفكري بواسطة مؤسسات القضاء والجيش والشرطة والسجون.
من خلال رواياته اقتحم سمير ساسي، واقع مجتمعه المستسلم للقمع، متّخذا نهجًا شاقًا لجهده، فالتقط في عمله الأول، الذي كانت فيه حياته المصدر الرئيسي للإلهام، تفاصيل التعذيب الذي طال الإسلاميين في عهد زين العابدين بن علي طيلة وجوده في السلطة التي اغتصبها اعتصابا لنحو ثلاثة وعشرين عاما، وتطرّق في روايته الثانية “خيوط الظلام” إلى مسألة إهمال السلطة لمسؤولياتها في خدمة مصالح المواطنين في عهد الحبيب بورقيبة الذي أطيح بحكمه بعد فترة دامت أزيد من ثلاثة عقود. ثمّ عاد مرّة أخرى إلى سنوات الجمر أيّام حكم “بن علي”، وخاض، في روايته الثالثة “بيت العناكش”، في مسألة التحرش بسجينات التيّار الإسلامي المفرج عنهن والخاضعات للمراقبة الإدارية وما تعرّضن له من تعذيب واغتصاب وإهمال صحّي في السجون. أمّا في روايته الأخيرة “جنون رجل عظيم”، وهي الرواية التي أعقبت روايته “المغتصبون” موضوع بحثنا، فيكفي أن أشير إلى أنّ مضمون التصدير مقتطف من مقولة لعبد الرحمان منيف مؤلف “شرق المتوسّط” الرواية الشهيرة في أدب السجون: “السجن والاستبداد في البلاد العربية يضعانك على مشارف الجنون” حتّى نفهم الغرض منها.
وإذا كانت الأعمال الأدبيّة لا تولد من فراغ، كما يقال، وإنّما يتم إنتاجها بناءً على قضايا ملهمة حدثت أو تحدث في المجتمع، اجتماعية كانت، أو ثقافية أو اقتصادية أو سياسة، لكونها انعكاسًا لواقع المؤلف الاجتماعي وشكلا من أشكال تأمله وتفاعله معه، فماذا بخصوص كتابات سمير الساسي الأخرى في غير الحقل الأدبي، أطروحة دكتوراه: “مشروعية السلطة في الفكر السياسي الإسلامي المواطنة بين الديني والسياسي عند برهان غليون”، وكتابه الأكاديمي:”الدعاء والسياسة تحرير الفضاء العام في الإسلام”؟ إنّ تضمين لفظة السياسة نجدها في العناوين على مرأى العين، وكأنّه لا يوجد سوى شيء واحد جذّاب ومثير للاهتمام يستحقّ تسليط الضوء عليه ومراكمة الكتابة فيه، موضوع واحد علاقة الحاكم بالمحكوم. وأمام هذه الحقيقة، يمكننا القول دون تردد، إنّ جملة كتابات سمير ساسي الأدبية تندرج، حتّى تاريخ كتابة هذا البحث، ضمن نوع واحد وهو “الأدب والسياسة”، وما أدب السجون إلّا جزء يسير يتواجد داخله.
فما الذي يجعله متعلقا بهذه التيمة إلى هذه الدرجة؟ هل هي الإيديولوجيا وإنتماؤه إلى المعارضة السياسية الإسلامية؟ أم هو الألم الساكن في قلبه قد لازمه دون أن يفارقه، منذ أن كان فتى يرتدي الزي الطلابي إذ أنّه لا يقف إلى جانب الجماعة المضطهدة مراقبا فقط وملاحظا، بل مشاركا أيضا، بصفته سجين إسلامي سياسي قضى عشر سنوات في الإعتقال بتهمة الانتماء لحزب سياسي، وكل أساليب ووسائل التعذيب القاسي والتجاوزات غير الإنسانيّة قد مورست عليه فعليا ونسجت نسجا في ذاكرته، وكل الانتهاكات الوحشية قد لامسها من قريب؟ أم أنّ حجم المعاناة واستمرارها كانت أضخم من أن يتناوله عمل واحد، خاصة بعد أن اتّهم بالارهاب في زمن ظنّ فيه المواطن التونسي أنّه قد تحرّر من كل القيود.
يقول سمير ساسي متحدّثا عن كتابه برج الرومي: “الأجواء داخل السجن كانت تفرض علي أن أضع تفاصيلها، ليقف القارئ على حجم المعاناة وحتى تظل هذه التجربة المريرة راسخة في الذاكرة وترتقي إلى مصاف التجارب الإنسانية”، من الممكن أن يعني ذلك أنّ التكرار بشكل دوري إصرار ورغبة ملحة في إصلاح مجتمع سلبي متضرر من الاستبداد، بتثقيفه ورفع درجات وعيه، فضلا عن كونه تعبيرات من جراحه عن عدم الاستسلام للأنظمة المتسلّطة الفاسدة والواقع الرديء.
لهذه الأسباب مجمّعة، سنطرق نافذة “المغتصبون” وكلّنا وعي وإدراك بوجود انعكاس لخطاب سياسي في هذا العمل ومشاغبة سياسية فيه، وقبل أن نجليه، علينا أن نعيد التأكيد بأنّ هذه الرواية مثل سابقاتها تندرج ضمن نوع “الأدب والسياسة” وتحديدا في جنس “الرواية السياسية”، ولكن لا ينبغي أن نغفل عن كون التصاق سمير ساسي بهذه التيمة هو من الإلتزام الأدبي الذي اقترحه جان بول سارتر في كتابه “ما الأدب؟” كشرط للكاتب، وهو أن يكون فاعلا في مجتمعه يشارك الأحداث التي تجري فيه دون تحفظ، ويساهم مع شعبه في تحقيق الحلم المشترك، بما في ذلك من عناصر المخاطرة التي يخوضها المؤلف وتلزمه بتحمل عواقبها. لقد فعل ذلك جورج أورويل (George Orwell) ألقى الضوء بشكل كبير على العديد من القضايا المتعلقة بالحياة السياسية للإنسان في “مزرعة الحيوان” و “1984”. وهو معروف على نطاق واسع بآرائه ومواقفه ضد الحكومات المستبدة، قضى حياته كلها يتحدث عن الطغاة.
فما المقصود بالسياسة؟
هناك من يرى أنّ الأدب السياسي هو الأدب الذي يتخذ من جدلية العلاقة بين الحاكم والمحكوم موضوعا له، والذي يتجلّى في موضوعات شتّى تشتبك بالواقع السياسي مثل إساءة استخدام السلطة والفساد السياسي والممارسات الحزبية وحقوق المواطنة والحق في العمل وغير ذلك من الموضوعات التي تدخل في صميم العلاقة بين الإدارة السياسية للدولة والمواطن. وبعض الدراسات تقدّم الروايات السياسية كمثال للأدب المكتوب حول والاستبداد والقمع وكل ما يتعلق بالسلطة والدولة ومؤسساتها.
ويعرّف الكاتب والمؤرخ الأمريكي إيرفينغ هاو (Irving Howe) “الرواية السياسية” بأنها “رواية تلعب فيها الأفكار السياسية دورًا مهيمنًا أو يكون فيها الوسط السياسي هو الإطار المهيمن”.
ويقول ستيندال في كتابه “تشارترهاوس بارما”: “السياسة في العمل الأدبي تشبه طلقة مسدس في منتصف حفل موسيقي، شيء صاخب ومبتذل ولكنه شيء لا يمكن رفض انتباه المرء إليه. “
ويكتب ريتشارد سنايدر (Richard Snyder): “تعتبر الرواية السياسية مهمة لطالب الأدب باعتبارها جانبا من جوانب فن الرواية، تماما كما هي الرواية النفسية أو الرواية الاقتصادية. ولكنه مهم في سياق أكبر أيضًا. إن القارئ الذي يريد تسجيلاً حياً للأحداث الماضية، أو نظرة ثاقبة لطبيعة الكائنات السياسية، أو التنبؤ بما ينتظرنا، يمكنه أن يجد ذلك في الرواية السياسية. وباعتبارها شكلاً فنيًا وأداة تحليلية، فإن الرواية السياسية، الآن كما كانت دائمًا، تقدم للقارئ وسيلة لفهم جوانب مهمة من المجتمع المعقد الذي يعيش فيه، بالإضافة إلى سجل لكيفية تطوره.”(3) ويضيف في مكان آخر: ” هنا تُفهم الرواية السياسية على أنها كتاب يصف أو يفسر أو يحلل الظواهر السياسية بشكل مباشر.”(4)، فيما يؤكّد آخرون أنّ “العلم السياسي هو العلم الذي يركز على الصراع من أجل اكتساب السلطة والحفاظ عليها، أو ممارسة السلطة، أو التأثير على الأطراف الأخرى أو معارضة ممارسة السلطة”، وهي وفق تعريف جوزيف بلونتر “كتاب يصف ويفسّر ويحلّل ظاهرة سياسية”.
ويمتد تاريخ الأدب المتشابكة جذوره مع السياسة إلى آلاف السنين. نجد آثاره في قصة سنوسرت (سيزوستريس، Sésostris) الأول ابن أمنمحات الأول، ثانى ملوك الأسرة الثانية عشر على حكم مصر (1971-1926ق.م) المضمّنة بقطع من الورق البردي مكتوبة بالهيروغليفية. ومن القرن الثالث عشر، روايات كريتيان دي تروا (Chrétien de Troyes) ، ومنها رواية “لانسلوت”(5)، حيث يذكر مارتن أوريل، مؤرخ العصور الوسطى، في دراسته فكرة السياسة في الرواية الأرثرية (1175-1225م)(6) أنّه حوالي عام 1200، في قلاع الطبقة الأرستقراطية الغربية وفي عديد الأمسيات، كانت الروايات تقرأ بصوت عالٍ على الملك آرثر وفرسانه.
ومنذ أواخر القرن التاسع عشر، ظهرت المقاومة السردية في شكلها الروائي الحديث كأداة انتقاد للأنظمة والأيديولوجيات، وكأداة للتحليل النقدي للمجتمع. “كوخ العم توم” لهارييت بيتشر ستو (Harriet Stowe)، “كونينغسبي” لبنجامين دزرائيلي (Benjamin Disraeli)، “الآباء والأبناء” لإيفان تورجنيف (Ivan Turgenev)، “فيليكس هولت الراديكالي” لجورج إليوت (George Eliot) الاسم الأدبي لماري آن إيفانس، “الشرط الإنساني” لأندريه مالرو (André Malraux)، “الأميرة كاساماسيما” لهنري جيمس (Henry James)، “تحت عيون غربية” لجوزيف كونراد (Joseph Conrad)، “ظلام في الظهيرة” لآرثر كيسلر (Arthur Koestler)، “مقاطعة كولومبيا” لجون دوس باسوس (John Dos Passos)، “الهواء المضطرب” لإروين شو (Irwin Shaw)، “لمن تقرع الأجراس” لإرنست همنغواي (Ernest Hemingway)، “مهمة الأحمق” و”طوب بلا قش” لألبيون تورجي (Albion Tourgée)، “العقب الحديدية” لجاك لندن (Jack London)، “فساد الوظيفة” لهاملين غارلاند (Hamlin Garland)، “شجرة البرقوق” لديفيد جراهام فيليبس (David Graham Phillips)، “الشاطئ البربري” لنورمان ميلر (Norman Mailer)، “رحلة إلى الهند” لإدوارد فورستر (Edward Forster)، “عالم جديد شجاع” لألدوس هكسلي (Aldous Huxley)، “إبك البلد الحبيب” لآلان باتون (Alan Paton)، “البيت والعالم” للشاعر البنغالي روبندرونات طاغور، “الفناء الملعون” لإيفو أندريتش (Ivo Andrić)، “مكيافيللي الجديد” لهربرت ويلز (H. Wells)، “أن تكون حاجًا” لجويس كاري (Joya Sherrill)، “كل رجال الملك” لروبرت بن وارن (Robert Penn Warren)، “الممتثل” لألبرتو مورافيا (Alberto Moravia)، “الجنة لا تدفع أرباحًا” لريتشارد كوفمان (Richard Kauffmann)، “وكيل رئاسي” لأبتون سنكلير (Upton Sinclair)، “البرتقالة الآلية” لأنتوني برجس (Anthony Burgess)، “سيد الذباب” لويليام غولدنغ (William Golding)، “لقتل الطائر المحاكي” لهابر لي (Harper Lee)، “عناقيد الغضب” لجون ستاينبيك (John Steinbeck)، “نجمة” لكاتب ياسين، وفي الرواية الحديثة يكفي أن نذكر “نار الدار” للكاتبة البريطانية ذات الأصول الباكستانية كاملة شمسي، وقد ظهرت الدراسات النقدية الأدبية المكرسة لهذا الصنف من الأدب في منتصف القرن العشرين في سنوات الأولى بعد الحرب العالمية الثانية.
أمّا الروايات السياسية التونسية فهي تقدم بانوراما لمجرى التحوّلات السياسية والإجتماعية بداية من مرحلة الإستعمار إلى وقتنا الراهن. كانت رواية “طوماس” لسليمان الجادوي (1881-1951)، هي أول رواية سياسية، غلب عليها “النقد الصريح للسياسة الاستعمارية المنتهجة في القطاع التربوي والدعوة إلى مواجهة المحتل”(7). كما أن روايته السياسية الأخرى “دي كرنيار”(8) تندرج أيضا ضمن نفس الاتّجاه النضالي.
فإذا استثنينا من هذه الورقة الروايات السياسية التي تستعمل الرمز للانتقادات السياسية المحجبة ولإزالة الغموض عن العلاقة المتباعدة بين النص والواقع، وكذلك تلك التي تغوص في أغوار التاريخ، وهي كثيرة، وجدنا أن روايات ما بعد الإستقلال تعيش حلم اليقظة، يوتوبيا الدولة الوطنية الوليدة، “ومن الضحايا”، “حليمة” و”التوت المر” لمحمد عروسي المطوي، “حبّ وثورة” لعبد الرحمان عمار (ابن الواحة) ، “المنعرج” لمصطفى الفارسي، و”يوم من أيام زمرا” لمحمد صالح الجابري، “الزيتون لا يموت” لعبد القادر بالحاج نصر، روايات تعبر عن ارتباطها بالدولة القومية وتخدم سياستها في التحديث وفق سرديتها في تشكيل الهوية الوطنية والتعبير عن حياتها الفكرية ووحدتها الوطنية. لقد لونت الهوية الوطنية والجماعية نطاقًا هائلاً من أنماط كتابة فترة ما بعد الاستقلال مباشرة. ولكن الروايات عمليّات تخيّلية، والممارسات السياسية الحقيقية المرتبطة بالدولة وزعيمها الحبيب بورقيبة واقعية ومضلّة. كانت لدى الرئيس إيديولوجية معينة يريد أن يجعلها مهيمنة بالاعتماد على الأفكار الغربية، من خلال سياسات تحديث الدولة ومن خلال اتهام النخبة المناضلة بالخيانة السياسية للمجتمع، سعى إلى سيادة مجموعة اجتماعية وهيمنتها الإقتصادية والثقافية على المجموعة الوطنية وإخضاعها أو تصفيتها بقوّة السلاح، تركت تلك الهجمات أضرارا جسدية ونفسية على المجتمع.
وإذ تغيرت التوجهات السياسية لصالح فكرة المستعمر إلى حدّ محاكمة وإغتيال الرموز الوطنية الرافضة رفضا صريحا للبنود التي تحتوي عليها وثيقة الاستقلال، وتواترت الهزات السياسية كالخميس الأسود، تغيرت معها التوجهات الأدبية ومضامينها السياسية، فروايات مثل “ليلة السنوات العشر” لمحمد صالح الجابري، و”من حقه أن يحلم” لمحمد الهادي بن صالح، حاسمة في اعترافها بالحقائق المرّة، تنحرف عن السرد الوطني، لم يعد لنضالات الشعب وسلاح المجاهدين ما يمكن تمجيده بعد أن أعلن بورقيبة بأنّ سلاح أولئك الفلاقة صدئ غير قادر على إخراج دبابة واحدة للمستعمر، وأنّه هو من أخرجهم بواسطة ذكائه وحكمته السياسية. لم يكن الجنود، إذن، هم مصدر خلاص بلدهم من الاحتلال، لقد كان بورقيبة وحده، فهل حقا تخلصوا من المستعمر أم هي مجرد حيلة وخداع ولون آخر منه؟ وما هو المقابل؟ هل باع الوطن وأعاد إحلال نفس المستعمر بشكل جديد مقابل سلطة زائفة؟
لقد أظهرت سياساته التعليمية والإقتصادية والثقافية المنحازة إلى النموذج الاستعماري أنّها عقيمة، لم تثمر سوى التدهور والتخلف الحضاري، ولعل الأهم من ذلك أنّ عمليات تنقيبه وتشخيصه مظاهر التخلف الموروثة عن عهد الاستعمار لغاية مقاومتها والقضاء عليها قد انتهت به إلى الاجتثاث الكلي لجذور ومقوّمات هوية التونسي، وأظهرته كحارس خلفي للاحتلال، ممّا أسفر عن موت الدولة الوطنيّة وقيامة الدولة الأمنيّة. وليس من المستغرب أن نرى الروايات السياسية القادرة على إدانة الواقع بشكل صريح وواضح وليس فقط بشكل مجازي، في ظل تلك الأوضاع وفي ظلّ الرقابة على ما ينشر، ترتدي طاقية الإخفاء وتختفي من المشهد الأدبي إلى حلول الثورة على مغتصب السلطة، إلّا القليل منها(9). حيث ظهرت السياسة تحت ستار قضايا التطرّف الديني والجنس، متخطية التعبير عن أي انتقاد أو الإشارة إلى أي انحراف سياسي.
في السنوات التي أعقبت الثورة، زادت كميًا، نشر العديد منها في فترة قياسية، نذكر منها: “الخنساء في سجن النساء” لعز الدين جميل، “أززلف” لفتحي بن معمر، “الغبراء والخلاف” للمنصف الوسلاتي، “صباط الظلام” و”حربوب: بصمات على جدار الزمن” لمحمد التومي، “اليد الصغيرة لا تكذب” لعبد الحميد الجلاصي، “الحبس كذّاب والحي يروّح: ورقات من دفارت اليسار في الزمن البورقيبي” لفتحي بن الحاج يحيى، “سارق الطماطم أو زادني الحبس عمرًا” للصادق بن مهني، “كريستال” في حلتها العربية لجلبار نقاش، “كسر شر، ما لم ينشر بملفات الهيئة” لكاتب هذه السطور وأخيرا وليس آخر، رواية “المغتصبون” لسمير ساسي موضوع هذه القراءة.
في التنبيه حدّد المؤلف بنفسه زمن الحكاية وتاريخها، وهي كما أخبرنا بذلك حادثة وقعت في تسعينيات القرن الماضي، أي في فترة حكم “مغتصب السلطة” بعد الحبيب بورقيبة، والشخصيات المهمة التي ركّز عليها الكاتب هم أفراد عائلة تونسية التي تتكوّن من أب وأم وأطفالهما الثلاثة دون أن يسميهم، ولكن ما قاله الكاتب بالإجمال فصّله السارد العليم، كلّي المعرفة.
منذ البداية، حاول المؤلف مخاتلة القارئ بأن وضع مسافة محايدة للتفريق بينه وبين سرد الحكاية، طريقة مثلى للإيهام بأنّ من يروي القصة ليس هو الكاتب نفسه، حتّى وإن كان الراوي يتحدث بضمير المتكلم كالسارد الشاهد، لكن خدعته تلك، غير المموّهة جيّدا، لا تنطلي علينا، فضحتها العبارات الكاشفة والإشارات الموحية المبثوثة في نصّ الخطاب السردي. هناك حالتان تسلطان الضوء على حضور المؤلف في الرواية الذي حل محل السارد، الأولى نستشفّها في التناص القرآني، ففي التنبيه الموقّع باسمه الشخصي، الذي يشير إلى المصدر الذي ينهل منه المؤلف، وبالمثل، فهو يؤشّر أيضا إلى الذات الساردة الوارد في مضمون النصّ، شخصية متدينة مسلّحة بالإيمان. يقول الكاتب في التنبيه: “عائلة (…) حدثت معهم قصّة عجب، من أراد أن يتبع تفاصيلها فلا يسألنّي عن شيء حتّى أُحدث له منها ذكرا”(10) وهو إسترجاع لمقولة الخضر في سورة الكهف: (فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا)، أمّا في متن الرواية فقد جاء على لسان السارد قوله: “فصمتوا كأنّما نزع صوتُه ألسنتَهم فهم لا يتكلّمون (…) وتبوّأ كلّ مقعده (…) وهل أطيق صبرا حتّى أعرف ما حكاية الرجل (…) رمى الرجل ببصره نحو الأفق فلم يرتدّ إليه (…) حدّثنا عن فعلتك التي فعلت (…) وزيّنت له نفسه تجاهله (…) الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها العذاب (…) وجاس خلال الديار (…) ويخفي في نفسه ما لا يبديه لهم (…)كان الرجل يتميّز من الغيظ (…) هل تغنى عنّي أسئلتي هذه من الأمر شيئا (…) لا يشربون خمرا ولا يزنون، ومن يفعل ذلك يلقى عنتا كبيرا (…) وزينوا لهم أعمالهم (…) أينما ولّيت وجهك فثمّة مقهى (…) مثنى وثلاث ورباع…”، ممّا يعني أنّ السارد والمؤلّف كلاهما ينهلان من منبع ديني واحد. بالإضافة إلى هذه الحالة المثيرة للاهتمام ومتى قارنا بين وجهات النظر السياسية للسارد والمؤلف المعبر عنها في رواياته السيرداتية المنشورة ومواقفه من القمع والاضطهاد والطغيان وتدخلات السياسة في المؤسسات العقابية التي تلقفتها وسائل الإعلام والمواقع الإلكترونية، نجدها متطابقة. ومع ذلك يمكننا أيضًا العثور على أفكاره جامحة في متن هذه الرواية، في الفقرة التالية، يبرز تدخل سمير ساسي فاضحا سافرا حينما يعقب على كلام الراوي المتحدث بلسان الشخصية الرئيسية، أحمد بن محمد التونسي، يقول الراوي: “أنت من سجنتك منذ عشرين سنة وكتبت في ملفّك أنّك سارق دجاج…”(11) فيوضّح المؤلف: ” »سارق دجاج «صفة تُفرض على كلّ سجين سياسي حين دخوله السجن في ذاك الزمن، وقد كنت واحدا منهم حين دخلت سجن العاصمة قادما من زنزانات الشرطة المركزية، استقبلني جلّادون كثيرون، كأنّني كنت السجين الوحيد القادم إليهم أو المقيم في سجنهم،أو كأنّ لا سجين آخر يهتمون له غيري، استقبلوني وسألوني عن سبب جلبي إلى السجن فقلت: إنّني كنت قياديا في الحركة الطلّابيّة… وخيّم صمت لم يطل قبل أن تنزل العصي والصفعات متتالية كالمطر على جسدي (…) نزعت ثيابي نزعا حتّى عدت كما ولدتني أمّي، وجرّني على الأرض جلّادان (…) كانت العصي والصفعات تترا، وكنت أكرّر ما قلت ولا أفهم، حتّى صرخ في وجهي أحدهم وطلب منّي أن أقلّد صوت الدجاج، فليس في سجنهم قياديّ ولا سياسيّ ولا طلّابيّ ولا…»عندنا سارق دجاج فحسب«”(12). المقطع القصير الجانبي المضمّن في الرواية، والذي يقع في نطاق خارج الموضوع الرئيسي، لم يروه السارد الذي اكتفى بنقل حوار أحمد بن محمد التونسي مع الجلّاد، بل أورده المؤلف بكل انفعالية ذاتية، وانفجار لمشاعره المحاصرة بالماضي، وسمير ساسي كان من القيادات الطلابيّة حينما تمّ اعتقاله في تلك الفترة، ومادام لم يقم بوضع هذه القصة العرضية في الحاشية فقد منح بذلك روايته صفة القصّة الإطارية، ربما عن وعي أو بدون وعي، والأمر ذاته يحدث مرّة أخرى عندما يقوم بشرح المثل الوارد بالعامية التونسية “خناب الدجاج فوق راسو ريشة”(13)، وكان الأجدى أن يثبّت تدخّله التوضيحي للقارئ الأجنبي في أسفل الصفحة، حارج المتن، حتّى لا يبدو الأمر كأنّه تنازع على سلطة الحكي بينه وبين السارد بشكل واضح وصريح.
إذن لا جدال في أنّ سارد القصّة الشخصية الأساسية المستبدّة في الرواية المغتصِب لخيط السرد هو المؤلف نفسه، المتعسّف على شخصيات روايته الساكنة في قلبها، والمهيمن بكل قسوة على القرّاء، إذ يأمرههم بأن لا يسألوه عن شيء حتّى يخبرهم به من تلقاء نفسه، وفي الوقت الذي يراه مناسبا، ويتعالى عنهم بأن يفرض عليهم طريقة تنزيل قصّته مقطّعة منجّمة كالقرآن، وعليهم هم إعادة تركيب المروي المعقّد بأنفسهم، وتشكيله من جديد على الوجه الذي يرونه صالحا، والأغرب من ذلك كلّه أنّه يمنح نفسه سلطة ونفوذا على القضاة ومحاميّ الدفاع، فيفتكّ منهم كل صلاحياتهم الوظيفية، ويلج قاعة المحكمة دون استئذان، ثمّ يغتصب ملفات القضايا للنظر فيها بنفسه من خارج دائرة القانون. لم يكن هذا الفعل جنونيا وقتها، وإن يكن فهو، كما سوف يتكشّف ذلك للقارئ تدريجيا حين تُطوَى قاعة المحكمة وترتفع أمامه سلطة السرد السحري في بناء الخطاب ولغته المصقولة، يعكس وجوب مراجعة استراتيجيات تحقيق العدالة المنتكسة بعد الثورة، وكأنّه يصرخ بأنّ تلك المقاربة، التي انتهجها الفاعلون السياسيون في مرحلة ما بعد الثورة، لا جدوى منها. إنّه الإحباط واليأس من إمكانية عودة الحقوق إلى أصحابها بعد التسوية بين الثورة والثورة المضادة، لقد كان كل ذلك مجرد كذبة، تمثيلية هزيلة سيئة الإخراج، كما يتجلّى في هذا المقطع الحواري عالي الدقّة في قاعة المحكمة قبل أن يقوم المؤلف بتغيير الشكل والأنتقال إلى الأسلوب الجديد:
“سأله القاضي: أأنت أحمد؟ أجاب بصوت خفيض: نعم، أنا أحمد بن محمد التونسي.أرسل القاضي عينيه في أوراق منشورة أمامه ثمّ تلا كلاما كثيرا من دون توقف، مسرعا كأنّه يدرك ألّا أحد في القاعة يهتمّ له (…) فهمت من الديباجة التي قالها القاضي أنّ هذه المحاكمة ليست كغيرها من المحاكمات، وأنّها تنتصب للنظر في أمر مصالحة جلّاد وضحيّة، وأنّ الرجل كان ضحيّة دعي ليسأله القاضي ماذا تريد؟ (…) صمت الرجل كأنّه لم يسمع سؤال القاضي’ أو سمعه وتجاهله، فانبرى أحد المحامين يستأذن القاضي ويقول: سيّدي الرئيس الأب لا يطلب شيئا…
– لماذا أنت أب إذن ما دمت لا تطلب شيئا؟
– لم أعد أبا مذ فعلوا بي ما فعلوا
– من فعل؟ وماذا فعل؟
– لقد ذبحوني
– ومازلت حيّا !”(14)
المزاح الثقيل لرئيس الدائرة القضائيّة المتخصّصة في العدالة الإنتقالية هو انعكاس للسادية، وإذا لم يكن الأمر كذلك، فلا يمكن أن يكون مأخوذا على محمل الجد. والسخرية من الضحيّة، مشتّتة للانتباه. وسؤاله عن الفاعل والفعل، فيما الإجابة عن كل تساؤلاته مثبّتة لديه في أوراق القضيّة، يكشف عن عدم جديته في إنفاذ القانون، ويفضح الدور المنحاز الذي يقوم به القضاء للتغطية عن ممارسات البوليس الفظيعة، فالجلّاد محصّن ضد العقوبة عن جرائمه المرتكبة قبل الثورة، وميزان العدالة مائل لصالح الإفلات من العقاب.
صوت ضحيّة الاستبداد السياسي الخفيض المتبّل بالذلّة والمسكنة، في الثلاث صفحات الأولى من الرواية، وصمته عن تقديم طلبات التعويض لجبر الأضرار تعبيرة أخرى عن خيبة أمله في استرداد حقّه واحتجاجه على واقع النظام السياسي الجديد الميؤوس منه، فعلى الرغم من حدوث تغيير في النظام السياسي في تونس، وصعود الإسلاميين إلى السلطة مع قيام الثورة، إلا أن القوى القديمة المنحطّة التي تسيطر على الدولة هي التي أُوكل لها إنصاف المظطهدين، وأغلبهم من الإسلاميين، في محاولة لشراء الخصم. عناصر الثورة المضادة هي التي تحدد أهداف التسوية السياسية التي تمّ التوصّل إليها وشروطها وأفعالها ومعناها السياسي، فكيف لمن كان قاضيا في إدارة النظام القديم، وواصل مهمته في إدارة السلطة الجديدة، أن يدين ضرب الناس واغتصابهم، ويرى في عمل الجلّادين جرما غير مبرر محمول عليهم تبعاته؟ وأن الضابط الذي يسيء استخدام السلطة هو مرتكب لجريمة؟
لم يشعر الضحايا من الإسلاميين، بقلق القضاة من الحقوق الضائعة في ظل حكومة الإسلاميين أنفسهم الذين يطلبون المساعدة من البيروقراطية السياسية والعسكرية المعادية لأهداف الثورة، من أجل الحفاظ على وجودهم السياسي في السلطة، وفق نفعية سياسية ومواقف إنتهازية شخصية وجماعية. هناك جانب من العدالة يحاول المؤلف شرحه للقرّاء من وراء القصّ، لقد تعرّضت هذه المجموعة من التونسيين مرّة أخرى للمظلمة والخيانة ولم تنتفض احتجاجا على وضعها تبعا لانضباط الحزبي، وكان الأولى بها أن ترجع في المقام الأول إلى ضميرها وليس خط الجماعة الحزبيّة. ومن هنا، وجب فتح دفتر جديد لمحاسبة جدّيّة وعادلة، في السرد لم يتم شرح ذلك بشكل صريح، ولكن نستنتج ذلك بالمعاني الضمنية المتجاوزة للمعنى المعجمي للغة النص، لقد وجد المؤلف حلّا عادلا لهذه المشكلة من خلال تبادل الأدوار بين الضحيّة والجلّاد.
استخدم سمير ساسي نفس فكرة مؤلف رواية “ماذا تنتظر القردة؟” (Qu’attendent les singes?) محمد مولسهول المعروف بالاسم المستعار “ياسمينة خضرا”، فغيّر دور الضحيّة أحمد بن محمد التونسي إلى جلّاد لجلّاده. في وسيلة التعبير الخاصة به، طمس المؤلّف على قلب شخصيته الورقية، ضغط بقوّة على فطرتها السليمة، انتزع منها الروح المسالمة المتخاذلة واستبدلها بروح قاسية كاسحة، أعطاها السلطة والنفوذ لتكون اليد العليا على “رمبو التونسي”، يد الحكومة القديمة وخادم أوامرها، للتنكيل به وإخضاعه للإهانة والإذلال. وبمجرد ارتدائه لسترة التحوّل، وصار قويا، كائنًا متفوقًا، سعى أحمد التونسي إلى تحييد ضعفه، إلى الحد الذي برزت فيه على دونية جلّاديه السابقين. في الاستشهادات التالية نلاحظ هذا التبديل الذي ينهي في بعض الجمل أثر الشخصية الذابلة، نستكشف القوة التحويلية للضحيّة ووضعها في موقف يخدم الأغراض السياسية من العجز إلى القوّة، ومن اللين إلى الصلابة، ومن الجبن إلى العزيمة والإصرار: “رمى الرجل ببصره نحو الأفق فلم يرتدّ إليه، وتبعته فولجت ظلاما حالكا لا أتبيّن فيه شيئا،(…) ، كنت أرى رجلا لم أتبيّن ملامحه يحاول أن يتسلّق جدارا ذا شوك ولا يبالي بالجراح التي تدمي يديه،كأن لا يد له أو كأنّه فقد الإحساس، كان الشوك ملتصقا بعضه ببعض لا تكاد تجد بين شوكتين فاصلا، وكان الرجل لا يشمّر ولا يجتهد في تجنّب الشوك، كأنّ الشوك كان يتألّم من مروره عليه. لم أر رجلا من قبل بمثل هذه الصلابة، وأنا الذي تأخذني قشعريرة إذا رأيت من يمشي حافيا حتّى داخل بيته، فكيف إذا كان يسير على الشوك ولا يهتمّ”(15)، وفي موضع آخر يقول: “قال الرجل وهو يمدّ يده تجاه رمبو بكل يسر كأنّه أمام ريشة وليس قطعة من جبل كما يظهر لي جسد رامبو: أنت الآن رهن أمري لا خيار لك”(16)، ويقول أيضا: “كان الرجل ماردا يقف في وجه رامبو كأنّما يذكّره بما كان عليه زمن سطوته على السجناء وهو يعذّبهم عذابا مهينا كما يفعل مردة الشياطين.”(17)
والرجل له اسم معروف، وهو أحمد بن محمد التونسي، لكن المؤلف الراوي عمد، وبطريقة واعية تمامًا، إلى محو هذا الاسم المقدّس وتغييبه لجذب اهتمام القرّاء إلى شخصيته الجديدة الشبيهة بالجلّاد، لكنها لا ترث صفاته الفاسدة وطموحه، فالسارد قام بتقديم الشخصيّة المتحوّلة بكيفية يصعب معها إجراء مقارنة واضحة بينه وبين الجلّاد، والتمييز بينهما، تطابق كلّي: الجلاد/ الضحية، المغتصِب/ المغتصَب. يقول الراوي: “أتبعت الرجلَ بصري فإذا به يدلف إلى غرفة فيها شخص (…) يجالس طفلة (…) حين دلف الرجل الذي أتبعته بصري (…) فزع الرجل ولم تفزع الطفلة”(18)، ومثلما جمع المؤلف الجلّاد والضحيّة في اسم مشترك أول، أي الرجل، جمعهما مرّات عدّة في اسم مشترك آخر وهو “الأب”.
قد يكون أحمد بن محمد التونسي ضحية في عهد الإستبداد السياسي زمن ابن على، ومن الممكن أنّه شخصية حقيقية تعيش في الواقع باسم آخر معلوم لدى الإسلاميين، استمع الكاتب لحكايتها من داخل فضاءات المحكمة، أو ممّا تناقلته الألسن من شهادات في ملفات هيئة الحقيقة والكرامة لتفعيل العدالة الانتقالية. الضحيّة، اغتصب ثلاثة جلّادين ابنته القاصر ذات الاثني عشر عاما أمام أخويها الصغيرين بعد دخوله وزوجته السجن، فجنّ ابنه الأول وتاه ابنه الثاني، فسعى إلى الانتقام.
قصّة عجب حقيقية، “طلقة نارية في منتصف حفل موسيقي” بتعبير ستندال (Stendhal)، في وصف تدخل السياسة في الأدب، أعاد المؤلف سردها بأسلوب أدبي أنيق، فهو يتمتع بمهارات لغوية وتعبيرية فائقة. الحكاية تحتوي من بين أمور أخرى على آلية نصية معقدة مقسمة إلى مساحتين الأولى تتكون من ثلاث صفحات، تجري فيها الواقعية الإجتماعية مجرى الدم، أمّا باقي صفحات الرواية فأسلوب كتابتها تندرج في إطار الواقعية السحريّة، فنطازيا عجائبية غريبة كغرابة الطريقة التي اعتمدها أحمد التونسي لتسديد ضرباته لجلّاديه.
في نظر الكاتب، الالتزام السياسي للضحيّة خلق منها شخصية سلبية، غير قادرة على الإنتصار لنفسها، على الرغم من القوّة والسلطة التي أُعطيت لها، فهي لم تكن حازمة بما فيه الكفاية، تفتقر إلى الجرأة والمواجهة العنيفة، وتنطوي في باطنها على ضعفها القديم وجينات تدجينها. بقيت معلّقة فلا هي تكيّفت مع وضعها الجديد فعاشت حملا مع الذئب، ولا هي ثارت لتغيير مصيرها، “ستنتظرني هنا من دون حراك إلّا من داخلك، سأعود إليك لأجد عندك نسيج الحكاية كلّها تقصّه عليّ أمام طفلتك، هكذا قرّرت أن يكون نصيبك من العذاب، أن تقصّ عليّ أمام طفلتك كيف اغتصبت طفلتي بنت الثانية عشرة حين كنت أنا وأمّها داخل السجن، ولم يكن معها سوى أخويها، وقد جُنّ أحدهما وتاه الآخر”(19)، هكذا هو حال العاجز الذي لا يملك مخالب يقطّع بها جلد أعدائه ومغتصَبيه، لا يعفو ولا يصفح ولا ينتقم أيضا، فبالرغم من ارتباطه بتنظيم سياسي، واجتماعه مع الأشخاص المظطهدين للحصول على حقوقه كاملة وبالقوّة، إلّا أنّ فكرته في الانتقام المتمثلة في ترك جلّاده دون عقاب فكرة ساذجة، “وسوست له نفسه أن يتركه يعيش لحظة الإنسانية تلك، لعلّها تزيد من عذابه، فوخز الضمير أشدّ درجات العذاب”(20).
هل كان أحمد التونسي يبحث حقّا عن الإنتقام؟ هذا السؤال الذي يطرحه الراوي على الضحية، في الصفحة 46، وهو جزء مهم من أساس الحكاية لم تتم الإجابة عنه، قفز فوقه المروي عنه وتجاهله، وهو سؤال وجيه، مع أسئلة أخرى سوف تخامر ذهن القارئ عندما يتصفّح الرواية وينشدّ إليها، نسوق منها ما أثار إهتمامنا: هل كان قَصَاصه، المتمثّل في إجبار الجلّاد رمبو على سرد وقائع جريمة اغتصاب ابنته أمام طفلته، عادلا وأخلاقيا؟ وهل أنّ ذاك الجزاء هو مِنْ جنس العمل؟
لكن هذه الرواية كتبها كاتب موهوب له تجاربه السابقة في هذا النوع من النصوص، وشخصية أحمد التونسي المختلقة هي في الأساس شخصية رمزية، تجسّد بصورة صارخة تداعيات العقل الباطن للمؤلّف وحديث نفسه الأمّارة بالسوء، ضجيج صمته غير المحايد ومشاعره المكبوتة، الشخصية التي تتحدّث باستمرار من خلال أفواه الآخرين، وبتعبير لوسيا ميلجار (Lucia Melgar) “صمت الضحيّة”(21) الهادر، يشرح هذا المقتطف ما يتمتّع به الكاتب الشخصية المركزية المشاركة في رواية الأحداث من قدرة عجيبة على اختراق جدر النفوس لشخصياته الورقية: “كنت كأنّني قرين الرجل، أسمع حديث نفسه أو يخيّل إليّ، كلّما هممت بقول شيء بادر الرجل إليه”(22). وبصورة خافتة، يجسّد أحمد التونسي جحافل الضحايا من الإسلاميين المسالمين الحاملين لأغرب الانتهاكات ليس أقلّهم ذاك المطمور تحت عمود جسر قنطرة في قلب العاصمة، “هل أعشق بلدا جسور الطريق فيه تخفي رجلا مات تحت التعذيب فلم يجد الجلّاد سبيلا لإخفاء جريمته إلّا دفن رفاته في أحد الأعمدة الخرسانية لجسر من الجسور الكثيرة في الوطن الكبير (…) كيف لي أن أعشق مدينة تجبر أمّا وزوجة أن تدوسا جسد من تحبّانه وتنتظران عودته من عشرين سنة، ولا تعرفان أنّه في نقطة ما من نقاط العبور التي تدوسانها كلّ يوم من دون أن تشعرا”(23)، أو تلك الانتهاكات التي نسج محمد عز الدين جميّل بخيوطها روايته “خنساء في سجن النساء”، وهذا المقتطف دليل جيّد إثبات الفرضيّة أعلاه: “لم يدرك أنّ الغريب كان من الجماعة الذين يقصدهم رامبو، أولئك الذين كان ينتشي بتعذيبهم ويسخر من كلامهم ويفرض عليهم أن يوقّعوا محاضر بحث لم ينطقوا بها.”(24)، وفي موضع آخر يخبرنا المؤلف وهو يقحم حكايته الخاصّة في إطار السرد: “كنت في السجن، حين كانت تمرّ بي ذكريات العصا والجلّاد وأفعالهم التي فعلوها بي وبمن معي”(25)، والقليل ممّا فعلوه في مَنْ معه من الضحايا أورده الجلّاد رامبوا في هذا الشاهد: “كنتم في نُكاتنا وحديثنا وأحلامنا وشرابنا وسهراتنا وفي مراكز العمل، نعذّبكم ولا نشفي منكم، نسبّكم ونسخر منكم كأنّ بنا حاجة إلى التحقّق من أنّكم صرتم بين أيدينا عاجزين عن الإنتقام منّا”(26).
ومن الطبيعي أن يبحث السياسيون عن القوة لتحقيق رغباتهم غير المحدودة، والتأثير على أطراف أخرى للتفكير والتصرف وفقًا لإرادتهم وأهدافهم، إذ أنّ الاتجاه العام للبشر، حسب قول توماس هوبز، هو الرغبة الجامحة في الحصول على المزيد من القوة، القوة التي ستنتهي في النهاية بالموت. غير أنّ المؤلّف هنا يسلّط الضوء على كيفيّة إكتساب الطغاة لتلك القوّة وإساءة استخدامها.
بنبرة ساخرة يعرض علينا سمير ساسي سلطة الجلّاد رامبو شخصية الشريرة التي تمّ تم إنتاجها من طرف الطغاة، والمتّصلة بأعلى سلطة في الدولة، سلطة الرجل ذي المواهب المحدودة الذي وقف القدر إلى جانبه فنال ثقة الرئيس بورقيبة كمدير للأمن الوطني، ثمّ كرئيس وزراء يأتمر الناس بأمره، لكن هذا الحظ لم يرض “بن علي”، كانت رغبته في الوصول إلى منصب الرئيس نفسه والاستيلاء على سلطته، فسارع إلى تسلّق كتفي القائد الأعلى المسن ثمّ ازاحه، وصفّق الإسلاميين لنتيجة هذا الصراع وكأنهم حققوا نجاحًا. بدا لهم الأمر كما لو أن نضالهم ضد الرئيس السابق لم يذهب سدى، أمّا عن التاريخ الأسود لمغتصِب السلطة فهو غير مهم وغير ذي صلة.
ورواية “المغتصبون” تُلقي الضوء على قضية أخرى مثيرة للإهتمام تتعلق بأهمية الماضي بالنسبة لضحايا الإستبداد المضطهدين، حيث يحتل الماضي مكانة بارزة في أذهان المقهورين منهم، لا يمكن التخلص منه بسهولة، فهو لا يزال يطاردهم، ولا يتحملون نسيانه. يخبرنا الراوي أنهم يعيشون في إطارين زمنيين مختلفين، أين يتجسد الماضي في الحاضر الذي جمع بين الذاكرة وجرح تاريخي لم يلتئم، ويؤثّر فيه، مهما حاولوا النأي بأنفسهم عنه فهو مستمر في العيش داخلهم، بينما الجلّاد الذي هو، كما دولته الوطنية المستبدّة، التي شبّهها نور الدين الغيلوفي بالنطفة الإستعمارية التي لا يعنيها من السكّان سوى ما يصلح لتدجينهم للسيطرة عليهم، لا يحمل في ذاكرته تاريخا، زمنه عبارة عن نقطة مميّزة، انتهى عندها الماضي وبدأ الحاضر من جديد من الصفر، ماضيه وضعه في حفرة للنسيان وطمرها، وطمر معه التسوية السياسية وملف المصالحة والتعايش السلمي بشكل نهائي، وهذا هو القهر بالنسبة إلى الكاتب، وهو الدافع لكي يتصدّى لإغلاق الشقوق العبثية في هذا الملف ومعالجة الإشكال بشكل صحيح من أجل تهدئة الصراع الداخلي الذي يقضم قلوب المغتصَبين باستمرار، يجب على الجلّاد المغتصِب، خطيئة الإستبداد والغطرسة، أن يذوق ما أذاقه للضحايا ولا يهنأ بالإفلات من العقاب أو يجد الراحة في حاضره ومستقبله.
ولأنّ كلّ هذا القهر يتطلب أسلوبًا سرديًا يستوعب الحقائق التي هي أغرب من الخيال ويثير الإدانة والتعاطف، فقد استخدم المؤلف سمير ساسي، في عمله هذا، الواقعية السحرية كذريعة للاحتجاج على تغييب العدالة ووسيلة لكشف مظلومية ضحايا الإستبداد ومقاومة الظلم المسلّط عليهم، ماضيا وحاضرا، بعد فشل اللجوء إلى الأساليب العقلانية لاسترداد الحقوق وتحقيق العدالة، وذلك عبر توريث سردية أفعاله المشينة لأطفاله وللأجيال القادمة حتى يجعله عالقًا في الماضي، غير قادر على التفاعل مع الواقع أو المستقبل.
مدفوعا برغبته في نسج عدالة مثالية متخيّلة متجاوزة للواقع المرير، لجأ المؤلف إلى أساليب استثنائية خارج متناول العقل البشري، خارقة للطبيعة باعتبارها البديل الفعّال للأزمة السياسية المتوتّرة، حيث الراوي له “صوتان” يصعب التفريق بينهما يتداخلان ويتعايشان معا، صوت يصور جانبا من أحداث واقعية من وجهة نظر طبيعيّة عقلانية، وصوت ثان يسرد جانبا آخر من أحداث غير واقعية وقائعها أغرب من الخيال، غير قابلة للتصديق، تتعارض مع قوانين العالم الطبيعي، وليس لها أي تفسير مقنع. وهو في مسعاه هذا في درب الواقعية السحرية، متخطيا بذلك الأساليب السردية الأخرى الأكثر انتشارا في تونس، يعيد التأكيد على التزامه بالقضايا السياسية لمجتمعه، ويظهر المقاومة الكبيرة والقوية لجميع أشكال القمع والظلم التي تمارسها الدكتاتورية من خلال جلّاديها الأشرار، كما أنّه يُظهِر بأمانة الصفات التي يتحلّى بها الضحايا، مضطهدون ولكنهم مناضلون أبطال، عدة أمثلة في الرواية تثبت هذا المقصد، كما هو ممثل في الشواهد التالية: “همّ أحمد التونسي أن يجادل نفسه حتّى كدت أسمع حديثه”(27)، “حين وطأت قدمي القبر سمعت صوتا خافتا يخاطبني كأنّما يعاتبني: ألا تنتبه؟! لم يكن قد غادرني الخوف بعد، فتسمّرت في مكاني ونظرت إلى الرجل فأشار إليّ كأنّه لا يبالي: “إنّه صديقك”. قالها وتقدّم كأنْ لا قبر أمامه، (…) كان صوت الميت يتردد في أذني، (…) جلست إلى الميت أسمعه. قال الصوت المنبعث من القبر ولمّا أعرفه: أحتاج إلى شاهدة على قبري. قلت: لا أحمل شاهدة، وأنا على عجلة من أمري ولا أعرف ما قبرك. قال: أنت الشاهد على قبري”(28). وهذه الروح العجائبية جعلت الرواية خارج دائرة السيرة الذاتية أو الغيرية.
ولا أزعم أنّ المؤلف رائد في هذا الأسلوب الأدبي الذي الذي صاغ مصطلحه الناقد الألماني فرانز رو (Franz Roh)، ويرجعه النقاد إلى الروائي الكولمبي غابرييل جارسيا ماركيز (Gabriel García Márquez)، رغم أنّ الكاتب الغواتيمالي ميغيل أنخل أستورياس (Miguel Ángel Asturias) قد استخدمها قبله في روايته “رجال الذرة” عام 1949، وكذلك الكوبي أليخو كاربنتيير (Alejo Carpentier) في روايته “مملكة هذا العالم” التي نشرت في العام نفسه، أي قبل عشرين سنة من ظهور رواية “مئة عام من العزلة”، وفي تونس، فقد سبق لي أن طالعت هذا الأسلوب في رواية “ريح الوقت” ليوسف عبد العاطي.
في هذه الرواية جمع الكاتب شظايا ذاكرة شخصية رئيسيّة واحدة، استخدمها كأنموذج سياسي للتشريح، وصبّ عليها كمّية وافرة من تفاصيل تجربته الذاتيّة، ثمّ أعاد بناءها في بنية سردية عاطفية مشحونة بالخيبة والغبن لغرض الكشف عن الجانب السيئ من الحياة السياسية بتونس، التعايش اليومي المتوتّر والعنف غير المبرر الذي ميز العلاقات الاجتماعية والسياسية زمن حكم “بن علي”، لفترة امتدّت لعقدين من الزمان. من خلال هذه الشخصية الدمية التي تجسّد جملة أفراد الجماعة الإسلامية المعارضة لتوجّهات الحكّام الجدد للبلاد، وفي سياق الرواية، عمد المؤلف سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، بصراحة أو بالإيحاء والرمز، بصورة مستفيضة موسّعة أو بطريقة التلميح والإشارة، إلى محاكمة الأنظمة الإستبدادية المتعاقبة التي ورثت المستعمر لغته، وممارساته القمعيّة ومظاهر التخلف ووقفت حارسا لمعبد هويته الثقافية ومصالحه الإقتصادية، تذود عنه بقوّة وتنافح من أجل تحطيم الهوية العائق في تصورهم أمام التقدّم، ولا يعلمون أنه هم العثار أمام تحقيق التقدّم التكنولوجي للبلاد ونهضته العلمية، وأنّهم معضلة تواصل إستغلاله في ثوب احتلال خفي، بدل الإحتلال الصريح المكشوف بواسطة العسكر، كل شيء تقوم بها الدولة يتحدث بلغة المستعمر، ولا يمكن التحرّر من الانفصام اللغوي وإنهاء استعمار العقل و”التطهير اللغوي” دون أن يتمّ قطع الحبل السرّي الموصول بين تونس المغتصَبة ومغتصِبها السابق، لأن اللغة كانت الأداة الفعالة في خلق هوية هجينة وازدواجية اللسان، ووسيلة النفوذ المستمر للقوى الاستعمارية في مرحلة ما بعد الاستقلال، وأساس القهر النفسي وإدامته المتعمدة، فالشعوب المغلوبة التي لا أصل لها هي التي تشعر بالدونية وتتخلى عن لغتها الأم من أجل لغة شعب ما. كان التوجّه العام بعد الاستقلال وتركيز الدكتاتورية هو إتقان اللغة الفرنسية وجعلها مدرج ارتقاء إجتماعي ومفتاح المناصب والمكانة، لقد كانت ممارسة الأنظمة المتعاقبة في تثمين لغة المستعمر على حساب اللغة الأمّ وتفضيل أولئك الذين يستطيعون التحدث بلغة أعجمية على مواطنيهم ممارسة استعمارية، وإلى اليوم لا تزال تلك الممارسة مستمرّة حتّى إنّ أحدهم لم يعد يهتمّ بارتكاب الأخطاء في لغته الأم ولكنه يشعر بالغضب بسبب الإساءة إلى لغة موليير.
لم يتوقّف الأمر عند حدّ هوية الشعب اللغوية بل تعدّاها أيضا إلى هويته الدينية والوطنية والثقافية، فقد تعرّض الإسلام إلى التهميش وتمّ عزله من جوانب حياتية كثيرة، واستهزئ بالمواطنات المحجبات واعتُدِيَ عليهنّ بنزع أغطية رؤوسهنّ باعتباره مصدر تشويه للصورة الإسلاميّة “اللائقة”، الصورة التي شكّلها التصوّر الغربي الاستعماري في أذهان المستبدّين.
في مقاله، حول رواية كاميلا شمسي “نار الدار”، المنشور في موقع التواصل الإجتماعي الأمريكي المخصص للباحثين، “Academia.edu”، توسّع سركان حمزة باغلاما (Sercan Hamza Bağlama)، الأستاذ بكلية العلوم والآداب، قسم اللغة الإنجليزية وآدابها بجامعة تشاناكالي التركية، في شرح مفهوم “مسلم المنزل” الذي اجترحه حميد دباشي، المؤرّخ والفيلسوف الإيراني مستندا إلى مصطلح “زنجي المنزل” الذي أشار إليه مالكولم إكس في خطابه عام 1963 عن نوعين من العبيد: “زنجي المنزل” و”زنجي الحقل”، وإلى اصطفاف “زنجيّ المنزل” مع سيّده ورفض التحرّر من العبودية بسبب الامتيازات التي ينالها على حساب “زنجي الحقل”، يتحدّث باغلاما عن توظيف داباشي لمفهوم “مسلم المنزل” في سياق مختلف جزئيًا، فكما هو الحال مع “زنجي المنزل”، يمكن القول إنّ “مسلمي المنزل” مهيّؤون أكثر من غيرهم لاستيعاب وتبني هويتهم الاجتماعية والثقافية التي قام ببنائها وتشكيلها “الآخر” وتلاعب بها لتناسب القيم الأخلاقية للمركز الاستعماري الجديد، هوية فوق الوطنية بلا خلفيّة دينيّة وثقافية حتى تضمن لهم القبول والاعتراف ولا يضطروا إلى مواجهة المشكلات. وببساطة، فإن كونك مسلمًا لم يعد يمثل مشكلة طالما التزمت بقواعد الإسلام “الصحيح” التي وضعت أسسها وحدّدت ماهيتها الأنظمة الفاسدة بالوكالة عن المستعمر، وعزّزت تفوّق الغرب وهيمنته. وبطبيعة الحال، فإن للفرد المسلم غير المتوافق مع متطلبات الشخصية “المثالية” سيتم تهميشه وتجريمه واستبعاده من المجتمع. ومن هنا، عرّف باغلاما “مسلم المنزل”، على أنه أفراد “مسلمون” مفيدون ينخرطون في نزع الشرعية على نطاق واسع عن قيمهم الخاصة نتيجة لاستيعاب ما يفسر على أنه “حقيقي”، ويخدمون الشكل الحديث من الاستعمار عن وعي أو بغير وعي لمزيد هيمنته السياسية والأيديولوجية والثقافية بسلاسة.
وبسبب عمق الاختلافات والعداوات بين فئات المجتمع، والتي أخفقت الدولة الوطنيّة في استيعابها وامتصاصها، لأنّها لم تكن مستعدة لقبول وتقدير الاختلافات الموجودة، بالإضافة إلى خياراتها المعادية للقيم الروحية في المجتمع، وسلوكها الشبيهة بسلوك “مسلم المنزل” في تصورها للهوية الجماعية أبطلت القيم الأصيلة للشعب حيث أنّها تجد في تمسّك التونسي الأصيل الملتزم بقيم السلف وافتخاره بالتقاليد متحجّرا، وهكذا لعبت في ظهور التيّارات المعارضة واحتدام الصراع المفتوح والخفيّ للرد عليها من خلال أشكال المقاومة المختلفة، سياسيا وفكريا وأخلاقيا وثقافيا، كما هو الحال في الحقبة الاستعمارية.
في القرن العشرين، لعب الحبيب بورقيبة دورًا مهمًا في تقديم الثقافة الاجتماعية الغربية وترسيخها في المجتمع التونسي مستغلا بشكل انتقائي الشاذ من نصوص بعض المتعلمين التابعين غير المخلصين للتعليم الزيتوني الذين لا تأثير لهم في عصرهم فأصبغ عليهم صفة مصلحين وجعلهم مصدرًا للفخر الوطني لتونس الحديثة التي قطعت كل الروابط مع تونس الملكية، كانت الدولة تبحث عن مواردها الفكرية والسياسية والاجتماعية بعيدا عن امدادات تونس الملكية، حتّى جاء “بن علي” وصيا على الدين بشكله الصوري، مرتديا جبّة “مسلم المنزل” رافعا شعار “حامي حمى الوطن والدين” كل ذلك من أجل سحب بساط الهوية الإسلامية من تحت نفوذ الإسلاميين، معلنا بذلك عن دورة جديدة من العنف وعزم كبير على طمس القيم الروحية. ونتيجة لذلك، فقد أبحر الشعب دون صابورة أخلاقية، وعمّ الطغيان والحكم القمعي الصارم، الذي أدّى في النهاية إلى المواجهة بين المجتمع الباحث عن الهوية التونسية المستقرة والأصيلة وبين ثقافة التغريب والإستعمار، بين الأحزاب المؤطّرة لأحلام المثقفين المجنّحة التي تبحث عن كيفية تحقيقها في الواقع المعيش وبين الدولة التي تقطع أجنحتهم لكي لا يحلموا، “لقد أفرغوا الرؤوس من أحلامها الجميلة والكبيرة حين كان هناك أناس يحملون أهدافا كبرى، يحلمون يوما بالعدل والحرية ويعلمون عن فعل هؤلاء النافذين ويرفضونها ويرونهم عدوا وخصما، كان هناك الحزب المؤطر ومعاداة الامبرياليةومحاربة الاستعمار وتحرير فلسطين وإقامة الخلافة وتركيز الأمميّة واتّحاد عمّال العالم، وكان هناك الشعر الجميل والغناء الهادف والشباب الحالم والجامعة المنتفضة ليل نهار، (…) ثمّ إنّ النافذين ومن خلفهم رأو أن يفرغوا الرؤوس من أهدافها ويرتاحوا من صداع يسبّبه لهم خوضها في أمور الدولة، فجعلوا الناس تبعا لهم وأغرقوهم في الوهم، وانفتح العالم فلم يعد للحزب معنى وصار الاستعمار وجهة نظر”(31)
في خضم هذه المعارك السياسية ضد الأنظمة الاستبدادية التي وصلت إلى السلطة في تونس قبل الثورة، يُنظر إلى أحمد التونسي في الرواية على أنّه تجسيد لكل ضحايا الإستبداد، والنموذج المعبّر عن مشاكلهم، يجسّد عناصر المقاومة والتمرّد ضد هويّة المستعمر وسيطرته وفكّ الإرتباط بلغته التي لا تزال قائمة ومستمرّة إلى اليوم، ويجسّد الجلّادون الماضي الاستعماري الذي لا يزال يطارد البلاد والقوّة القاهرة لإدامة الإحتلال والتبعيّة والمصير المظلم للتونسيين. وهو السبب الرئيسي للاضطراب الوجودي والنفسي للمجتمع.
من النقاط المشتركة بين كاميلا شمسي وسمير ساسي أنّ كلاهما يعمل في الصحافة، فهما يثيران أسئلة محرجة للدولة، ويلعبان دور المراقبين، إنّهما صوتان للمضطهدين. وبما أنّ بعض المعلومات مقيّدة بقوانين المنع حيث تستخدم ككمّامة للصحفيين، أو ربّما لعدم وجود متّسع للمساحة المخصصة للنشر في الصحيفة، يلجأ الصحفيون أحيانا إلى كتابة الرواية، فإن لم يكن بدافع مراوغة الرقيب فهو من أجل التوسّع والإستفاضة بآلاف الكلمات في ما سبق نشره بالصحيفة. وفي سياق الروايتين، نجد كلّا من كاميلا وساسي يعالجان القضايا نفسها من زاويتين مختلفتين، قضايا أزمة الهوية والاغتراب للمسلمين بسبب خلفيتهم الإسلامية وصراعهم المستمر للتوافق مع ثقافة غريبة.
في رواية “نار الدار”، تواجه شريحة من الشتات مجتمعًا له بيئة معاصرة تخلو من أي دور يلعبه الدين في المجال العام، وله قيم وأعراف اجتماعية مختلفة عن قيم وأعراف المغتربين، ممّا يدفع بالحكومات إلى أن تكون أُمًّا حاضنة أو طاردة، حاضنة للذين يمحون هويتهم الأصلية ويتبنون الهوية الجديدة، وطاردة للذين يجدون صعوبة بالغة في التكيف والتوافق مع الثقافة الجديدة، فهي تتدخل لوسمهم بالإرهاب والتطرّف بغية الاستبعاد، لكن، في رواية المغتصبون، تواجه مجموعة اجتماعيّة الغربة المقيتة في وطنهم، والأنظمة المتوحّشة التي تسعى جاهدة إلى اقتلاع جذور المجتمع وهويته من واقع الحياة وتجفيف منابع تدينه. وهذه المواجهة أشنع وأبشع وأشدّ وطءًا على الفرد المسلم من تلك التي يعيشها المغترب الوافد، فظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة. لم تسمح هذه الأنظمة للإسلاميين بأن يكونوا جزءًا من أي دائرة عامة، فقد جعلوا مصفاة في المؤسسات والإدارات العمومية لتمنعهم من الوصول إلى أعلى المناصب. هم مواطنون من الدرجة الثانية، مستبعدين لا رابط لهم بالدولة، يتعرضون للإيذاء المتواصل والإذلال والتمييز الاجتماعي من قبل عناصر الدولة العميقة قبل الثورة وبعدها، قبل الثورة حين كانوا واقعين تحت المتابعة الأمنية والمراقبة الإداريّة، يتسترون عن أفكارهم وعقيدتهم من أجل العيش بكرامة دون مضايقات، “كانت تلك حربهم علينا في السجن، وظلّت بعده حين خضعت للمراقبة اليومية في مركز الحرس”(32)، فهم لا يمكنهم أن يكونوا على طبيعتهم إلا في بيوتهم(33)، ومنهم كاتب “الجنرال ذي النياشين المنزوعة والرتبة المفقودة” “الذي مات قتيلا مختنقا بين يدي جلّاده في مكتبه في الطابق السابع وسط شارع المدينة الكبير”(34)، يقول عنه السارد إنّه “لم يكن يعرفه كثيرون فهو في عيونهم جلّاد كغيره من الجلّادين، يلبس قبّعة الشرطة ويتزيّا بزيّهم، ويجوس خلال الديار ويفعل ما يفعله كلّ جلّاد في زمن الجلّادين ذاك، وكان هو يدرك ما يقوله النّاس عنه، ويخفي في نفسه ما لا يبديه لهم، ويبكي حين يختلي بنفسه لعل البكاء يخفف عنه بعض ما كان يثقل صدره. كان شرطيا صالحا، لم يعرف مديره عن صلاحه شيئا”(35) ، كان القتيل صاحب القبر، وكان الجلّاد قاتله ليس كغيره من الجلّادين الذين يبررون جرائمهم الشنيعة بأنهم عباد مأمورون ينفذون ما أمروا به ويتقاضون عليه أجورهم، كان جنرالا ذي نياشين كثيرة تثقل كتفيه و”لم يخض حربا في حياته، ارتقى سلّم الرتب العسكريّة تباعا، كلّما أخلص للدولة منحته رتبة من دون بذل ولا تضحية سوى الإخلاص. جنرال لم يغادر مكتبه ولا ثكنته ولا يعرف حدود الأرض التي يحكمها إلا على الخريطة”(36)، كان الإسلاميون قبل الثورة يدفعون تكاليف توجّههم الفكري الذي يتعارض مع رغبة سدنة الإستعمار الساعين لإدامته، في حرب كونيّة واسعة معادية للإسلام تحت مسمّى “الحرب على الإرهاب”، وهو صراع رَكِبه الإستبداد وحوّل وجهته إلى صراع حماية الشعب والدفاع عنه من مشكل طارئ يسميه “التطرف الديني”.
ولكن كل المعارك تنتهي في لحظة ما وتتبدل حياة المناضلين المنتصرين عقب وصولهم إلى السلطة إلّا ضحايا الإستبداد من إسلاميي تونس فقد ضحوا بكل شيء قبل الثورة، وطلب منهم، بعد الثورة، أن يستمرّوا في التضحية من أجل نجاح المرحلة سيكون لديهم دائمًا شيء ما يضحون من أجله، مهما صعبت الظروف وعظمت المعاناة”حتى لو كانت ظروف معيشتهم بائسة. عندما تم تغيير النظام واسترجع الشعب سلطته من الدكتاتورية ونقلها إلى الإسلاميين، لم يظهر على ضحايا الاستبداد أنّهم باتوا أصحاب السيادة، لم يتغيّر شيئا في أوضاعهم الاجتماعية سوى القليل، فهم ما يزالون يعانون من التحيز والتهميش، يعيشون الوضع المأساوي البائس نفسه، فضلاً عن فقدانهم الشعور بالأمن والراحة، حيث تعمل الدولة العميقة الفاسدة في الإدارة على تقليص طموحاتهم ومنعهم من الوصول إلى أرفع المناصب، ولم تغيّر قيادات الداخلية من طبيعة أجهزتها القمعية، وماطل القضاة في تحقيق العدالة لانصافهم وانتهكوا قدسيتها، ممّا جعل الجلّادون في مأمن من العقاب على جرائمهم المرتكبة. الجلاد ما يزال يأمر لأنه ولد ليأمر، والضحيّة ما تزال خاضعة لأنها ولدت للطاعة. خلف الكواليس أصوات جلدهم سواء كان ذلك داخل المجتمع أو داخل النص، فما الذي يمنع ضحايا الاستبداد من التمرّد وتجاوز القيود السياسية والقانونية المفروضة عليهم؟ هل كان خضوعهم واستكانتهم من جبن؟ لا يعتقد المؤلف ذلك، هو المناضل الإسلامي الذي عرف القمع والسجن وعمل بعد خروجه من السجن في صحيفة حزبية يسارية، عايشهم عن قرب ووعاهم جيّدا، لم يكن صمتهم عن ضعف، بل كان مردّ ذلك إلى إنضباطهم وإخلاصهم المطلق للجماعة، الطاعة العمياء لقرارات حزب غير قادر على تمثيل الأشخاص الذين منحوه السلطة والدفاع عن أعضائه ضد الاضطهاد والتنمر. “قال الدكتور عليان: هؤلاء أناس مرضى لم يحمدوا النعمة وقد منحتهم الدولة عفوا وأخرجتهم من السجون وأكرمتهم، فحاربوها لأنّهم متطرّفون منغلقون، والحل أن يعودوا إلى السّجون بلا رأفة ولا رحمة”.(37) “-يا صديقي، أنت العاقل فينا تسكتني وقد حدثت ثورة في البلاد، ممّا تخاف؟ الناس اليوم أحرار. قال الدكتور عليان: يبدو لك… أنت لا تعرف شيئا. (…) -اسمعني صحوبة (…) صاحبك يتّهمك بتمجيد الإرهاب! (…) -بالعربي يا صحوبة لغة الحاكم هذه الأيّام لغة إرهاب، كلّ شيء يقع يدرجه ضمن الإرهاب، (…) -يا رجل إرهاب!! (…) – أي نعم إرهاب، الآن كلّ شيء يجري في البلد يسمّى إرهابا ويلصقونه بالمتديّنين.”(38)
سيطرت خطابات الفشل وخيبة الأمل على أسلوب الرواية حتّى كدت أسمها بـ «أدب خيبة الأمل». لا يشعر المؤلف بالرضا عن خيانة أهداف الثورة، خيانة الآمال في أعقاب أنظمة ما بعد الاستقلال في تونس، وتوجّهات السلطة التي يشارك فيها الإسلاميون، هناك شعور بالخيانة لملف ضحايا الاضطهاد من المجموعة التي تدير السلطة باسمه وتشاركه نفس الانتماء الحزبي والعقدي. تحت ضغط الخطاب السياسي غير المنضبط المستخدم من طرف خصومهم السياسيين لارباك الجماعة وجعلهم يتردّدون في استخدام سلطتهم، دفع الحزب إلى التضحية بهم من جديد من أجل البقاء في السلطة لتحقيق أهداف أكبر. ومثلما قال الكاتب المغربي في روايته “ثورة الأيّام الأربعة”: “ثورة بلا أفكار تحدث صخبا وتبني أوهاما وتحدث خرابا وتغيّر وجوها، لكنّها لا تمسّ الماضي، بل تقوّيه من خلال تجديده وطلائه بلون المرحلة”، وهذا ما وجده الكاتب في محاكمات الجلّادين وعبّر عنه في نهاية الرواية بالقول: “كنت قد غفوت وأنا أتابع على شاشة التلفاز جلسة للبرلمان يناقش خلالها مستقبل المصالحة الوطنية بين جلّادي الأمس وضحاياهم بعد أن يتصارحوا جميعا، وحين انتبهت من غفوتي رأيت الجلّادين الذين عادوا إلى البرلمان عبر الانتخابات يرفضون…” ، كانت الثورة مجرّد حلم، وكذلك كلّ أحداث الرواية لا شيء حقيقي سوى الشعور بالقهر لتخلّي الجماعة عن أيديولوجية التمرد، ومن هذا المنطلق يأتي اختياره لأحمد بن محمد التونسي كشخصية روائية منفردة يقودها مشاعر العجز والإحباط إلى عالم الحلم والتخييل، على المرء أن ينهض بنفسه ولو في الأحلام لتعديل ميزان العدالة المائل، العدالة المنحرفة عن مسارها بعد تفريغ الثورة من مكتسباتها، على ضحايا الاستبداد خلع ثقافة الضعف والاستسلام وتحقيق عدالة الصقور لا عدالة الحمائم. عليهم أن يعبّروا عن سخطهم من التمشي الذي قامت به جماعتهم في ما يتعلّق بالمصالحة، عليهم أن يقوموا بالضغط لتصويبها على قاعدة “العين بالعين والسن بالسنّ والبادئ أظلم”، بدل الخنوع والسلبية وانتظار عدالة تأتيهم من السماء، المقاومة هي الرد الطبيعي على الظلم والقمع. يجب على أولئك الذين يريدون النضال من أجل الناس وتحريرهم من الظلم أن يحقّقوها لأنفسهم أولا، فالظلم شر، فلا ينتظروا التدخل الإلهي لتحريرهم منها، من واجبهم أن يدفعوا الأذى عن أنفسهم ولو بأكل لحم مغتصِبيهم الأشرار. حيث يجب عليهم أن يحوّلوا حزنهم وغضبهم إلى رغبة في القتل، بعد فشل إعادة بناء المواطنة الجميلة وعلاقة طيّبة بين الفرد والدولة. التحوّل إلى ذات متطرفة خارجة عن القانون إلا قانون المعاملة بالمثل.
الإيمان الظاهر بعدالة السماء، من خلال حركة الشفاه تردّد أدبيات المسالمة والتسليم: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”، “عند الله تلتقي الخصوم”، لا يمكن أن يمنح النفس الراحة الكافية لتعيش حياتها دون حمل ثقيل من القهر، سوف تطاردها مشاعر الغضب والألم والغليان تحت نار الانتقام، وسوف تحلم دائما صيادا قاهرا بدلا من مطارد مقهور، أن تكون ذئبا مفترسا بدلا من نعجة فريسة ، وقد قيل “وحدهم الحمقى والمنظرون يتصورون أنه يمكن التعامل مع مجتمعات الفاسدة بالقفازات أو بالعصي الطويلة”. أحمد التونسي الذي يحمله الظلم في رحلة من الإعتدال إلى أقصى مستوى التطرف، هو ثورة نفسية لرجل مقهور يجمع بين الألم الحاد والانتقام، يقول السارد: “لم أنتظر طويلا لمحت الرجل يخرج من طيّات ملابسه سلاحا (…) وانطلق نحو الجلّاد ولم ينتظر، وأفرغ رصاصته في جسده ولم يسأله أيّ سؤال، ولا ترك له وقتا للكلام أو السؤال، لقد كان يفرغ غيظه.”(39)
بهذا الفعل العنيف أخرج المؤلف أحمد التونسي من عجزه وحمل بطله إلى ضفاف الارهاب والتطرّف، حوّله إلى إرهابيّ قاتل، فمن الذي أفسد طبيعة هذا الشخص الطيب وشجّعه ليكون شخصية شريرة قاسية غير متسامحة، هل حقّا المؤلّف أم عنف الدولة؟ ولأيّ غرض؟ وهل بهذا الأسلوب يمكن إثارة تعاطف القرّاء مع قضيّته؟
يوضح سمير ساسي في رواية المغتصبون أن الأمور إذا بلغت حدّها انقلبت إلى ضدّها، والمظلوم العاجز عندما تخونه القوة يلجأ إلى حلم اليقظة والتمرد داخل النفس لتحقيق عدالته الافتراضية خارج القانون، وذلك من أجل تدمير الغضب، وخلق نوع من التوازن النفسي الداخلي، خاصة عندما يصطدم نضاله وتضحيته بصخرة المتاجرة بقضيته في عملية احتيال سياسية معقدة بدت فيها الأحزاب وحكومات ما بعد الثورة تلهو بحقوقه، قضاة خلال المحاكمات غير جادين في إجبار الأشرار على إظهار الندم على أفعالهم كنوع من أنواع التطهير الرمزي والانتصار المعنوي لأصحاب المظالم، فقط بسبب هويتهم المختلفة. جميع المشاركين في لعبة التسويف مستفيدون بطريقة ما رغم فظاعة الجرائم. لا يوجد تضامن حقيقي لنصرتهم. وبالرغم من أنّ الأشخاص المضطهدين لديهم درجة تحمّل عالية، إلّا أنّ كوابيس الذاكرة التي تطاردهم ليست كاسرة للانفلاتات وارتكاب الجرائم، والمقصود من هذا التحوّل هو التعبير غير المباشر عن الجوانب النفسية الخفية للضحايا، والكشف عما يكمن في نفوسهم من رغبات مكبوتة، وإبراز أدوات السلطة السياسية في صناعة التطرّف والإرهاب وإعادة إنتاج الظلم وصناعة الشرّ وتوليده وتكاثره، فالعنف يولد العنف بالتأكيد.
في هذا البناء السردي المقطّع والمتناثر، حيث تمتزج فيه المواد التاريخية بتجارب المؤلف الشخصية، وتتداخل فيه اللغة والأيديولوجية بشكل فنّي أنيق، وقائع الأحداث التي تم سردها لم تحدث فعليا أبدًا، كان إرهابا نقيّا تلاشى مع استفاقة السارد من حلمه، مجرّد تعبير عن الرغبات الكامنة في النفوس، وتداعيات العقل الباطن المقهور الذي يرفض كل أشكال القمع والتسلّط في الواقع المرفوض، ولكن كان من الممكن أن يحدث بطريقة أو بأخرى، ولذلك يلفت الكاتب الانتباه إلى خطورة المظالم التي تكمن وراء التطرف، والعلاقة بين التمثيل والواقع، والتأكيد على أنّ تطرف الدولة الواضح قد يكون السبب وراء مأساة أحمد التونسي وتطرفه. تتجلّى هذه المأساة في الشاهد التالي: “وتزاحمت في ذهني صورتي معلّقا على طاولة التعذيب مرّة أخرى، الجلّادون يحيطون بي ويسألونني لماذا قتلت، وكيف وينتقمون لزميلهم ويثأرون ممّا لحقهم بعدما وقع في البلاد ما وقع. كان مرعبا أن أسمع سخريتهم والعصا تنزل على جسدي وهم يردّدون (…):
– وأين حديثك على القانون والنظام والدولة؟
– لا يوجد قانون ولا نظام إن كنتم أنتم من تسيطرون عليه، ولم تتحرّر الدولة منكم على الرغم ممّا وقع في البلاد.
تنطلق ضحكات من كلّ زوايا غرفة التعذيب، وأسمع صوتا خشنا يسألني:
– وما الذي وقع في البلاد؟
– ثورة… نعم، لقد وقعت ثورة.
وتتعالى الضحكات، ثورة… ثورة… ثورة…، تتزايد ضحكاتهم وتنفجر كلمة “ثورة” من أفواههم، يقولونها بألسنة ساخرة حتّى كأنّني صرت أرى الحروف تغطّي المكان وتعذّبني بدلا من عصيّهم”(40)
ختاما، في رواية سمير ساسي، تم تقديم ضحايا الإستبداد والفساد السياسي بنجاح من خلال مثال الانتهاكات المسلّطة على أحمد التونسي وعائلته، وعلى نماذج أخرى من الضحايا الإسلاميين، مبرزا المؤسسة الأمنية كأداة للتعذيب من قبل الدولة القومية، دولة ما بعد الإستعمار، على نفس وتيرة المستعمر الفرنسي أو أشدّ، مشيرا إلى أنّ الوضع السياسي بعد الثورة لم يتغير، فقد عاش الذئب والحمل معًا، دون أن يقع سدّ الفجوة العميقة بين القوانين القائمة وتطبيقاتها على أرض الواقع، ولا أن يجفف مستنقع الاستبداد الذي نجح في خلق شخصيات متطرفة وعنيفة حيث تواجه الشخصيات التمييز والظلم وفقدان الهوية. إن المغزى السياسي والاجتماعي لهذا المنجز السردي هو أننا يجب أن نتذكر الماضي وتوثيق مآسيه ونقلها إلى الأجيال القادمة حتى لا تتكرر، فالتوثيق هو أحد الأصول الأساسية في هذا العمل يتم تقديمه بشكل سردي جيد. والرسالة الأهم تقول إنّ الظلم لن ينتهي إلا إذا قام المظلوم على ظالمه وانتفض، لأن وضعه الكارثي لن ينتهي من تلقاء نفسه، بإرادته فقط يمكنه وضع حدّ لكل ألوان الضيم والإذلال.
————-
الهوامش:
(1) العنوان يكتب ويقرأ بفتح الصاد وكسرها ليحيل على اتحاد الفاعل والمفعول به وافتراقهما في الآن نفسه، ط1 ماي 2023، ميسلون للثقافة والترجمة والنشر 2022.
(2) باحث جامعي وروائي وإعلامي تونسي من مواليد 1967 بمدينة قفصة بالجنوب التونسي حاصل على الدكتوراه في اللغة والآداب والحضارة العربية من جامعة تونس 1. عضو مخبر البحث “الظاهرة الدينية في تونس” بجامعة منوبة. من مؤلفاته “مشروعية السلطة في الفكر السياسي الإسلامي المواطنة بين الديني والسياسي عند برهان غليون”، “برج الرومي أبواب الموت” (رواية 2011)، “خيوط الظلام” (رواية 2010)، “بيت العناكش” (رواية)، “سفر في ذاكرة المدينة” (مجموعة شعرية)، “الدعاء والسياسة تحرير الفضاء العام في الإسلام”، (ميسلون للثقافة والترجمة والنشر 2022)
(3) Snyder, Richard Carlton; Roots of Political Behavior: Introduction to Government and Politics. P10.
(4) المرجع السابق.
(5) لانسلوت Lancelot ou le Chevalier de la charrette، رواية نثرية من القرن الثالث عشرمن تأليف كريتيان دي تروا (Chrétien de Troyes).
(6) مارتن أوريل، أسطورة الملك آرثر، 550-1250 (2007)، بيرين، 2018، ص. 337-489.Martin Aurell, La) Legende du roi Arthur, PERRIN مارتن أوريل (من مواليد 23 فبراير 1958 في برشلونة)، هو مؤرخ من العصور الوسطى من أصل إسباني متخصص في بلانتاجينيتس. حصل على الجنسية الفرنسية عام 1992. La Légende du roi Arthur, Paris, Perrin, 2007, Prix Bordin 2008 de l’Académie des inscriptions et belles-lettres)
(7) نشرها بجريدة مرشد الأمة سنة 1910، راجع ملف الرواية التونسية في الموسوعة التونسية المفتوحة- من انجاز بيت الحكمة متاحة على الأنترنيت. مع الإشارة إلى أنّ روايتي يوسف عبد العاطي “غروب الشرق” و”ريح الوقت” قد نسبتا في هذا الملف لغير صاحبهما.
(8) نُشرت منها فصول قليلة بجريدة “أبو نوّاس”، انظر المصدر السابق.
(9) نشر كاتب هذه السطور، عام 2009، رواية “العوالق” وهي تعالج قضية المراقبة الإدارية للمناضلين الاسلاميين، ومنعت رواية “البرزخ” لسمير ساسي من النشر في تونس.
(10) سمير ساسي، المغتصبون، ط1 ماي 2023، ميسلون للثقافة والترجمة والنشر 2022، ص5.
(11) المصدر السابق، ص12.
(12) المصدر السابق، ص12-13.
(13) المصدر السابق، ص13.
(14) المصدر السابق، ص8-9.
(15) المصدر السابق، ص9-10.
(16) المصدر السابق، ص23.
(17) المصدر السابق، ص31.
(18) المصدر السابق، ص10.
(19) المصدر السابق، ص24-25.
(20) المصدر السابق، ص20.
(21) Le silence de la victime. Y Matarazo no llamó… roman noir, roman politique, Lucia Melgar
(22) سمير ساسي، المغتصبون، ط1 ماي 2023، ميسلون للثقافة والترجمة والنشر 2022، ص21.
(23) المرجع السابق، ص 74-75، والمتحدّث عنه هو المهندس كمال المطماطي، ذكره المؤلف بالاسم، و نشر كاتب هذه السطور حوله قصّة “الجسر”، ضُمنت في مجموعته القصصيّة “الفتاة الإنسوب”حول هذه الضحيّة، نشر كاتب هذه السطور قصّة “الجسر”، ضُمنت في مجموعته القصصيّة “الفتاة الإنسوب”.
(24) المصدر السابق، ص22.
(25) المصدر السابق، ص26.
(26) المصدر السابق، ص39.
(27) المصدر السابق، ص15.
(28) المصدر السابق، ص85-87.
(29) Sercan Hamza BAĞLAMA, KAMILA SHAMSIE’S HOME FIRE: NEO-RACISM AND THE ‘HOUSE MUSLIM’.
(30) راجع الفصل الرابع من كتاب حميد دباشي “بشرة سمراء، أقنعة بيضاء”.
(31) سمير ساسي، المغتصبون، ط1 ماي 2023، ميسلون للثقافة والترجمة والنشر 2022، ص114.
(32) المرجع السابق، ص129.
(33) حول مسألة التخفّي راجع ما كتب عن شخصية نور الدين، سائق الجنرالات في المؤسسة العسكرية، في أحد فصول رواية “كسر شرّ، ما لم ينشر بملفات الهيئة” لكاتب هذه السطور.
(34) سمير ساسي، المغتصبون، ط1 ماي 2023، ميسلون للثقافة والترجمة والنشر 2022، ص89.
(35) المرجع السابق، ص89-90.
(36) المرجع السابق، ص92.
(37) المرجع السابق، ص137.
(38) المرجع السابق، ص134-135.
(39) المرجع السابق، ص101-102.
(40) المرجع السابق، ص103.