يقول نجيب محفوظ في حوار مع محمد سعد، أجاب فيه عن مائة سؤال ونشر على صفحات [“الإذاعة والتليفزيون” فى عددها رقم 1871 الصادر بتاريخ 23 يناير 1971]:
“لا أعترف بأدب ينتجه العقل وحده، ولا أعترف بأدب تنتجه عاطفة وحدها..
الأدب الكامل هو التعبير عن الإنسان بكليته”
* استهلال :
بعد عدة منتجات سردية متشابكة كميا ونوعيا في مجال القصة القصيرة، أبدع فيها الأديب الألمعي الاستاذ متولي، من حيث انتشال الأفكار الجريئة النابعة من أصالة الواقع ” الدمياطي” كبيئة وفضاء فسيفسائي لأنماط شخصيات مجمل القصص القصيرة التي أتحفنا القاص طيلة مساره الحكائي، حيث ندرك من الوهلة الأولى أن التطور السردي الاطرادي هو بمثابة تراكم فكري لنسق وأسلوب فلسفي يتخد من المدينة وأحياءها و ساكنتها الأصيلة عنوانا مرجعيا ينهل منه الأديب… ولذلك فرقعة الشطرنج التي تتحرك الشخصيات فوقها في عالم الاستاذ متولي لا غرارة أن تكون البيئة المصرية العربية وخصوصا البيئة الدمياطية.
لذلك جاءت رواية ” شعبان قي خبر كان ” كامتداد لتشبت الروائي بعالمه الذي يحمل هموم ومشاكل و طموحات وٱمال فئة عريضة من هاته المدينة .
** سميائية الغلاف والعنوان :
1. الرواية :
الرواية من الحجم المتوسط، تتكون من 148 صفحة صادرة عن دار أماراجي العراقية للطباعة والنشر، طبعة 2023
2. الغلاف :
الغلاف من تصميم الفنان م. حيدر الأكرم وهو صورة معتمة لشخص ( البطل ) ملتقطة له وهو في حالة جلوس على كرسي واحدى يديه موضوعة على الجبين كناية على حالة التشردم والتيه و التوهم بالتفكير في مستقبل مبهم.. بينما اليد الأخرى مفرودة لتلتصق بالركبة وهي شبه مقبضة للدلالة على قلة الحيلة و انتفاء مايمكن التمسك به..
– فضاء الصورة :
يمكن أن يكون حديقة أو محطة للإنتظار، وقد تشكلت الخلفية باللون الأزرق الفاتح المائل للون الليل والظلمة، بينما تلونت صورة الشاب بالاسود القاني الغامق.. وهذه التشكيلة المتباينة للألوان باختيار اللون الأزرق وتدرجاته، عبرت بدقة ووضوح عن العالم المثالي للشخصية بارتدادتها المتوهمة و الغير المحظوظة.
– العنوان :
كتب عنوان الرواية فوق الصورة باللون الأبيض.. وهو كما أسلفنا اتساق منطقي مع تدرجات الألوان التي اختارها المصمم.
* التكتيك الايقاعي:
1. العتبات :
– العنوان :
” شعبان في خبر كان ”
من المألوف أن حسن اختيار العنوان المصاغ هو بمثابة اللبنة الاستيطيقية التي تخلق الاغراء والدهشة لدى القراء، فتشكل عصب الحياة التي تدور رحاها حول متن النص او الرواية، فالعنوان هو ذلك العتبة الاساسية والمهمة التي تكشف النص او تبقيه مبهما. وقد أفرد رواد النقد الادبي بمختلف مدارسهم مباحث نظرية وتوسعوا في التنبيه او الاشادة الى ضرورة التركيز و البحث والتنقيب والابداع لاختيار العنوان الأجدر للمتن السردي. حيث نجد أن جيرار جينت يؤكد أن للعنوان أربعة وظائف هي: الإغراء، الإيحاء، الوصف، التعيين.[Gérard Genette. Seuils. Ed. Du seuil. Paris 1987. 80]
— فالعنوان لدينا مكون من جملة قصيرة من مبتدأ هو اسم علم وخبر شبه جملة من الجار والمجرور..
ولنعد لاختيار اسم البطل ” شعبان ” وهو كناية عن الشهر الهجري الثامن بين رجب ورمضان وقد دأب العرب على تسمية ابنائهم تيمنا به لارتباطه الوثيق ببيئتهم الصحراوية لكونهم كانوا يتشعبون ويتفرقون بالصحراء طلبا للمياه لشدة الحر..
الشطر الثاني هو عبارة عن شبه جملة : ” في خبر كان ” :
أسلوب متواثر بين الناس مرادف للفناء والماضي وانقضاء الحدث و الايحاء بالزمن الغابر المنقطع عن الحاضر والمستقبل..
فهل تمكن الرواي بتشكيل الصيغة المعنونة من الجمع والدمج بين الدلالات الأربع لتحقيق الغاية المنوطة والمتمثلة في الاغراء، الايحاء، الوصف والتعيين ؟ اظن ذلك وهو ما سنحاول تبيانه لاحقا..
2- الاحداث والوقائع :
– الفضاء :
يتشعب الفضاء بتشعب الاحداث المرتبطة بسيرورة الرواية، و بالتفاعلات الديناميكية للبطل. حيث نلحظ منذ البداية ارهاصات التشكيل البانورامي للمكان حيث ترتبط مغامرات الشخصيات المرتبطة بالبطل بالتحول والانتقال من الهامش الى الساحة او الحقل المديني ( نسبة الى المدينة ) .. فبعد عدة تعثرات تصدم بها الشخصية الرئيسية داخل (العالم المغلق ) وهو هنا الحارة او التجمع الهامشي الشبه الريفي : العمل بالنجارة، او بالافران او الصباغة … ( حرف واشغال مرتبطة بتجمعات سكنية متقاربة ) ستتحول المغامرة الى التوجه لفضاء مفتوح قصد البحث عن فرص أرحب ( وهنا بالرواية الانتقال لاكتشاف حياة جديدة بمنطقة حرة : ببورسعيد او راس البر.. ) مما يضفي على الفضاء صيغة ” أدب الديستوبيا “…
فمن خلال وصف و تصوير دقيق للامكنة التي شكلت مسارات البطل و تحركاته فيها، سيتضح مدى التعاسة والشقاء التي يعاني منها جل المحيطين به ( حيث تمكن الكاتب من تصوير شغف شعبان بشراء ” شبشب ” لأبيه الرجل الكادح بمثابة حلم تحقق..)
-الزمن:
من خلال قراءة الرواية، والغوص في احداثها، يتضح جليا ودون مكاشفة بان زمن الاحداث ممتد بالفترة التي تلت الغزو الامريكي للعراق، وما أعقبها من وقائع وأحداث، أثرت بشكل ملموس وظاهر على الأحوال الاقتصادية والاجتماعية لمواطني المجتمعات العربية، وهنا مواطني مدينة دمياط، حيث نستشف من خلال حوار هامشي وقع عودة من كانوا يشتغلون هناك الى أوطانهم.. وما تلى ذلك من أزمة ( ارتفاع الاسعار، انعدام فرص الشغل.. ) وقد صور الكاتب تلك المعاناة تصويرا سينمائيا عندما توقفت عدسة التصوير المشهدي لتلتقط أطفالا يأكلون من أكياس قمامة، في مشاهد تراجيدية، وكذلك عندما وصف تجمعا لمواطنين قادمين من منطقة الصعيد وهم يفترشون الارض في الميدان، همهم كسب قوتهم مقابل خدمات أعمال شاقة ومضنية…وهي الفترة التي يمكن تحديدها في ٱواخر القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة..
3. الشخصيات
مسرح الأحداث مرتبطا ارتباطا جوهريا بتموقع الشخصيات، وهو مايسم الروايات الواقعية، شخصيات تتسم بالبساطة و التواضع، وحب الخير، وهذا من مميزات الواقعية الاشتراكية، حيث تطل علينا شخصية البطل شعبان بانكساراتها وخيباتها المتواصلة باحثة عن منفذ جانبي، وسط موجات عراكية مع الحياة، محاولا انتشال أسرته من الهامش.. عن طريق التدرج و الانتقال بين حلقات ومسارات مضنية، لتتواصل الحبكة المستعرة للرواية أمام المصادفة البغاثية للبطل بتواجد الصناديق( الكراتين ) امام مبنى المحافظة، في مشهد سوريالي يأتيه صوت داخلي ينبهه الى عبثية الواقع وأن كل مايراه هو مجرد خداع ” فالصو ” لذلك عمل على تمويه القدر الذي أوجده في الزمان والمكان ليحدث تأثيرا في معادلة الحياة، ويستغل الفرصة و يأخد الكراتين و يكتشف ما تكتنزه من أسرار ليسعى الى استمالتها لصالحه ويحول الفشل الذي لازمه طيلة ثلاثة عقود لشبه معجزة ينقذ به رأس المحافظ من الاقالة و يتمكن من تطبيب والده و يضمن وظيفة و مكانة اجتماعية محترمة…
اما فيما يخص الشخصيات المحيطة، فهي كما أسلفنا تدور في فلك الشخصية الرئيسية ( الاب عبد العظيم و الام والعم برقوق زميل الاب في المقهى ) بدرجة أعلى ، و(ابن الخالة رضا و المحافظ بهاء الدين طاهر، والسائق سليم و الزوجة والابناء ) بدرجة أقل.
شخصيات ساهمت في تفاعل الأحداث و نقلت صورة واقعية عن البطل الذي ظل وفيا لنهجه الاستكاني للقدر بخيره وشره، و لما تغيرت الوقائع حاول السير بمحاذاتها و العمل على تحقيق التوازن الطبيعي في نسخة قوية ( لابن البلد ) الذي تهمه سعادة الطبقات المسحوقة و يكد من أجل العدالة الاجتماعية..
– الملاحظ ان الرواية انتصرت لقيم لشخصية البطل العادي ابن البلد حتى لما حاول الاقتران بقتاة من المجتمع الراقي ( ريم ) والتي فارقته عند أول اختبار عندما فقد تلك الحظوة لما تعرض المحافظ لمحاولة القتل، و فكت الارتباط به.. وهو تصوير لفكرة جوهرية مفادها أن لكل طبقة أناسها، وان صاحب دبلوم فني تجاري لا يمكنه ابدا الاقتران بواحدة محامية لها شهادة عليا..
فبرع في اختيار مسرح أحداث رواياته، وفي رسمه شخصياتها، وسبر أغوارها دون التوقف عند ملامحها الخارجية، بل غاص داخل أعماق الشخصية وعقلها، ليصفها من الداخل، عن طريق تقنية “تيار الوعي” التي اشتهر بها، فضلًا عن إبراز أدق خلجات الشخصية، من خلال أحلامها ورغباتها المكبوتة كل هذا وأكثر معروف عنه.
** خاتمة :
رواية شعبان في خبر كان، رواية تستحق القراءة، فقد جعلتنا نغوص في عالم الشخصية، بكل أريحية وتشويق وامتاع، بلغتها السلسة وأسلوبها البسيط، فأشركتنا في أحداثها و و صراعات شخصياتها، فتعاطفنا مع مجرايتها، وكأننا أمام سيناريو فيلم سينمائي حيث تتعدد زوايا الرؤى، و تقترب او تبتعد لتصور لنا لقطات درامية متشابكة قوامها الانتصار للمثل والقيم السامية للعدل والكرامة و العيش الكريم..
فهي فعلا تأريخ أدبي من مخيال الكاتب لحقبة زمنية ( قبل ثورة يناير )، حيث بدأت تتضح ارهاصات القطع مع سلوكيات الفساد و الرشوة، وقد استطاع الكاتب الاشارة اليها ولو بشكل مرموز من خلال تصوير متكامل لأسرة ريم ( الاسرة المتدينة ظاهريا ) والتي تحاول التقرب من مراكز القرار لتنفيذ أجندات سياسية مبهمة .. وكذلك عندما تطرق الكاتب للتغيير الذي يمكن احداثه عبر تقديم الدعم والمساعدة للرجال الاكفاء ( المحافظ ) حتى يتمكنوا من تطهير المجتمع من الٱفات والظواهر السلبية.
على العموم رواية واقعية ماتعة، نجح الروائي متولي بصل باستحقاق لشدنا لمتابعتها عن كتب عبر التشويق و المشهدية العالية و الحبكة المتصاعدة ، و جعلنا نعود للرواية مرة اخرى لنفهم كنهها، والحديث هنا عن القفلة والنهاية الغير المتوقعة : حيث جعل الحلم يبدو ككابوس يتأرجح بين الخقيقة والخيال، وهل فعلا أن صيرورة البطل وتمكنه من استمالة عطف الوالي والزواج والانجاب ومن تم التعرض لمحاولة الاغتيال هو فعلا حقيقة أم أوهام شعبان الذي ربما كان في غيبوبة منذ تعرضه للغرق في بداية الرواية ؟!